إمبراطور روماني من المدينة المجاورة لتدمر والعملة التي سكها
كان طريق التجارة المباشر بين تدمر وسواحل المتوسط يمر بإيميسا (حمص الحالية) المجاورة لها، والواقعة على حافة البادية ثم عبر وادي العاصي، وقد اشتهرت حمص بعبادتها لإله الشمس سول (إيلاجبل)، ولأن عدداً من الأباطرة الرومان من السلالة السيفيرية في القرن الثالث الميلادي ينحدرون من العائلة الكهنوتية آل شمسيغرام، ولقد أشار سيريغ من قبل إلى أن هناك علاقات تاريخية متبادلة بين المدينتين، كما ساعد استلام الإمبراطور الروماني أورانيوس أنطونينوس مقاليد السلطة وإقامته في حمص على إمكانية المقارنة بين المدينتين المتجاورتين. والمصدر الوحيد الذي يسمح بالتعرف على حكم هذا الإمبراطور هو النقود التي سكها باسمه. والمعروف منها متفرق حالياً في أنحاء مختلفة من العالم، وأعطت هذه النقود على الرغم من صغر حجمها، معلومات هامة، لم تكن معروفة سابقاً، عن حضارة المدينة المجاورة لتدمر، الأمر الذي يؤكد من جديد أهمية النميات كمصدر مهم لدراسة التاريخ.
1ـ عملة المدينة:
سكت معمّرة حمص عملة برونزية مشابهة للسيستيريات (Sestertii) الرومانية، تمجد الإمبراطور وتحمل على وجهها صورته، وقد دعي هذا الإمبراطور في اليونانية باسم سلبيسيوس أنتونينوس فقط، مع اللقب المعتاد أوتوقراطور وسيباستوس، وعلى ظهر تلك النقود مشاهد متنوعة لمعبد إله الشمس الرئيسي، يظهر فيها نصبه قائماً داخل المبنى، ونجد قطعاً مماثلة سكت في عهد كركلا وإيلاجبل، إلا أن أهمية قطع أورانيوس تكمن في أنها تستعمل التأريخ السلوقي، (عام 565)، وهو يقابل عامي 253 و254 بتأريخنا الميلادي، وباعتقادي أنها سكت في خريف عام 253 بمناسبة العام الجديد، وهذا يعطينا تأريخاً مؤكداً للفترة التي حكم فيها هذا الإمبراطور الذي لم يرد اسمه في أي نص مكتوب لوجود نقص في المراجع التاريخية القديمة في منتصف القرن الثالث، فهذه الفترة تتصف بازدياد توتر العلاقات بين الإمبراطورية الرومانية من جهة والفارسية الساسانية تحت حكم سابور الأول من جهة أخرى، وربما كان لوصول أورانيوس للسلطة علاقة بتهديد الإمبراطورية من الجانب الآخر من الفرات، تماماً كما حصل قبل عقدين من الزمن في حالة وهب اللات في تدمر.
2ـ الدراهم الرباعية (التترادراخم السورية):
آ ـ التترادراخمات ذات النسر:
استعمل في سورية، حتى نهاية عام 253م، نوعان مختلفان من العملات الفضية الإمبراطورية من فئة الدينار المزدوج الأنطونياني والمأثورات عليه باللاتينية، ومن فئة الدراهم الرباعية وعليها المأثورات بالإغريقية. وقد سك أورانيوس أنتونينوس النوع الثاني في حمص وحدها على غير ما جرت به العادة من سكها في أنطاكية، وقد كانت هذه العملة في مجموعتين تحمل كلتاهما شكل النسر الإمبراطوري على ظهرها، وفيها شكلان من الألقاب الإمبراطورية، وتميزت المجموعة الأولى بأنها كانت، مثل نقود فيليب العربي، تحمل اسم مكان السك (حمص)، في حين سكت المجموعة الثانية، على ما اعتقد، في دائرة ثانية من دار السك نفسها، تؤرخ في عهد القنصلية الثانية لتريبونيوس غالوس عام 252ـ253. وقد حملت وجوه العملة نفس الأقوال المأثورة في نقود المدينة إلا أنها تميزت بتنوع الصور الشخصية للإمبراطور سواء للملكة بالغار أو ذات التاج المشع، وبعضها ذو أهمية لكونها تظهر توجهات الحكومة الإيديولوجية والسياسية، فالرأس ذو التاج المشع المحمول على نسر والجزء العلوي من الجسم ذو الهالة المشعة المتوجه إلى اليسار الذي يُظهر جانب الإمبراطور الأيمن يرفع يده اليمنى مباركاً أو مصلياً. لقد كان المقصود منها إظهار أورانيوس وكأنه يجسد إله الشمس في شخصه، كما تم إظهار صفاته العسكرية بتمثيله بشكل نصفي متجهاً نحو اليسار وهو مدرع، وبصورة تمثله متمنطقاً بحمالة سيف على صدره، كما يمثله أحدها بشكل مشابه للإسكندر الأكبر وقد عاد منتصراً من القتال، حاملاً رمحاً فوق كتفه، ودرعاً مزيناً بإلهة النصر المجنحة، ويمكن أن نجد صوراً نصفية مماثلة على تيترادراخم كركلا وفيليب العربي في حالات الحروب أو التوتر بين الشرق والغرب، وربما كان الأمر كذلك بالنسبة لأورانيوس.
ب ـ التيترادراخم المعدّل:
أوقفت حكومة روما المركزية في عام 253م، في عهد فاليريان وغاليان، سك التترادراخم ذي القيمة المنخفضة. ومنذ ذلك الوقت، لم تسك سوى العملات الأنطوانينية (ذات المأثورات اللاتينية والوجوه الخلفية المتنوعة) في العاصمة السورية، واضطر أورانيوس، بسبب ذلك، إلى تغيير عملته الحمصية الفضية، وبدّل العملة ذات الدينار المزدوج التي كانت متداولة في كامل الإمبراطورية، وسك تترادراخم جديد، وهكذا جمع بين النطاق الضيق الذي كان التترادراخم السوري القديم ذو الكتابات الإغريقية متداولاً فيه من جانب وبين الصور الموجودة على الوجوه الخلفية للنقود الأنطونيانية المستعملة للدعاية من جانب آخر، وبهذه السياسة ظهر الدافع لإظهار السلطة لأول مرة الذي وجد مثيلاً له فيما بعد في عهد أذينة التدمري ووهب اللات (قبل أن يتخذ لقب الأوغسطوس)، وقد أضيف على هذا التترادراخم المركب كلمة سيفيروس إلى كلمتي سلبيسيوس أنطونينوس الموجودتين على التترادراخم ذي النسر. وهنا تظهر العلاقة مع كركلا وإيلاجبل وألسكندر سيفيروس، فمن الجائز أن أورانيوس كان يمت بصلة قرابة إلى الفرع الحمصي من السلالة السيفيرية حيث كان يعتمر تاجاً مشعاً.
بقي استعمال المأثورات نفسها على الوجوه الخلفية للعملة كما في التترادراخم السابق، إلا أنه تنوع وفقاً لنظرة الإمبراطور السياسية والدينية: ففكتوريا ربة النصر تدل على رغبة الإمبراطور بالانتصار ومونيتا مع الميزان وقرن السعادة تدل على اهتمام الإمبراطور بالعملة الصالحة، وأما فورتونا ربة الحظ فهي تدل على أن الإمبراطور كان غائباً عن حمص لفترة، ربما بسبب الحرب، وتيكه/فورتونا ربة الحظ السعيد كانت ملائمة لكل الأباطرة، وهي في هذه الحالة، مع قرن السعادة الذي تحمله والدفة، قد تعني إترغاتيس إلهة الخصب والقدر السورية كما سيظهر واضحاً في النقود الفضية. وأما العضوان الآخران في الثالوث الإلهي الحمصي فيظهران دون شك وهما أثينا/اللات وتمثل جالسة متكئة بذراعها الأيسر على ظهر كرسيها، وإله الشمس الممثل بجذع شاب ذي هالة فوق هلال. وكلا الرسمين يمكن مقارنتهما بالنقوش التدمرية البارزة رغم ظهورهما بالوضع الجانبي، وينطبق الأمر نفسه على الرسم الخاص بالجمل العربي ذي السرج واللجام، وبرأيي، لا وجود لأية علاقة مع الطراز الخاص بتجارة القوافل أو المواكب الدينية، بل يبدو وكأنه يدل على هجانة الإمبراطور الذين كانوا ـ على عكس وحدات الصحراء الخاصة التدمرية ـ يستخدمون الجمال يتجهيزات خفيفة، ويمكن أن يكون المقصود هو الرب أرصو معبود أولئك الهجانة، لكن، إذا كانت النقود قد سكت تمجيداً له، فلا شك أن صورة أريس رب الحرب كان يجب أن تظهر وذلك مقارنة مع باقي النقود.
3ـ النقود الذهبية:
سك أورانيوس النقود الذهبية الرومانية ذات المأثورات اللاتينية على طراز فولوسيانوس غالوس، في دار السك بحمص. أما مصدر هذه الثروة الكبيرة من الذهب (والفضة) فيمكن أن يكون كنوز معبد الرب سول، وقد صورت وجوه العملات جذع الإمبراطور مكللاً بالغار ومرتدياً درعاً ووشاح السلطة، وتظهر الصور تنوعاً كبيراً في النماذج واقتراباً من ملامح وجه الإمبراطور، وبالمقارنة مع صوره على فئات أخرى يظهر أن النقود الذهبية سكت في بدايات عمليات السك. وتمثل إحدى صوره، وهي من قالب وحيد، جذع الإمبراطور متجهاً إلى اليسار. وقد استعملت لوقت طويل رغم ظهور بعض التشوهات خلال عملية السك، وقد يكون الاستعمال الطويل للقالب هو سبب عدم ظهور اسم سيفيروس على النقود الذهبية، رغم ظهوره على النقود الفضية اللاحقة. وهناك سبب آخر، على ما اعتقد، لشعبية هذا النموذج، هو ظهور جانب وجه الإمبراطور الأيمن وقد ارتفع بحركة شكر وشخصت نظرته إلى السماء، هكذا تم تكريس أورانيوس كإسكندر جديد أو بمعنى آخر كمنتصر على الفرس تماماً مثل كركلا والأباطرة اللاحقين.
تسمي الكتابات عادة الإمبراطور باسم لوسيوس يوليوس أوريليوس سبليسيوس أورانيوس أنطونينوس، وتظهر القوالب كلها علامات على صعوبة كتابة لاتينية صحيحة، وهناك بعض النقاط المهمة تستحق التوقف عندها.
آ ـ استخدم الأمبراطور كنية مزدوجة يوليوس أوريليوس، لعلها اشتقت من عائلة أمه. وقد ظهر الاسم نفسه عند الملكين أذينة ووهب اللات.
ب ـ يدل الاسم أورانيوس على حماية الآلهة في السماء وهو، كاسم سيفيروس وأنتونينوس، ذو دلالة سياسية، كما يبدو أن مثل هذه الأسماء كانت تعطى بعد تكليل الإمبراطور بالغار وهكذا يحصل على اسم آخر قد يكون محلياً، كباقي أفراد السلالة السيفيرية.
ج ـ لم يستخدم أورانيوس أياً من الألقاب الإمبراطورية (إمبراطور ـ قيصر ـ أوغسطس) على هذه النقود الذهبية القادرة على الانتشار في كامل المملكة، وهنا يبدو أن سك النقود الذهبية واتخاذ لقب إمبراطوري لم يكونا مترافقين بالنسبة للحكومة المركزية الرومانية بل أجبرت عليها لسبب أو لآخر تماماً مثل منح الحكومة المركزية بعض الألقاب الملكية الأقل شأناً من ألقاب أباطرة الغرب لكل من الملكين التدمريين أذينة ووهب اللات لقتالهم ضد سابور. ولما لم يكن في حمص مملكة محلية يمكن أن تكون قاعدة لنشاطات سياسية وعسكرية، قام أورانيوس بالدعاية لنفسه كإمبراطور صغير على سورية أو، ربما، على منطقة أصغر رغم الامتيازات الإمبراطورية وشعارها، ولذا لا يمكن اعتبار اغتصابه الحكم مشابهاً لما قام به إيلاجابال السابق له بمدة جيل ولأهداف ذلك النظام وهذا ما يطابق ملاحظاتنا السابقة الخاصة بإبطال أورانيوس لسك النقود الأنطونيانية.
لنفحص الآن الوجوه الخلفية للنقود الذهبية! فنجد أن الدعاية السياسية وعبادات حمص كانا أساس موضوعاتها، وهكذا لم يكن بالإمكان تجنب العبارات المنتهية بلقب أوغستي أو ما شابهها بشكل مماثل للقب سباستوس على نقود أورانيوس الإغريقية. ونجد من ضمن النقود ذات الأساس السياسي في بداية الحكم ما يلي: رومي إيترني (أي الولاء لروما) وسبيس فيكتريكس غير عادي يمكن أن يدل على التنبؤ بصراعات، وأما توقع أحداث عسكرية فتدل عليه فيكتوريا أوغستي المعروفة سابقاً في التترادراخم، ثم ظهرت فورتونا رودكس المشابهة لتلك الموجودة على النقود الفضية ويمكن أن تؤخذ كدليل على غياب أورانيوس عن حمص لفترة من الزمن. ثم ظهرت أشكال تدل على نصر حقيقي حيث تبدو فيكتوريا الأوغستية بشكل آخر وقاعدة تمثال وحولها مأثورة سيكولاريس أوغوستورم (المقتبسة من نقود فيليب العربي) والتي تدل على بداية عهد جديد، وبظهور الأسد ـ الشمس ـ على طراز كركلا ـ اتضح العدو المهزوم إذ تمجد هذه الصور الإمبراطورين كخليفتين للإسكندر. فلا شك أن أورانيوس قد انتصر على الجيش الفارسي، وهكذا وضع أورانيوس جميع مشاريعه تحت حماية آلهة حمص، وقد كان أحد المقترنين بإله الشمس المعروف سابقاً في النقود الفضية، أثينا ـ اللات التي دعيت باسم مينرفا المنتصرة هنا، ويمكن مقارنتها بالمنحوتات التدمرية التي فضلت التصوير من الوجه الأمامي، ففي حمص ارتدت الخوذة الهيلينستية نفسها وحملت درقة الهجانة وكما في حالة العديد من التترادراخم تمثل فورتونا وكأنها القرينة الثانية لسول: أي إترغاتيس وهي أفروديت في مصادرنا، فالآلهة يتم تصويرها وحولها مأثورة فيكويديتاس أوغستي أي مانحة الخصب وفي أحيان أخرى بشكل أبسط، ويبقى العضو الأخير في الثالوث ناقصاً في نقود أورانيوس.
يمثل إله الشمس الحمصي الذي كان خليطاً من الرب شمش العربي وإله جبلي سوري مشابه لحدد، بأشكال عديدة، وهو خاص بحمص رغم أن عبادة الأنصاب (منازل الآلهة) ومواكب الإله في بعض الاحتفالات الخاصة كانت معروفة في تدمر. ويحمل نموذجٌ فريدٌ (توجد عينة منه في متحف دمشق) الاسم الرسمي سول إيلاغابالوس حيث يصور الحجر النيزكي المخروطي الأسود داخل قدس الأقداس بالمعبد محاطاً بمظلات وشمعدانات وأمام قاعدته حوضٌ قد يكون هو أو محتوياته تقدمة للإله، كما يوجد نموذج آخر يمثل الحجر وقد كُسي بغطاء خلال احتفال صيفي كما اعتقد، وهو مزين بالمجوهرات، وبقممه العديدة يشبه تاجاً أرمنياً، ورغم أنه مغطى إلا أننا نعرفه بسبب قاعدته وإحاطته بالمظلات وبسبب الكلمات حوله، كما يمكن قراءة نفس التعبير حامي الإمبراطور على نموذج ثالث يشبه نقود إيلاجبل الذهبية حيث يمثل الحجر المقدس في احتفال آخر، وهو هذه المرة محمول على عربة تجرها أربعة خيول محاطاً بمظلتين، ونجد مثيلاً لهذا الموكب عند عبادة إيلاجبل الإله في روما، ويخبرنا هيروديانوس أنه،وخلال فترة الصيف من كل عام (ويمكن أن نضيف: في الشتاء أيضاً)، كان النصب ينتقل من المعبد إلى معبد آخر، وهذا يمكن أن ينطبق على حالة حمص، فموكب أورانيوس كان بعد زيادة في مردود الذهب الإمبراطوري والمنح الفضية والتي سكت بمناسبة العام الجديد على أساس تقويم تلك الفترة في خريف عام 253، وفي هذه الحالة، يبدو أن النصب قد انتقل من مكان إقامته في فترة الانقلاب الشتوي.
كخاتمة لهذا البحث نورد أن الإمبراطور أورانيوس أنتونينوس وصل على ما يبدو إلى السلطة في صيف عام 253، ونحاه الإمبراطور الشرقي الجديد فاليريان في حوالي ربيع أو صيف 254 كما أعتقد،وتبدو جميع التفاصيل التي أوردتها عن ملكه ونقوده منطقية عندما نعرف أن أورانيوس سيفيروس أنتونينوس كان يدعى شمسيغرام (أي هكذا شاء الرب شمس) وفي هذه الحالة يمكن مقارنته مع كاهن حمصي مزيف قيل أنه مرسل من عند الشمس والذي قيل عنه أنه أخذ المبادرة وهزم بقواته أو بجزء منها جنود الملك الفارسي بجوار حمص، ونجد في كتابات سابور في برسيبوليس أسماء مدن كثيرة شمال حمص احتلها هذا الأخير خلال حربه الثانية ضد روما، لكم لم تذكر حمص ولا مدن أخرى جنوبها، لذا لابد أن هذا الهجوم المدمر من قبل سابور قد تم برأيي خلال عام 253 عندما اعتلى أورانيوس عرش حمص، فلا يمكن لحدثين متشابهين أن يحصلا في نفس المكان خلال فترة قصيرة من الزمن، فقد حصل القتال الأول عام 252 حيث نجد كتابات بسيطة في أفاميا عن الجنود القتلى، ولكن لم يتم سك أي عملة باسم أورانيوس في تلك السنة، ثم حصل قتال لاحق أسقط دورا أوروبوس كما هو مثبت على النقود عام 256م. لقد كانت تدمر كجزيرة وسط بحر هائج فلم تشترك في هذه الصراعات، إن القوافل قد تقوم بعبور الصحراء، لكن جيشاً كبيراً كجيش سابور كان يجب أن يدور حولها.
هانس رولاند بالدوس