في طفولتي كانت أمي تصفعني بشدة كلما وسختُ ثيابي، ولكنها ذات صباح شدتْني إلى صدرها رغم الغبار الذي غطى جسدي وقالت: " إركض". ركضتُ وهي ركضتْ ، لم نكن نلعب .. كان الصاروخ الذي سقط بجوار بيتنا كفيلاً بأن ُيثيرَ الرعب فيّ، وكفيلاً بأن يجعلها تسامحني لأن الغبار كاد أن يخنقني.
وقتها لأول مرة سمعت بكلمة.. حرب....، ولأول مرة أدركتُ أن الإنسان يموت أحيانا بلا سبب.. كانت الكلاب والقطط أسرع منا في الهروب، أما العصافير فقد سدت مناقيرها وإختبأت بين أوراق الشجر.... ما أذكره جيداً أننا وقبل أن نصل إلى المخبأ تحت بيت شيخ البلدة ، شاهدنا دبابة ، عرفتُ لاحقا أنها دبابة يهودية، دمرت مطحنة القمح الوحيدة في القرية. حينها ونحن ندخل المخبأ، تعالى صوت أمي بالشتائم، وبكت وهي تقول : لقد ذهب منذ الفجر إلى كرم العنب ولم يعد حتى الآن.
الرجال الكبار قالوا بعد يومين من النوم في ظلمة دامسة ، لقد فرَ اليهود من الجولان، ففرحت وجوه ،وسمعتُ إمرأة تقول: " إذن سنزور أولادنا وأقاربنا." ونساء ُاخريات تمْتمْنَ بصوت خافت ابتهالات دينية، لها وقع الموسيقا في النفس، حتى خُيلَ لي أن أجسادَهُنّ تمايلت ،مثل كاهنات المعابد القديمة، وكأن الله تنازل قليلا عن قانون الطوارئ.
مرت سنون وسنون منذُ تلك الحرب، وبقيت نساءُ القرية ُيتمْتمْنَ بالصلاة نفسها، ولكن ولا أياً منهن عاودت السير في الطريق إلى دمشق ، كبرن في العمر وأدركن أن الموت صار يتجول في جدائلهن الشائبة.
اما الله الذي يُحبُنا، ففرجَ كرب العجائز، فجائت البشرى ومفادها كالتالي:
مختار القرية الجديد وأعوانه المُرْتدون ألسنة تنطق باللغات، استطاعوا بعد حث حثيث، فتح الطريق إلى دمشق، دون حرب ودون خيول، ودون شعير ودون سياط .. بالحوار فقط.
وفي هذا العام الموافق، حسب التقويم الميلادي، لنهاية الجزء الخامس من مسلسل باب الحارة، ولإنطلاقة الخيالة فرْمَن المختارُ بياناً فيه يقول :" سيذهبن النساء إلى سوريا وعددهن 220 ".
أمي ليس لها أقارب في سوريا؟ فقط ابنة، وعم وخال، وابن ابن، وابن جارة، وابن حارة. لكنها لم تستوف الشروط، لأنه وبغباء مني سجلت في الطلب المقدم إلى وزارة الداخلية الهذيان التالي: " أمي تريد السير إلى دمشق كما كانت في الماضي تسير، بمرافقة حمار وبغل وحمولة عنب، وبعض من جاراتها من قرية حضر."
وزدنا في الطلب طمأنة: " أمي تعدُ أن لا برق، ولا رعد، سيصادفها في الطريق، ولن تدعي الاتصال بالسماء ولا بالحديث مع الانبياء، ولن تُهدد اليهودَ بنشرِ قسوتهم، حتى أن ظهرها مقوس ومنحني، لا يقوى على حمل الصليب ".
وزدنا القول:" أمي لن تزور المدن القديمة لا تدمر ولا صدنايا ولا أوغاريت، فقط ستمشي إلى دمشق في زقزوق حتى لو كان صغير، لتبيع حمولة العنب ، كما كانت في الماضي تسير".