معظم القراء يستطيعون القول ان دخلهم السنوي الحقيقي ودخلهم الاجمالي في مجموع سنين حياتهم أعلى من دخل آبائهم، لكنهم اذا تأملوا في الأمر ملياً، هل يمكنهم القول ان آباءهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم عاشوا حياة أقل سعادة من حياتهم هم؟
هناك الآن عدد كبير من علماء الاجتماع والاقتصاديين والفلاسفة الذين يسألون الناس عن سعادتهم الشخصية ويقومون بتوثيق نتائج استطلاعاتهم.وفي افريقيا، التي مزقتها الحروب والأنظمة الدكتاتورية والأمراض المستشرية.
يتوقع المرء ان الناس يعتقدون ان حياتهم بائسة، ووحشية وقصيرة ليس هناك ما هو مدهش في هذا، وبطريقة مشابهة فعندما تكون هناك اضطرابات سياسية وعسكرية في يوغسلافيا وايرلندا الشمالية وأفغانستان.
يمكننا ان نتوقع انخفاضا في معدل الدخل الفردي الحقيقي وفي الوقت ذاته فبإمكان علماء الاجتماع وعلماء النفس توثيق ارتفاع حاد في مستويات التعاسة الشخصية والاستياء الشخصي في هذه البلدان.الوضع مختلف في الضواحي العصرية بأميركا وبريطانيا او فرنسا.
فلا يزال هناك الكثير من الشباب المتمردين بدون مبرر «الذين يعيشون حياة مليئة باليأس والاضطراب. وتؤكد معدلات الانتحار وتعاطي المخدرات على صحة هذه الحقيقة.وباعتباري اقتصاديا متخصصا في الاقتصاد الكلي فإنني أركز الآن على ما يسميه فرويد بالحضارة وأوجه السخط عليها، وتمثل أحد الأسباب الرئيسية للسخط في عملية العولمة نفسها.
ان توسيع نطاق نظام السوق عالميا يفاقم بصور حتمية ما يسميه جوزيف شومبيتر بالدمار الرأسمالي الحميد، وعندما تستورد اليابان أو الصين أو الهند التقنيات المتقدمة من أميركا أو ألمانيا أو فرنسا، فان الأمن الوظيفي في هذه المجتمعات المتقدمة غالباً ما يتعرض للتآكل التدريجي.
هكذا فإن السعادة التي تأتي من النمو السريع في الاقتصادات الناشئة تسبب شكوكا جديدة في المناطق التي لا تزال غنية بصورة عامة. وعلى مدار 4000 عام من التاريخ المكتوب ظل القصور الذاتي للعادي والمألوف يبطيء تأثير التطورات التقنية.
تغير كل هذا الى حد كبير عندما تحولت المجتمعات في كل مكان بشكل متزايد. إلي الاعتماد على آليات عمل السوق القائمة على العرض والطلب. ان الاسواق ليس لديها عقل، وليس لديها قلب. «ما الذي فعلته بي في الفترة الأخيرة؟» سؤال لا يطرحه فقط الرئيس التنفيذي لشركة جنرال موتورز الذي يجد نفسه الآن مضطرا لتسريح 25 ألف عامل .
ومجبرا على عدم الوفاء بصرف التعويضات المنصوص عليها في عقود التقاعد السابقة، فذلك المدير يتلقى أوامره من المليون مالك سيارة الذين تخلوا عن السيارات الأميركية وأقبلوا على شراء السيارات اليابانية. والمحصلة بطبيعة الحال ان الرئيس التنفيذي الذي لا يستطيع تحمل الحرارة في المطبخ سيصرف عن الخدمة ليحل مكانه رئيس يتحمل هذه الحرارة.
وكل هذه الهموم والمخاوف الشخصية كان من الممكن التغلب عليها في الاقتصادات المختلطة التي ازدهرت ديمقراطيا في أميركا في فترة ما بعد البرنامج التشريعي الجديد من 1945 إلى 1980 وفي المجتمعات التي تتبنى النظام الديمقراطي الاجتماعي في الدول الاسكندنافية .
فإن الرغبة الشعبية باستخدام نظام الضرائب وهيكليات الانفاق التقدمية لتقليص درجة التفاوت في الدخل والثروة أدت إلى نتيجتين متعارضتين:
أولا: معدلات الضريبة المرتفعة بصورة مخيفة بدأت تثبط همة المواطنين بصورة خطيرة وتحبط جهودهم.
ثانيا: السكان التعساء في القرن التاسع عشر في أوروبا الشمالية التي كتب عنها ابسن وستراندنبرغ، والذين كانوا محرومين من شمس الشتاء وغارقين في المشكلات الصحية، من تطورا في القرن العشرين، وأصبحوا يصنفون في أعلى القائمة فيها يتعلق بمستويات السعادة الشخصية ومتوسط الأعمار.
ومن المؤكد انه من الصعب تحديد وتعريف الاعتدال المثالي الذي تحدث عنه أرسطو بين نمو الرفاه والاستقرار والصفاء عبر حياة الرفاه والسعادة. وكل هذا ليس مجرد تاريخ أكاديمي قديم. فالركود النسبي في المانيا وايطاليا وفرنسا بالمقارنة مع فنلندا أو أسبانيا أو ايرلندا في الاتحاد الاوروبي وبالمقارنة أيضا مع أميركا يهدد مستقبل الاتحاد الاوروبي نفسه.
ولنتأمل، مثلا، في الوضع بايطاليا فالكثير من الايطاليين يتبنون مواقف مشابهة لمن صوتوا بـ «لا» في فرنسا وهولندا، ولو أجري استفتاء في ايطاليا، فإن الايطاليين سيصوتون على الأرجح ضد الدستور الاوروبي الجديد. ومن المؤكد ان السبب في هذا ليس له أي علاقة بالتفاصيل الدقيقة في نص الدستور.
بل ان مثل هذا التصويت الرافض من شأنه ان يكون فقط انعكاسا لمعدلات البطالة المرتفعة في ايطاليا، والتي في ظل نظام عملة اليورو لم يعد بالإمكان تحسينها عن طريق الخفض الميكافيللي لليرة الايطالية ولم يعد هناك اصلا ليرة للتلاعب بقيمتها.
وخلاصة القول إنه في ظل النمو الاقتصادي العالمي الإجمالي، فإن من شأن العالم بكل تأكيد ان يصبح مكانا أقل تعاسة. لكن من السذاجة الاعتقاد بأن نظامنا الجيوسياسي يسير بشكل تلقائي عفوي في ذلك الاتجاه.