تحت الدولاب: هِرمان هسه
جدل الروح و النظام
شهد التيار الأدبي التعبيري في نهاية الحرب العالمية الأولى احتضاره في ألمانيا و صار الأدباء الألمان أكثر ميلا للتجريد و رفضا للقواعد الكلاسيكية المكبِلة للإبداع و قد صاغ العصر الذهبي للأدب و الثقافة الألمانية في عشرينات القرن الماضي كُتّاب مثل هرمان هِسّهْ (1877/1962) و فرانز كافكا و توماس مان و ألفريد دوبلن و روبرت موزيل و قد بدا أن جزءا من مؤلفات هِرمان هسه تميل نحو الرومنطيقية الجديدة فقد طعّم أدبه بمجلوبات علم النفس التحليلي (يونج) و عرض لأزمة القيم البورجوازية في كتاباته. عاش طفولته بين ألمانيا و سويسرا قضى سنة في التعليم اللاهوتي هرب من الكلية و عمل كبائع كتب قديمة ثم صار مواطنا سويسريا في 1923 و حصل على جائزة نوبل في 1946 مات في سويسرا.
كتب روايات عديدة منها "ذئب السهوب"1927 و"نرسيس و غولدموند" و "روسهالده" و "غرترود" في 1919 كتب "قصة طفولة سانكلير" بيّن فيها بوضوح تأثير واقع الحرب على الشخصيات.
إن الرواية عند هِرمان هسه و عند عدد كبير من الروائيين الغربيين تنحو منحى البحث الإجتماعي لأنها بحجمها الكبير مقارنة مع القصيدة و القصة القصيرة قادرة على استيعاب حركة المجتمع كله إذا أخذناه من زاوية دون غيرها و بنية الرواية كجنس مُركّب هي بنية المدينة و بنية النظام الاقتصادي و الاجتماعي في تعقيده و حركيته و بنية الأفراد النفسية و الإجتماعية التي تواجه في كل مرة ضغوطات جديدة داخلية و خارجية عليها أن تتعامل معها.
في هذه الرواية التي تحمل عنوان "تحت الدولاب" قدّم هِرمان هسه إنسانا يعيش صراعا بين الفن و الواقع يتابعه الكاتب من طفولته إلى كهولته بأسلوب زمني خطي تارة و لولبي طورا يعاني انفصاما سببه تورم المخيال على حساب الواقع حيث زوج من الأصدقاء يمثل العلاقة بين الفن و الحياة الأول -هانزغيبنراث -يعيش حياة نموذجية مسطحة و يظهر "هايلنر" بطرق خارقة للعادة في حياته في مواقف حاسمة ليثنيه عن طريقه المفترض به أن يسير فيه . هانز يريد أن يجد طريقه في حياة نموذجية تتمثل في الدراسة اللامعة و العمل الملائم لها ثم تكوين أسرة يتمكن أفرادها من الصعود الاجتماعي على نفس الوتيرة و المحافظة على القيم البورجوازية الجديدة القائمة على الإخلاص للنظام الرسمي و لكنه ينتهي للعمل كصبيّ ميكانيكي فيتحدث عن شاعرية الحرفيين و فتنة العمل الشاق على الروح الموغلة في ضياعها في متاهات الذكريات و الصور و الأحلام تمزق صاحبَها بين اللذة و العذاب و تتتابع التجارب الجديدة التي تخضع لها الشخصية في محيطها فتؤثر فيها نفسيا و عصبيا دون أن يكون لها تأثير في الواقع و لكنها تؤدي بصاحبها إلى الموت. و تبدو الرواية نوعا من أدب السيرة الذاتية فقد تكررت بعض الشخصيات و علاقاتها في عدد من رواياته الأخرى و هي تشبه قليلا سيرة حياة الكاتب و كأن هذا الفضاء السيرَ-ذاتي يفرض نفسه على الكاتب في كل مرة في تلك العلاقة الفصامية في داخله هو بين التقاليد و التبلد الإجتماعي و صرامة القوانين من جهة و بين روح يقِظة مُحلقة جرحتها الحرب تعيش داخله و تتلبس به كلما اُنفرد بنفسه و تؤنبه بل إنه الصراع في داخل البلد ذاته بين الروح و النظام و كيفية التصرف مع هذا السيل العارم من الموارد البشرية التي تتأرجح بين العبقرية و الحمق، بين الغريزة الشريرة التي قد تميل للإجرام إذا لم تهذبها المؤسسات و بين السعي إلى تقنين قدر متوسط من الذكاء يمكّن الأفراد من الخضوع لآلة القوانين و إخضاع منظوريهم لها.
الفضاء السيرَ-ذاتي في رواية "تحت الدولاب" يقوم على قطبين أولهما الصراع في داخل البطل بين الوجاهة الإجتماعية و الدافع لها هو الرغبة في تحقيق الذات و حب الظهور و القطب الثاني هو من جهة عشق الفن كبنية هلامية الحدود تعترف بالباطن على حساب الظاهر و تدعو الروح إلى الحرية و ملاقاة شبيهاتها في التاريخ ممن نقشوا أسماءهم و تردد ذكرُهم حتى الآن و حب الطبيعة من جهة أخرى و اتخاذها كمهرب أو كطريقة للموت و الفناء في عناصرها من بُحيرة و غاب و ليل و جليد و هي تحيل كلها على الفردية المجروحة و الوحشة التي يصعب ترويضها و يعكس عنوان الرواية كيف أن الدولاب و هو آلة تدور على محور هو الاختبار الاجتماعي الذي يمرّ تحته كل الأشخاص فإما أن يُحسنوا الإنزلاق تحته أو أن يطحنهم و الفئة المطحونة هنا ليست سوى الشخصيات الرهيفة الشعور العبقرية أو القريبة منها فهي لا تجد تقبلا من النظام الإجتماعي بدءا من المدرسة مرورا بالقوانين و الخيارات السياسية وصولا إلى الحياة العملية التي يتم فيها النضج الجسدي و العاطفي و يستعد فيها الفرد لنقل الموروث الإجتماعي إلى خلَفِهِ.فهذه الشخصيات تعيش إيقاعا مختلفا يكبر فيه الفرد -عاطفيا- قبل الآخرين ثم تصاحب كِبَرَهُ الفيزيائي ارتدادات الطفولة فتجعله حالما منفصلا عن واقعه في أغلب الأحيان يطارد شبح سماء صافية و بُحيرة اُستمتع فيها بصيد الأسماك أو العصافير أو قبلة من فتاة أحبّها بجنون و فرقت الأيام القلبَين و هكذا يكون الإنهاك العصبي مرفوقا بالضعف الجسدي و بهذا ترميهم الآلة الإجتماعية على جانب الطريق و تواصل سيرها الخَطِـّيّ على نفس الوتيرة تُدخِل من تشاء في حظيرتِها و تطرد من تشاء و قد كان هانز بطل الرواية شخصا نموذجيا عاش طفولة جمعت بين اللهو البريء في أحضان الطبيعة و العمل الجدي و قد كان محط اهتمام المدرسة و القس و مجتمع القرية. اجتاز الامتحان العام الذي لا تتقدم إليه إلا فئة المتفوقين من الطلاب و اُنخرط في الأكاديمية التي كانت عبارة عن دَيْر تُدرس فيه اللاهوتيات و العلوم و الفنون و قد عرض الكاتب لدراسة أنواع مختلفة من الشخصيات تشاركت معه في الظروف و تشابهت أو اُختلفت معه في المصير و هنا يفصل الكاتب بين صنفين من الشخصيات:
*الشخصيات النظامية: هي الشخصيات المؤهلة للصعود الإجتماعي و لأن تكون جزءا من النظام و هي لا تحتوي على فضائل حقيقية غير البراغماتية و حسن استخدام الوقت و الأشياء و الأشخاص فتُحوّل كل ما يحيط بها إلى طاقة في صالحها تعضد تقدُمَها و لا تُعيقُهُ و هي شخصيات و إن كانت في بداية المراهقة البريئة و الضّاجّة إلا أنها قد أخذت من أُسَرِها كل ما يجعل منها كهولا في أجساد صغيرة فهي تُحسِنُ التعامُل وفق مصالحِها و لا تُركز على أخلاقية السلوك بقدرما تركز على بلوغ الهدف و الانتظام وفق قواعد المؤسسات التي تنتمي إليها إذ تصير المؤسسة قالبا يُصَبّ فيه كيان الأفراد و به يكتسبون التحديد وتتبدّى شخصية لوسيوس الغريبة و العنيدة من بين النماذج الإجتماعية لافتة للنظر: "إميل لوسيوس المجتهد في عمله و الجاف كفلاح عجوز كئيب(..) يُصادر منشفة شخص آخر و أيضا إذا أمكن صابونتَهُ (..) و كان يوفر حصتَه اليومية من السكر و لا يجد مشقة في الحصول على من يشتريها مقابل قطعتين على بنس و مقابل خمس و عشرين قطعة على دفتر للتمارين و لا غرابة في أنه كان يميل إلى أن يدرس في المساء على ضوء مصابيح غيره (..) و كان ابنًا لأبوين أبعد ما يكونان عن الفقر و نشأ في ظروف ميسورة (..) و بما أن التعليم كان مجانيا فكر أن يُجير هذه الحقيقة لمصلحته و يتلقى دروسا في العزف على آلة الكمان و هذا لا يعني انه كان ينطوي على أي ميل أو تذوّق أو موهبة في الموسيقى فقد سمع أن الموسيقى مفيدة في وقت لاحق من الحياة و تجلب الشعبية لأصحابها(...) و لما لم يُحرز لوسيوس أيّ قدر من التقدم أصبح الأستاذ المُرهقُ أكثر عصبية و صراحة (..) اختار المتحمس المخذول أن يتعلم العزف على البيانو و اُستسلم لأشهر طويلة عقيمة و تخلى عن الأمر بهدوء و في سنوات لاحقة كان لا يُمانع في أن يُعلن عندما يدور الحديث عن الموسيقى أنه هو أيضا قد تعلم العزف على آلة البيانو و آلة الكمان إلا أن ظروفا غير مواتية أقصته عن تلك الفنون الراقية"ص 75/76/77 و شخصية لوسيوس تجمع بين الأنانية و النجاعة و هي أخلاقيا أميَل إلى الخسة و الضحالة و التباهي لكنها تتقدم في هذا الفضاء و تفرض نفسَها لان لا عواطف تكبلها و لا أخلاقيات تحد من شبقها المحموم للصعود لاجتماعي و لو على جماجم الآخرين و لا تكترث إن فقدت صداقة أغلب المُحيطين بها فهي لا تنظر إلا إلى الأمام و يعرض الكاتب لكيمياء اجتماعية أخرى :"كانت هناك أيضا صداقات قائمة على أساس نوع مختلف من المواثيق، على الملكية المتبادلة فإن مالك لحم الخنزير المحسود جدا وجد نصفَه المُكمّل في اُبن بُستاني من شتاماهايم الذي كانت زوادتُهُ ملأى بأفضل أنواع التفاح و هكذا نتج تفاهم متين بينهما دام طويلا و تفوّق على مواثيق صداقة أكثر مثالية و اُندفاعا" ص87/88 و هاتان الشخصيتان لا تعبران عن عُمرهما و اُهتماماته بقدم ما تعبران عن عقلية إقطاعية ما تزال متغلغلة في المجتمع.
*الشخصيات غير النظامية:
و في المقابل يقدم الكاتب نماذج لشخصيات ضعيفة البنية مرهفة الشعور، كائنات أثيرية أسعفها النجاح للتقدم إلى الأكاديمية لقدراتها الذهنية و لكن مسيرتها الأكاديمية تعكس عدم قدرتها بحال من الأحوال على أن تكون يدًا طـُولـَى تطبق النظام الذي تراه باليا و سخيفا و مُجحفا و خاليا من الروح.
و يعبر "هِرمان هايلنر" عن شخصية فوضوية متمردة لكن مرهفة و شاعرة فيقول مخاطبا هانز:"إننا هنا نقرأ هومر و كأن الأوديسة كتاب للطبخ، سطران في الساعة و بعد ذلك يُمضغ كله من جديد و يُفحَص إلى أن نَعاف النظر إليه و الدروس كلها تنتهي بالطريقة نفسها "اُنظروا كيف أبدع الشاعر في صياغة العبارة. ها أنتم تُلقون نظرة على سر الإبداع الشعري!" إنهم يُغلفون حرفا أو صيغة قواعدية بكثير من السكر حتى نتمكن من اًُبتلاعها دون أن نختنق. إن الكلاسيكيات كلها خداع!"ص83 و لا غرابة في أن هذه الشخصية تحمل اسم المؤلِف فهي تعبر عن كل ما يُريد أن يقذفَه في وجه المجتمع من السخط و السخرية ليفضح روحَه المتباهية بالجمود و خوفَهُ الذي تمتصه المجموعة في زخمها العددي و هيبة النظم و القوانين لتدوس أزهار الحياة و تُعدمها في مهدها. فهِرمان هسه و إن كان مُعجبا بالقيم البورجوازية فإن الشاعر في داخله ينتفض في كل مرة ليشير إلى المواطن التي يتم فيها تدمير الذات عبر اُدعاء بنائها و منها تكريس العقل و الطموح على حساب المشاعر و عدم تشجيع الفنون بقدر إعلاء شأن النظريات الفلسفية و العلمية التي لا تُضيف إلى روح المجتمع بل تظل متخارجة عنه و تبجيل الكلاسيكيات على حساب الأقلام الجديدة التي تعبر عن أفكار المجتمع و طموحاته و مشاعره دون أن تستعيرها من فترة سحيقة لا تمت للحاضر بِصِلة. و شخصية هيلنر لا تكتفي بذاتها بل إنها تُحدِث خللا في توازن الشخصية المُقابلة و هي هانز غيبنراث فيقول لهانز" إنهم جميعا مملون جُبَناء! يعملون و يكدحون و أقصى ما يتعلمونه الأحرف الأبجدية للغة و أنت لا تختلف عنهم في شيء (...) سأله هايلنر لدى مُرورهما بالمُصلّى بردهات و نوافذ مقوسة و أروقة مُعمّدة و مسقوفة و حجرات طعام كلها على الطراز الغوطي و الرومانسكي و منفذة بحرفية عالية:"هل لاحظت مرة مبلغ جمال كل هذا؟ إنه من أجل حفنة من المغفلين المساكين مكرسة للإلتحاق بالكنيسة. إن الولاية تحتاج إليهم(..)" ص83/84 لقد أحدث هايلنر رجة جذرية في كيان هانز لم يعد يستطيع أن يتجاهلها فهو لم يُخاطبه عن شيء غريب عنه، لقد فجّر أشياء كانت موجودة في داخله سلفا و كان يقمعها خلف بزة التلميذ المُجتهد الذي نسي طفولته فجأة و أخذ يجدّ ككهل لبلوغ أعلى المراتب في الدولة فهانز الذي كان يأخذ كل شيء على محمل الجد: الحياة و الكتب و الصداقة وجد أن نصفه المكمل هايلنر لا يحفل بها كثيرا و أن له رأيا في كل شيء و هذا ما لا يملكه هو "بعبارة أخرى إن غيبنراث القدوة لم يكن في الواقع إلا دمية مُحببة إلى صديقهِ، أشبَهَ بقطة منزلية و هانز نفسه كان يشعر أحيانا أن الحال هو ذاك غير أن هايلنر تمسّك به لأنه كان بحاجة إليه، كان لا بد أن يحتفظ بشخص ما، شخص واثق من نفسه بمثابة جمهور له"ص91 هذان الشخصان اللذان يتعارضان في خيال الكاتب و هُمَا شخص واحد يتعارك فيه صنوان الواقع و الفن يترك أحدهما(هايلنر) الكلية ليظل الآخر (هانز) يصارع فيه كيانا مشوها لا هو بالواقعي المتعجرف الواثق من نفسه و لا هو بالفنان القابل لدينامية الواقع و هكذا يغادر هانز الكلية بعد عام واحد في فشل ذريع يصحبه انهيار عصبي و صداع دائم ليلتحق بالعالم الذي أتى منه و لكنه في الحقيقة يعود إلى طفولته، طفولة بين شارع فالكن -الضيق ذي المنازل المتداعية التي يغطيها الغسيل المعلق دوما طلبا لشمس غاربة في معظم الأحيان منذرة بالمطر و هو بؤرة مناسبة للجريمة و الأمراض و الرذيلة شخصياته على حافة الإنهيار فهو يَذكر روتيلر ساعي البريد الذي فُصِل عن عمله بسبب السكر الدائم و الذي كان يُعطي هانز سعوط الأنف مقابل سمك يصطاده الصغير و يتشاركان في أكله مشويا مع الزبدة و هو يذكر الميكانيكي العجوز بورش الذي لا يتخلى عن ربطة عنقه حتى حين يسير حافي القدمين و هو يحفظ نصف الكتاب المقدس غيبا لكنه لا يستطيع أن يكف عن السكر و النساء و لا ينسى هانز "فروموللر" فاتنة الماضي المطلقة التي تعيش وحيدة و تقضي أيامها في سرد القصص و صنع القهوة- و شارع غربرشتراس الأنيق و الفسيح الذي عَرف فيه إيما التي أحبها طفلا و التي صارت مجرد فتاة يافعة تتشبه بالسيدات المحترمات بثوبها الطويل و تسريحتها الناضجة لكنها تفشل فشلا ذريعا في ذلك و بين هذه الذكريات و ذكريات الطبيعة الجميلة تتردد نوبات الصداع لدى الفتى هانز الذي لم يستطع أن يكون موظفا رسميا في الدولة و لا تلميذا عاديا ينقطع عن التعليم ليتعلم حرفة و إذا به ينتهي نهاية لا يمكن تسميتها انتحارا بقدرما هي فناء في الطبيعة و تداخل بها لأنها القالب الوحيد الذي يتقبله كيانه الشفاف.
*وصف الطبيعة: تبدو الطبيعة كمثال للمؤنث فتكون فيزيائية حينا و طفولة و امرأة و أ ُمًّا حينا آخر و هي ترافق هانز في كل حالاته الحزينة و الجذلى و تغمره بكل قوة في كل الأوقات فكأنها اللذة في المرارة و المؤاساة في العذاب "و يعبق الهواء المحيط برائحة عصير التفاح الحلو، المنعشة و القوية و اللذيذة. إنها أفضل رائحة يمكن شمّها على مدار العام، تمثل جوهر النضج و الحصاد و الإحساس بها في الأنف ممتع قبل حلول الشتاء القادم فعندئذ سوف تذكر بكل امتنان حشدا من الأشياء الممتعة و الرائعة: مطر أيار الناعم و أشعة الشمس الرقراقة و ندى صباح خريفي بارد و ضياء شمس الربيع الرقيق و حرارة الصيف الساطع و البراعم البيضاء الوضاءة و الحمراء الوردية و الومض الناضج الأسمر المحمر للأشجار المثمرة قبل قطف الثمار و يجمع بين هذا كله ما جلبته معها دورة عام كامل من جمال و متعة"ص155
هذه الطبيعة تقدم كل نفائسها لهانز طفلا و على أبواب اليـُفوع و لكن بطول الإختبار يعطيها أبعادا إنسانية ككل الرومنطيقيين فهي الطفولة التي يريد أن يتجاوزها ليصل إلى البلوغ و يختبر الرجولة "و كان في الأيام الخوالي قد أقام كوخا خشبيا و ظل على مدى ثلاث سنوات يربي أرانب فيه (..) بدا الكهف الصناعي خاليا متهدما تماما و عنقود الهوابط الموجود في الركن كان قد اُنهار، و الناعورة الخشبية قد تلوت و تكسرت و تذكر عندما نشر خشبه كله و بناه و التسلية التي اُستمدها. حدث ذلك قبل سنتين كأنه دهر، رفع الناعورة و أعاد إليها شكلها السابق ثم كسرها إلى قطعتين و رماها عبر السياج. وداعا للدمية "ص15/16 و تغدو الطبيعة في مرحلة أكثر نضجا المرأةَ في إقبالها و حيويتها و نعيمها الذي يغمرك في بدايات الحب غير الواعية باُكتمال اللحظة إلى طقوس عبور إلى الجنسي و الإجتماعي الذي تخشاه "خُيِّل إليه أن صوتها يَصِلـُهُ من أعماق الليل عندما قالت برقة:"ألا تُقَبّلني؟". اقترب وجهها المتقد و لوى ضغطُ جسمها قليلا السياج إلى الوراء و شعرها السائب الذي يفوح بعطر خفيف، حفّ بجبين هانز و واجهت عيناها المُغمضتان بجفنيهما العريضين الأبيضين و الرموش السوداء عينيه. و سرت فيه رعشة عندما لامست شفتاه الخجولتان فمَ الفتاة (..) كانت شهوتُهُ المرتعشة قد تحولت إلى إرهاق مهلك و ألم " ص169 و الطبيعة أيضا حالة من حالات التطهير يهرب إليها الإنسان من دورة الحياة المُربكة الأليمة لتعطيه السكينة المفقودة و تعيده لرحم الأم الذي لا زمن يشغله و لا مكان، إنه رحلة الأزل و الأبد حيث لا حزن و لا فرح بل الطَمْأنينة الزاهدة "في تلك اللحظة كان موضوعُ هذه التهديدات كلها (تهديدات الأب) -أيْ هانز- ينجرف ببطء باردا و صامتا، غائصا في المياه القاتمة للنهر. لقد طرح عنه كل إحساس بالإشمئزاز و الخجل و الحزن (..) لعل المياه جذبته إليها بفعل سحرها القاتل عندما مال فوقها و بدا له الليل و القمر الشاحب يفيضان بالسكينة و الراحة العميقة" ص201/202
خاتمة
لقد كان جرح الفشل كشاعر ماثلا دوما في روايات هِرمان هسه فقد كتب قصائد عديدة إلى جانب رواياته و لكنها لم تكن بالرهافة الكافية و لم تعرف النجاح الذي عرفته رواياته و هذا الألم الذي يتلبس به لحظة الكتابة السردية يجعل الكثير من الكلمات الشعرية تتسرب إليها و لا تتعارض معها خاصة فيما يتعلق بوصف الطبيعة -و هو من الرومنطيقيين الجدد-حين يلجأ لها البطل فتحضنه كأم و هو الفاقد لأمه فكما لو أن الطبيعة هي مخزون الأنوثة و الحنان الأكملُ الذي يجد فيه البطل ضالتَه حتى أنه يموت في أحضانِها هاربا من فشله الذريع في أن يكون فردا من النظام الاجتماعي و السياسي و كأن الفضاء الروائي ذاته مقسوم طبقا لقوانين الصراع بين الأم الغائبة و الأب المسيطر و بين الطبيعة التي يمرح في أحضانها و الدولة التي لا تملك إلا سيوفا تسلطها بلا هوادة على روحه الممزقة.
و لكن أليس النظام سوى روح تأسّنت و تيبّست و فقدت مرونتها، أليس على كل عصر أن يصوغ روحه الجديدة و يدافع عنها؟ أليست المؤسسات التعليمية هي الأوْلى بتقبل تلك الروح في بُرعمها و توجيهها إلى سماء النقد و الاختلاف و إلا تجمدت في مهدها و صارت أشبه بشجرة عجوز لا يفيدها مطر؟ سيظل الصراع بين الروح و النظام قائما ما دام في الإنسان نبْض و حين يكف السؤال نتأكد أننا في عصر الإنسان الآلي.
المصدر
رواية "تحت الدولاب" لهِرمان هِسّهْ
ترجمة أسامة منزلجي
دار حوران للطباعة و النشر و التوزيع-سوريا