ترك الرئيس بيل كلينتون لخلفه جورج بوش تقويماً يطعن في جدية الجانب الفلسطيني ويحمّله مسؤولية انهيار مفاوضات كامب ديفيد. ثم جاءت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) التي لم يقدّر الرئيس ياسر عرفات جيداً تبعاتها على الصعيد الدولي، فيما ساهمت العمليات الانتحارية في تقويض سلطته وأتاحت للجانب الاسرائيلي فرصة محاصرته والانقضاض عليه.
في هذه الحلقة يتابع ياسر عبد ربه أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حديثه عن عرفات والمفاوضات ويتوقف عند هجمات 11 أيلول وذيولها. وهنا نص الحلقة الثانية:
> كم مكثتم في كامب ديفيد؟
- حوالي الأسبوعين. وحاول كلينتون أن يوفق ما استطاع لكنه لم ينجح. مشكلة موقفنا انه لم يكن لدينا مقترحات مضادة للأفكار والمقترحات الاسرائيلية.
> من كان مع إيهود باراك من الجانب الاسرائيلي؟
- شلومو بن عامي وزير الخارجية ودان ميريدور واتى به من الليكود وغيرهم كثيرون.
> واللقاءات بين باراك وأبو عمار؟
- التقيا، لكن كان ذلك على العشاء. جلسات اجتماعية أكثر مما هي تفاوض سياسي حقيقي، وإذا حصلت لقاءات فكانت محدودة وبوجود كلينتون، ومعظم اللقاءات مع كلينتون وأولبرايت وجورج تينيت. وسبقت ذلك مفاوضات كنت أقوم بها مع وفد إسرائيلي مقابل، كان فيها شلومو بن عامي ومفاوضات سرية.
> هل أدى هذا الى وثيقة جنيف؟
- لا، هذه جاءت لاحقاً، مفاوضات جنيف لم تكن رسمية، كانت تحضيرية ولم تصل الى نتيجة. كان من الواضح أن باراك لا يريد حلاً. عندما جاء الى السلطة اجتمع مع أبو عمار وكنا اتفقنا مع نتانياهو على أن يخلي نسبة 13 في المئة إضافية من أراضي الضفة الغربية. رفض باراك تنفيذ هذا الاتفاق الذي تم مع نتانياهو، وقال: دعوني أجلس معكم ستة أشهر نتفق خلالها على إخلاء كل الضفة الغربية. لماذا تريدون 13 في المئة؟ حينها قلنا لا، تعطينا 13 في المئة ونتفاوض ستة أشهر على الباقي. أصرّ وعرقل الاتفاق لأنه لم يكن يريد تقديم أي تنازلات. هو لا يقلّ تطرفاً عن نتانياهو في ما يتعلق بالأرض وعدم اقتناعه بأوسلو.
> باراك غير مقتنع بأوسلو؟
- لا.
> ونتانياهو؟
- كان يقول علناً إنه ضد أوسلو، لكن باراك لم يكن قادراً على تجاهل أوسلو لأنه من حزب العمل، إنما كان غير مقتنع به. نحن كانت تنقصنا الاقتراحات المضادة وتنظيم عملنا، بالإضافة الى الفوضى الأميركية في إدارة العملية، بالإضافة الى أن الاسرائيليين ظهر أن عندهم آراء ومقترحات، وبدوا كأنهم إيجابيون.
> عملياً انهارت المفاوضات في كامب ديفيد والأميركيون حمّلوكم المسؤولية؟
- قبل مغادرتنا عقد كلينتون جلسة ختامية مع الوفود الثلاثة. اتفقنا على أن نتابع اللقاءات بعد أسبوعين، على ان تتخللهما لقاءات ثنائية بين الأطراف كي نجسر الهوة ونتغلب على الخلافات، وفي هذه الفترة لا يقوم اي طرف بتحميل الآخر مسؤولية الفشل. غادرنا بالسيارة من كامب ديفيد الى مطار اندروز وحين وصلنا كان كلينتون عقد مؤتمراً صحافياً اتهمنا فيه بالمسؤولية عن فشل المؤتمر، وباراك عقد مؤتمراً صحافياً أيضاً اتهمنا بالتهمة نفسها. نحن لم نرد على التهم، وكان ذلك من أكبر الاخطاء التي ارتكبناها لأننا كنا التزمنا بالاتفاق ولا نريد الدخول في معركة سياسية وإعلامية مع الإدارة الأميركية خوفاً من خسارة موقفها.
> ثم جاء جورج بوش ولم يحصل شيء مع مجيئه؟
- حسب ما قيل كان بوش تلقى تقريراً من كلينتون إن الفلسطينيين أناس غير جديين، فجاء وتعامل بسلبية شديدة مع ياسر عرفات منذ البداية.
> ولم يحصل لقاء؟
- أبداً، لم يقبل رؤيته. وآخر زيارة كانت لعرفات في نهاية 2001 أثناء انعقاد الجمعية العامة (للأمم المتحدة). كانت هناك وعود كثيرة بأن بوش سيلتقيه على هامش الجمعية، أو على الأقل سيسلّم عليه، ومن بينها كانت هناك وعود من زوجة ياسر عرفات التي قالت ان لها صلات أميركية وثيقة بأن يسلّم عليه.
11 أيلول
> وحصل 11 أيلول؟
- هذا بعد 11 أيلول. حضرنا الجمعية العامة وعلمنا أن جورج بوش قال لكوفي أنان وكان جالساً الى جانبه في حفلة استقبال ضخمة في الجمعية العامة لرؤساء الوفود: هذا الرجل (عرفات) يعتقد أنني سأصافحه. عليه أن يصافح نفسه بنفسه. شارك أبو عمار في الحفلة ولم يسلم عليه بوش ورفض استقباله. صافح كل الرؤساء ولم يسلم على ياسر عرفات الذي ازداد توتره أكثر فأكثر. والمشكلة بدأت قبل ذلك. في 11 أيلول شاهدت المأساة على التلفزيون وانتقلت بالسيارة من رام الله الى غزة. كان هناك أبو عمار وخلال انتقالي كلموني على التلفون انه نسب الى تنظيم فلسطيني مسؤوليته عن الهجمات، فاضطررت الى التكذيب ومن دون أن أرجع الى أحد. بعدها صارت التلفزيونات الأميركية تعرض صوراً لأطفال فلسطينيين يوزعون حلوى ويرقصون في الشوارع. المهم وصلنا الى غزة. دخلت الى مكتب ابو عمار وكان يمشي بقلق وكنا وحدنا. قال لي: هذه لا يمكن أن تكون عملية من الخارج، يفترض أن تكون من الداخل. قال انفجار داخلي، لم أفهم، ثم أدركت أن قصده انه ترتيب من الداخل. كان خائفاً من أن يكون مرتكبو العملية فلسطينيين.
> لهذا السبب كان متوتراً وقلقاً؟
- لهذا السبب وحاول إقناعي بأن العملية أميركان بأميركان.
> كأنه يحاول إقناع نفسه؟
- لأن الطائرات ترتبط دائماً بالذهن باحتمال كبير ان يكون وراءها فلسطينيون. نحن متخصصون بخطف الطائرات ونسفها. لذا كان خائفاً من هذا الاحتمال. انا عرضت عليه في حينه إرسال برقية الى جورج بوش فوراً بالإدانة والتعاطف. كتبنا البرقية بسرعة وأرسلها. قلت له ان بوش لديه الآن عشرة آلاف برقية ولن ينتبه أحد الى برقيتك، واقترحت عليه ان يقدم على خطوة رمزية كالتبرع بالدم تضامناً مع الشعب الأميركي ضد هذا العمل الإرهابي. صار يناقشني أنه كبير بالسن ولا ينفع التبرع بالدم. قلت له ان الخطوة رمزية فقط، وسبقته الى المستشفى وأتينا بالجمهور ليصطف من اجل التبرع بالدم واستدعينا الكاميرات واتفقنا مع الطبيب ان المقصود هو عمل رمزي، ليتر من دم ياسر عرفات الى شعب أميركا. وأقنعته بأن التخلص من قليل من الدم عمل صحي. المهم قام بذلك، لكن مشكلة ياسر عرفات انه يعتقد ان هذا الأمر يكفي، ففي الأسابيع التي تلت كنا نتحدث عن وجوب حصول انعطافة سياسية في الموقف الفلسطيني أهم ما فيها وقف العمل المسلح، ووقف العمليات المسلحة كجزء من الانتفاضة.
> هل كان أبو مازن مع هذا الرأي؟
- كان في طليعة من كانوا مع هذا الرأي، وكان كثر مع هذا الرأي. كنا نقول: لتستمر الانتفاضة بأشكال مختلفة كعنصر ضغط حتى على رغم مجيء شارون. كانت الأمور عندنا واضحة. قد يجوز ان عرفات لم يكن قادراً على وقف الأعمال المسلحة لأن ليس كل شيء في يده فليس لدينا جيش نظامي، لكن كان بإمكانه بذل جهود أكبر، لكنه لم يكن مقتنعاً، أولاً لم يكن يرى ان الوحش الأميركي اصبح مسعوراً بسبب احداث 11 ايلول ولا يجب الاصطدام به في ظرف كهذا.
> وكان هناك شارون؟
- كان شارون يريد انتهاز هذه الفرصة لنهش الفلسطينيين والانقضاض على أوسلو وكل ما تم إنجازه. ياسر عرفات لم يدرك ماذا تعني 11 ايلول في أميركا وعلى المستوى الدولي. حضر خطاب جورج بوش الذي قال فيه: من ليس معنا فهو ضدنا، والخطاب في رأيي تضمّن حماقة سياسية كبرى، فليس هكذا يصنّف العالم، إنما كان يدل الى أي مستوى وصل الجنون الأميركي في تلك اللحظة الذي كان يتوجب استيعابه وليس تحديه. شارون فهم القصة واستخدمها ضدنا الى أقصى حد وزادت الطين بلة فضيحة كارين.
> السفينة كارين اي؟
- أعتقد ان الاستخبارات الإسرائيلية كانت تعرف عن السفينة وصفقة السلاح منذ البداية ونقطة الانطلاق وتركوها تصل الى المياه الإقليمية الفلسطينية، وألقوا القبض عليها وجروها وعرضوا الأسلحة لإثبات ان ياسر عرفات متورط في عمل إرهابي كبير، ولا يريد الوصول الى تهدئة وإنما يريد فتح أكثر من جبهة.
> هل كانت للسلطة علاقة باستخدام السفينة؟
- ياسر عرفات اكتفى بنفي هذه التهمة واعتبارها بحسب تعبيره المحبب، «اتهامات سخيفة»، وكان يقول: ما حاجتي الى هذا السلاح، وكان يرفض هذه التهم. البعض نصحنا بأن يرسل عرفات الى بوش رسالة يقول فيها ان هذا خطأ وقع.
> من الذي نصحه؟
- لا أذكر لكن بعض الفلسطينيين وحتى بعض الأميركيين نصحنا بأن يقول عرفات ان هناك خطأ وقع وأنا أتحمل مسؤوليته وهذه ستكون المرة الأخيرة ويتوقف الموضوع كله. لم يستجب أبو عمار لهذه النصيحة، ضغط الأميركيون أكثر من مرة. وبعد ان قام شارون في العام 2002 باقتحام المدن وتطويق ياسر عرفات وحصاره، وبعد ان أخذ ضوءاً أخضر من بوش للقيام بهذه العملية، كان الضغط يزداد على عرفات أن يعمل انعطافة في السياسة، باعتبار انه يعرف موازين القوى وكيف تتغير.
> لكنه كان قد تقدم في السن؟
- كان يائساً من أن يحصل تغيير في الموقف الأميركي أو الإسرائيلي، وكان يعتقد ان المناورات القديمة كالتحايل على الأزمات ومحاولة الهروب وكسب الوقت تصلح في الظروف الجديدة. عرفات لم يكن مسؤولاً عن العمليات الانتحارية لكن كان يعتقد انه قادر على استعمال «حماس» و «الجهاد» والقوى الأخرى التي تقوم بعمليات انتحارية كأدوات ضغط في يده على الإسرائيليين والأميركيين من اجل الإفراج عنه شخصياً وسياسياً، وأنه مقابل استفحال عدوان شارون يمكن ان يشكل هؤلاء نقطة توازن لصالحه، يستخدمها في أي وقت. لكن حتى عندما كان يأتي الظرف ويحاول تهدئة هذه اللعبة لم يكن لديه سلاح سوى إصدار بيان يستنكر فيه العمليات الانتحارية ويدعو الى وقفها.
العمليات الانتحارية
> برأيك هل كان جزء من العمليات الانتحارية التي كانت تنفذها «حماس» و «الجهاد» هدفه تقويض سلطة عرفات وقدرته على التفاوض؟
- الهدف الرئيسي لبعض هذه العمليات لم يكن إلحاق الأذى بالإسرائيليين، إنما إضعاف السلطة الفلسطينية وتقويضها وإضعاف عرفات تمهيداً لبديل آخر وهو الحلول مكانه، يعني لم تكن تعنيهم على الإطلاق دعواته الى التهدئة أو الى وقف العمليات.
> هل هذا كان برنامج «حماس» أم أو هو برنامج إقليمي؟
- برأيي، هذا البرنامج كان مدعوماً منذ البداية إقليمياً، من طهران ودمشق، وهذا كان البرنامج الذي اعتقد عرفات في البداية انه يمكن استعماله لصالحه ثم وقع ضحيته. حتى الإسرائيليون الذين كانوا يعتقدون انهم يستطيعون تشجيع الحركة الإسلامية لمواجهة منظمة التحرير لإضعافها صاروا عرضة لضربات القوة والحركة التي ساعدوا على إنشائها.
> انت تعتقد ان العمليات الانتحارية ساهمت في إحكام الحصار حول ياسر عرفات واستنزاف سلطته؟
- العمليات الانتحارية كان هدفها أمران: إظهار «حماس» و «الجهاد» على أنهما قوى مقاومة حقيقية عند الجمهور الفلسطيني وتوسيع نفوذها، والأمر الثاني ان الإسرائيليين كانوا يقومون برد فعل على هذه العمليات بمزيد من ضرب السلطة وإضعافها وتقويضها وتدمير مؤسساتها. حاولنا بكل الوسائل ان نضغط على ياسر عرفات لوقف هذا الجنون الذي يجري، وأمام أعيننا كانت السلطة تنهار وتضعف وشارون والإسرائيليون يتسلحون بكل المبررات.
> هناك أشخاص من «فتح» نفذوا عمليات انتحارية؟
- بأعداد محدودة، بصراحة أقول. كان عرفات موزعاً بين اتجاهين، اتجاه يقول انهم ما داموا يعاقبونني هكذا فيستحقون تلقي الرد بهذا الشكل، ولماذا اصطدم بالحركة الإسلامية أو جماعات داخل «فتح»؟ دعوهم يعرفون ان ياسر عرفات هو في النهاية صمام الأمان الذي يجب ان يأتوا إليه لتهدئة الوضع. على هذا الخيط الذي كان كحد السيف حاول السير. لم يكن قادراً على استيعاب أن هذه اللعبة لم تكن تصلح لذلك الظرف، لأن شارون كان لديه غطاء اميركي الى أبعد الحدود، وكان الأميركيون على استعداد لمواجهة أي ظاهرة من هذا النوع في شكل دموي وتدميره.
> حوصر ياسر عرفات في العام 2002 واستمر الحصار حتى وفاته في العام 2004. كيف كان سلوكه وهو محاصر؟
- كان يحب الحصار، إذا صح التعبير. يتألق في الحصار. في ظل الأزمات يشعر أنه اصبح محط اهتمام ويصبح حالة عصبية متيقظة ولديه استعداد عال للعمل والكفاح وهو يريحه كثيراً لأنه شخص يتمتع بنشاط عال. في الحصار الأول لم اكن معه، بيتي بعيد عن قصره مئات الأمتار، وقطعوا عنه الاتصالات لكن كنت أحاول بوسائل مختلفة أن أبقى على اتصال هاتفي معه، وكنت الناطق الوحيد الرسمي باسم السلطة والمنظمة من بيتي، الى حين اقتحم الإسرائيليون المنزل خلال الحصار كنوع من الرسالة، وبعد مرور شهر من حصاره سمحوا لعدد محدود منا بزيارته. ذهبنا تحت حراسة سيارة عسكرية إسرائيلية وفي سيارة أخذتنا من بيوتنا وسط منع تجول في رام الله وخراب ونفايات في الشوارع، مدينة محتلة وفيها حرب عسكرية مستمرة منذ شهر، وعند مقره هناك دبابات، الطرق مدمرة، الأسلاك الشائكة، انابيب المياه، حالة من القذارة، ولما دخلنا الى المقر، كانت الرائحة قاتلة، في غياب المياه، من كل أجهزة الصرف الصحي التي كان يستخدمها مئات من الناس، وهي ستة مراحيض. دخلنا على عرفات ووجدنا كما تركناه بالضبط، امامه حلقات كبيرة ويكتب ويوقّع، لا فاكس ولا تلفون ولا أحد تتواصل معه فكيف توقّع على أوراق؟ لكن حتى معنا، ونحن الأقرب إليه، كان يحرص على إعطائنا انطباعاً انه هو قائد في كل لحظة يواصل دوره ويقوم بمسؤولياته في شكل كامل.
> كان شجاعاً؟
- هو يتألق في ظرف كهذا. جلسنا معه كأننا غادرناه قبل دقائق، لكن الرائحة قاتلة والهواء غير نظيف، ملوث الى حد كبير، النوافذ مغلقة، الظلام، وهذا الرجل الكبير في السن يعيش في هذه الحال المأسوية، فكنا نكرر زياراتنا للتشاور معه قبل فك الحصار عنه، وكان يسمح لنا بأخذ حقائب يدوية، وكنت أضع سجائر للحرس، سألت عن نوع الأكل الذي عنده، وكان كله طعاماً جافاً. فتحت الثلاجة لدي ووجدت قطع لحم ودجاج فوضعتها في الحقيبة وحملتها ووصلت الى المقر وقلت لهم اسلقوها فقط من اجل تناول شيء دافئ، اعملوا حساء، أي شيء، ورجعت في اليوم الثاني، فقالوا رميناها، لأن ياسر عرفات قال عندي 400 شخص، ستكفي مَن؟ لم يقبل ان يختلف طعامه عن طعام البقية، كان الى هذه الدرجة يساوي نفسه مع الآخرين، لكنه كان يقظاً سياسياً ولم يكن يحب إظهار ضعفه، وأعتقد ان امراضه الداخلية والتي كانت بأمعائه تفاقمت وكان دائماً يشكو من التهاب معوي ويعالجه بالأعشاب ويرفض اللجوء الى الأدوية، وفي تلك المرحلة وبسبب نوع الحياة والغذاء وثقل الهواء الذي كان يتنفسه تفاقمت امراضه.
استقبل ياسر عرفات عدداً من الوفود وبينها وفد كولن باول. كان يقظاً جداً، سمع باول منه عن معاناة الحصار وأنه بذل جهوده لإيقاف المأساة بما فيها العمليات الانتحارية لكن ليس كل شيء في يده، وكان رأي الأميركيين في حينه ان ليس المطلوب مئة في المئة نتائج إنما مئة في المئة جهد. وعاد ابو عمار الى عادته القديمة وهي محاولة إبراز أن لا مسؤولية عليه وانه أدى واجبه بشكل كامل وأن الإسرائيليين استخدموا اسلحة محرمة. فقال باول له: سأقول لك شيئاً وأرجو ان تتذكره، أنا لا أعرف الآن هل انا ديموقراطي أم جمهوري، لكن أعرف شيئاً واحداً هو انني صديقك الأخير الآن في واشنطن. وكانت هذه أبلغ رسالة قالها باول.
> هل زار ابو عمار مرة واحدة؟
- مرتين، مرة عمل حركة «أبو عمار» لم تكن موفقة، اذ اخذ من باول التزاماً بإرسال مراقبين دوليين الى الأراضي الفلسطينية للإشراف على وقف إطلاق النار، وما ان وصل باول الى القدس الغربية والتقى مع شارون، حتى تنصل من هذا الاتفاق. لم تكن لعبة من باول، إنما عندما قرأت كتاب بوب وودورد عرفت ان بوش أتته شكاوى من تشيني وغيره بأن باول يوسع أشغاله، ويبدو ان الإسرائيليين شكوا فوراً، وخلال ساعتين أرسلت اليه تعليمات من جورج بوش ان يوقف هذا الموضوع، وتراجع عن فكرة إرسال مراقبين.
> كيف كان ابو عمار يتصرف امام باول خلال الحصار؟
- عندما جاء باول مرة ثانية بدأ أبو عمار يحكي له عن قسوة الحصار، وبعد فترة قصيرة دخل أحد حراس أبو عمار ومعه ورقة كلينكس وبداخلها نصف رغيف أسود، وضعه امام أبو عمار، فقضم أبو عمار قضمة من الرغيف الحاف الأسود وراح يأكلها. نحن بصراحة خجلنا من مسرحيات من الدرجة الثالثة أو الرابعة ولا تجلب عطف أحد.
> هل تعتقد ان عرفات تعرض للتسمم قبل نقله للمعالجة في باريس؟
- لست متأكداً من ذلك، ولا أدلة عليه. لا أستطيع أن أحكم ان لا تسمم، لكن الفرنسيين وضعوا التسميم احتمالاً أول حين وصل عرفات الى فرنسا. وأجروا كل الاختبارات على كل أنواع السموم المعروفة وغير المعروفة، ولم يجدوا أثراً للتسمم، ما جدوه التهاب شديد جداً ومزمن في الأمعاء الغليظة والدقيقة، وتحول الى نوع من تسميم للدم وأدى الى تناقص صفائح الدم، بمعنى ان المشكلة مرضية ناتجة عن إهمال في معالجة المرض وحالة التسمم البطيء الذي كان يجري.
> هل تفتقد ياسر عرفات؟
- جداً، وفي كل لحظة. لم أكن أخجل حين أقول انا عرفاتي، ما أعجب محمود درويش ان ياسر عرفات لم يترك أثراً مكتوباً. لو ترك ذلك لكان ضيق مساحة الاجتهاد عندنا لأن النص المكتوب دائماً يحكم الناس. ولحسن الحظ ان ياسر عرفات لم يترك اثراً مكتوباً وهذا من مآثره، والعرفاتية هي نهج براغماتي مفتوح له مبدأ واحد هو الإخلاص للمصلحة الوطنية الفلسطينية، للاستقلال الوطني الفلسطيني، إخلاص لقضية استقلال الحركة الفلسطينية. هذه هي المبادئ العريضة للعرفاتية، لكن من اجل خدمة هذه المبادئ فكل ميدان البراغماتية الفسيح متاح أمامك. أنا عرفاتي بهذا المعنى، الآن هناك عرفاتية ذات صلة بشخص، وهذه ذهبت مع ياسر عرفات ولا يستطيع أحد ان يستعيدها أو يقلدها، أسلوبه في التعامل مع الأحداث، وطريقته في المخاطبة وطريقة لباسه وأكله وكل ما له علاقة بجوانب الكاريزما الشخصية فيه. هذه لا تتكرر بل ذهبت معه، إنما منهجه الذي هو الى حد ما اللامنهج سوى التجريب والتعامل مع الوقائع أولاً بأول ويوماً بيوم. وأحياناً، يكون هذا على حساب رؤية الهدف البعيد وكيفية خدمته وأحياناً تجاهل وقائع، لكن هذا التجاهل لم يكن من صفات ياسر عرفات، هذا التجاهل لوقائع وتحولات تاريخية كبرى من صفات قادة فلسطينيين سبقوا عرفات، من صفات الحاج امين الحسيني، وربما أحمد الشقيري، من صفات الذين تجاهلوا تحولات كبرى على غرار التحول في الحرب العالمية الثانية. فالتجاهل هذا لم يكن من صفات ياسر عرفات طوال سنوات حياته ونضاله، إنما كان من صفاته في المراحل الأخيرة من حياته وأوقعه في أخطاء كبرى.
> هل زاره محمود درويش خلال الحصار؟
- لم يكن مسموحاً إلا لعدد محدود بالدخول الى مقره. الذين دخلوا أبو مازن وأكرم هنية وصائب عريقات وانا فقط.
> وأبو علاء؟
- كان في منطقة بعيدة، ليس من سكان رام الله، لو كان موجوداً فيها لسمح له بالدخول على ما اعتقد.