اللغة السريانيّة هو الاسم الثاني للآراميّة وليست
فرعاً. كل ما في الأمر أن اللغة الآراميّة، عندما بدأت تنتشر في منطقة الهلال
الخصيب والمناطق المتاخمة لها حوالي بداية الألف الأول قبل الميلاد، عُرفت
بالآراميّة وهذا الاسم أُخذ عن الشعب الآرامي المتكلّم بها. في الوقت نفسه
حمل هذا الشعب اسم السريان ولن أدخل هنا في متاهات التسمية ونظريات
المحققين والباحثين حول هذه التسمية وكيف نشأت ومتى، ليس لأني لا أملك قناعة
حول هذا الموضوع، لكن بسبب النزاعات التي لا زالت حامية في مختلف أوساط شعبنا
حول هذا الموضوع. على كل حال في القرون الأولى بعد الميلاد نجد اللقبين
متوازيين، فمار أفرام الذي عاش في القرن الرابع الميلادي يقول عن نفسه
الآرامي ، بينما نجد اليونان يلقبونه بالسرياني وهلمّ جرا (لديّ الكثير من
الشهادات ومن عدة مصادر أساسيّة وقديمة لأؤكد هذه الفكرة). رويداً رويداً
ولأسباب دينيّة حلت التسمية السريانيّة محلّ الآراميّة وبدأت تُطلق على
القبائل المتعددة المنتمية إلى هذه الإثنيّة وبالتالي أُطلقت على لغتهم.
فالسريانيّة هي الآراميّة، إلا أن الكثيرين وبينهم باحثي يومنا هذا يفضلون
إطلاق السريانيّة على اللغة الآراميّة في آخر مراحلها وهي المرحلة المتأخرة
(بعد الميلاد) وأطول مراحل تطور هذه اللغة. طبعاً سيقولون لي: هناك اختلاف
واضح بين الآرامية الأولى و سريانيّة اليوم، جوابي سيكون أن كل لغات العالم
مرت بتطور وفي عدة مراحل وهذا لا يعني أبداً أن اللغة في آخر مراحل تطورها هي
لغة أخرى، ولديّ عدة أمثال توضح كلامي: لاتينيّة شيشرون تختلف كثيراً عن
لاتينيّة الكنيسة قبل عشرات من الأعوام. أحد معلمي اللاتينيّة والناطقين بها
أخبرنا يوماً بأنه لا يفهم لاتينيّة فلان من الأدباء الذين عاشوا في فترة
معيّنة. يونانيّة الفلاسفة الأُوّل تختلف عن يونانيّة العهد الجديد وهي مرحلة
من مراحل تطور هذه اللغة، وكم تختلف عن يونانيّة اليوم؛ ورغم ذلك لم يجرؤ أحد
على تغيير اسم هذه اللغة. وهناك أمثلة عديدة ولكافّة لغات العالم.
إذا اتّفقنا أن آراميّة الأمس هي سريانيّة اليوم (مضيفين التطور الذي نالها)
نستطيع أن نتحدث عن فروع هذه اللغة قبل الغوص في لهجاتها. لن أتطرق أبداً إلى
فروع الآراميّة القديمة فهذا سيكلفني بحثاً بأكمله، خصوصاً عندما نأخذ في
حسابنا اختلاف القبائل (واختلاف استعمالاتها اللغويّة بالتالي) التي انتشرت
في ما بين النهرين وما يُعرف سوريا الحاليّة. سأتحدث عن فرعين أساسيين أقرب
إلى عصرنا هذا وهما: سريانيّة الرها، وهي سريانيّة الأدب والدين على امتداد
ألفي سنة وأكثر، وهي ما تُسمّى الفصحى والمستعملة حتى اليوم إن في الطقوس
الكنسيّة أو الأدب السرياني الحديث أو في اللهجات المحكية المنتشرة هنا
وهناك. وسريانيّة فلسطين التي أثرت كثيراً على سريانيّة الشام وما تبقى منها
حتى اليوم في لهجة معلولا وما جاورها من القرى. ما يُميّز هذه الأخيرة بشكل
واضح هو استعمالها حرف الياء للمضارع كالعربيّة على خلاف سريانيّة الرها التي
تستعمل النون بدلاً منها. للملاحظة أن الآرامية القديمة استعملت النون وليس
الياء ، فهل يفتح هذا لنا باباً للقول إن العربيّة تمتلك خصائص لغويّة
تمكننا من وضعها، تاريخيّاً، بالتوازي مع الآراميّة القديمة؟ عدم انتشار
العربيّة الواسع آنذاك ليس سبباً لنقض هذا القول أبداً. فالعرب لم يمتلكوا
حضارة أو تجارة مثلما امتلكته الحضارات التي مرت على منطقة الهلال الخصيب،
وبالتالي بقيت لغتهم لغة محكيّة غير مكتوبة أي محصورة على نطاق ضيّق جداً (لن
نغوص في هذا الموضوع أكثر خوفاً من التشتت وأيضاً بسبب عدم وجود معطيات كبرى
تمكننا من الاعتماد عليها في ما نقول.
طبعاً، وهو شيء بديهي، ليست العبريّة فرعاً عن الآراميّة، بل لغة قائمة بحدّ
ذاتها. فكما هو معروف لدى الجميع بدأت اللغات الساميّة مع اللغة الأكادية
ولهجاتها المختلفة كالآشورية والبابليّة وبقيّة لهجات سوريا، ثمّ تلتها
الآراميّة وحلت محلها بجدارة، لا بل فاقتها بالتوسّع والآداب، هناك لغات
ساميّة أخرى نشأت في فترة نشوء الآراميّة ربّما بعدها أو قبلها بقليل،
كالعبريّة والعربيّة والحبشيّة. طبعاً آثار الآراميّة أقدم من أي أثر لهذه
اللغات، ولذلك لا يُمكن التأكيد، تاريخياً وأثرياً، على قولنا هذا، أي أن
بقيّة اللغات الساميّة التي ذكرناها آنفاً قديمة قدم الآراميّة. كل ما
يُمكننا فعله هو البحث في خصائص كل لغة ومميزاتها، وبالتالي نستطيع انطلاقاً
من تحليل هذه اللغات أن نتحدث عن قدمها دون إبراز دليل مكتوب.
إن التجارة ساعدت الآراميّة على انتشارها الواسع ولم تكن سبباً لهذا
الانتشار. سبب انتشار هذه اللغة بهذه الطريقة وسبب اعتمادها لغة رسميّة من
أكبر امبراطوريّات الشرق آنذاك، هو سهولة هذه اللغة وسهولة كتابتها. كما قلنا
الأكادية أقدم منها وليست أصعب أبداً، فهي من أخواتها، صعوبتها تكمن في طريقة
الكتابة، فبينما استعملت الأكاديّة طريقة السومريّين في الكتابة أي الطريقة
المسماريّة، وبالتالي احتاجت إلى ما بين 500 و600 علامة للتعبير عن اللغة؛
استعملت الآراميّة الأبجديّة الأولى التي اكتشفت في رأس شمرا (فينيقيا
السوريّة). وبالتالي استعملت حوالي 22 علامة أو حرفاً للتعبير عن اللغة.
في تقسيمه وشرحه لفروع السريانيّة المحكيّة، تحدّث الأخ Enlightenend عن
اللهجة الغربيّة، ولم يتطرق أبداً إلى اللهجة الشرقيّة المدعوّة سُورَثْ ،
وهاتان اللهجتان تنحدران من سريانية الرها الفصحى الأشهر بين فروع اللغة
السريانية (الآراميّة)؛ بينما نجد لهجات أخرى حية كاللهجة الفلسطينية التي
بقيت فترة طويلة في استعمال أهل السامرة، وهذه اللهجة لا علاقة لها بسريانيّة
الرها، بل تستمدّ أصولها من آراميّة آشور القديمة (لا أقصد السريانيّة التي
يتكلم بها آشوريو اليوم). وهي اللغة التي حملها بعض أهل السامرة بعد العودة
من سبيهم في نينوى الآشورية. وهناك أيضاً لهجة معلولا وبعض القرى السورية
المجاورة لها، هذه اللهجات تعود في أصلها إلى ما دُعي سريانيّة الشام، وهي
أقرب إلى سريانيّة الرها من آراميّة السامرة الفلسطينيّة. هناك لهجات أخرى
بقيت في استعمال الصابئة العراقيين، هذه اللهجات تعود أيضاً إلى آراميّة ما
بين النهرين القديمة تبعاً للمنطقة التي بقيت فيها.
أظن أن البعض سيسألني لماذا أقول سريانيّة الشام وسريانيّة الرها، بينما أقول
آراميّة السامرة وآرامية الصابئة... إلخ. ليس لأنهما لغتان مختلفتان بل لأن
تحدرهما من اللغة الآرامية يعود إلى فترات زمنيّة ليست قصيرة. وكون الآراميّة
هو الاسم الأقدم والأشمل لهذه اللغة، فمن المفضّل القول آراميّة السامرة
والصابئة... إلخ.