آخر الأخبار

المنصف المزغني: مظلمة الصرار

و مُغتصبة بما يكفي لعدم قول أي شيء لا يحمل تاريخها و ندوبَها و قهقهات بلاطاتها و صرخات زنازينها و الوعيُ بمعادلة اللغة و تاريخيتها في علاقتها بالواقع الذي لا يختلف فيه الحاضر كثيرا عن الماضي يجد الشاعر نفسه بين خيارين فإما أن يُسكنَ اللغة َ مساكنها القديمة أو أن يجد لنفسه مكانا جديدا ينمّ عن عبقرية عصرية تجعل للشعرية مفهوما جديدا غير مألوف قد يقبله البعض و قد يرفضه البعض الآخر و لكنه دفاع عن دور الصرار في علاقته التاريخية بالنملة و اُفتكاك لحقه الشرعي حسب منصف المزغني في اُعتبار أن ما يقوم به لتسلية النملة عمل في حدّ ذاته لا يقل جدية عن عملها فعمل الفنان يساهم في رفع إنتاجية المُجتمع و بالتالي فهو شريك في الجهد و الثروة فكيف تنقل منصف المزغني إلى هذا الدور و هل أثمرت نظريته تجربة قابلة للتعميم أم أن لغتَه قد عرفت مزالق لم تُضِف إلى الدور القديم دورا جديدا؟
لقد مرت تجربة منصف المزغني بثلاث مراحل فكانت المرحلة الأولى التي وازى فيها الوعيُ السياسي و الاجتماعي تشكيلَ اللغة أما المرحلة الثانية فكانت مرحلة الخيبة الإيديولوجية التي عرفها جيلـُُه و التي كانت فيها اللغة ُ صراعا مع التشيُّء و خلقا لإيقاعية معينة تقوم على قصائد ومضية تكون الفكرة فيها مكثفة دون إخلال بالمعنى أما المرحلة الأخيرة فقد اُنفلت فيها لجام الشعر من يد صاحبه فصار يبكي شعرية أضاعها لا يدري أين و لا كيف و لكن هذا التدهور هو من صميم عمل اللغة لأن للغة حياة بذاتها تنفصل عن تجربة صاحبها و قد تطير به سماءات مُجازاة له على صدق الطريق و قد تنزل به أراضينَ جزاء له على إضاعتها لأن دور الشاعر يظل ضروريا في المجتمع و قد يحتاج منكَ المجتمع رسالة-كلمة في فترة ما تعبر عنه فيتبناها فتدفعه إلى صنع واقع مختلف و ليس غريبا أن يتخلى عنك المجتمع لأنكَ تخليت عنكَ.

*المرحلة الأولى: الشعر المقاوم (السبعينات)
لا بد أن تكون جغرافيا المبدع مختلفة عن جغرافيا الواقع و مُركبة حسب مناخه الإبداعي و بقراءتنا للقصائد الأولى للشاعر نجد أن جغرافيته بقدر ما كانت محلية حميمة تتعلق برائحة الأرض و لون السماء و حُمّى الجسد القريب بقدر ما كانت حضارية عربية مسائلة للتاريخ فقد كانت علاقة الشاعر باللغة في تلك المرحلة إشكالية تمثل كل ما في التجارب الأولى من تفتح بدائي للوعي الإجتماعي و السياسي و من نبوءة تتعلق بما يأتي من الأعمال المكتوبة تبتدئ بخمر (عناقيد) زائفة الفرح لا تجدي و لا تهَبُ حلا و تنتهي بفراغ مُفلسَف يعطي للأشياء حجما صوتيا أكثر من حجمها المعنوي ليقول أنه الفراغ إلى الفراغ و الجوع إلى الجوع أقرب منه إلى فراغٍ فاُمتلاءٍ و جوعٍ فشبعٍ.
يعكس ديوان "عناقيد الفرح الخاوي" موقف الشاعر من قضاياه اليومية و الحضارية في علاقته بالشرق مكانا و زمانا و رؤية و لا تمثل هذه الأبيات المتنوعة رغم قوة أصواتها من حين لآخر إلا تفسيرا للخيبة، خيبة الواقع و خيبة التموضع الجغراسياسي و الذي لا يؤدي إلى حل بقدر ما يشكل نزاعا ينضاف إلى الواقع المحلي "زهور البطالة فواحة/ تدق المسامير شرقا و غربا/ و من أضلعي شيَّدوا قوس نصر/ تأملتُ لحمي و جسمَ المدينة/ دعتني المدينة/ كي لا أقارن/ و لكن جسمي تمعدنَ من لحمها/ لقد جوّعوكِ و صاحوا فقيرة" ص18/19 هذا التوزيع غير العادل للثروة يجعل ألم الشاعر مُضاعَفا في علاقته المتماهية في المدينة فهو يرى بؤس المدينة التي أحبها من جهة و الطيور الضخمة التي تنهشها فينخرط ضمن علاقة أوديبية بين الحاكم و المدينة و لكن تماهيه فيهما معا يجعله ممزقا بين "أنا" و "نحن" و يجعل الصراع غير متكافئ و الخلاص غير معروف النتائج لأن الشاعر في هذا الديوان يساوي نحن و لكن نحن لا تساوي الشاعر و هذا ما يخلق الشرخ في الأنا الشاعرة ضمن علاقة في اُتجاه واحد إذ يصير كدون كيشوت يحارب وحيدا و يتماهى مع الشجر دون البشر و مع العاصفة لِتَكُرَّ و مع البحر ليزمجر و يقلب الأوراق "خريطة المدينة/ ملفوفة في صك/ و الصكّ في "صكّوش (حقيبة يد)" زوجة الخليفة/ و زوجة الخليفة/ تموت في طائرة "البووِينق"/ قد ضاعت الخريطة"ص6 فالفقد يتعدى الشعور إلى الوعي و يتركز كجريمة تسلط عليه من الخارج لا كمأساة وهمية يتغذى منها شعره و صورة الشعب في الديوان قائمة على مفارقة فهو من جهة "الشعب الجائع/ الخاضع/ الخانع/ الراكع الرافض أن يستفيق"ص12 و هو من جهة "عملاق"ص6 و هو "الخالق القادر/العاشق الشاعر/ الزارع الجائع/ الجامع المانع/ و هو الصديق الصديق"ص12 إن هذه العلاقة المتكسرة في بنية الشعب ذاته و بالتالي في رؤية الشاعر له هي التي تجعل تأثير الشعر محدودا في الواقع لأن الشعب و إن كان قوة طاغية إلا أنها نائمة حتى تصحو و إن كانت قوة فوضوية فليس الشاعرُ الشخصَ المناسب لقيادتها و هكذا يظل عشق الشاعر للشارع عشق اُستلهام لا عشق قيادة إذ يظل الشعر يعيش في قلب المفارقة دون أن يستطيع تغييرها لأن تغييرها قد لا يكون في صالح الشعر و إذا كان عدد من شعراء العالم قد جمع بين العمل السياسي و الشعر فقد كان ذلك على حساب أحدهما.
و تبدو المرأة كموضوع شعري في ديوان "عناقيد الفرح الخاوي" كرمز للمؤنث أكثر من أن تكون جنسا بذاته فالمرأة هي الأم في هذا الواقع الموبوء "الأمهات يحملن القفاف لأبنائهن/ الأمهات تطلعن للجرح في عورة الإبن/ للقرح في حلمة البنت/ فهمن الذي قد حدث/ و لكن../ إذا ما اُستفاقت ضحايا على وقع/ سِكينة في مياه العرَق/ يطير التسامح من صدرنا"ص13 فالأم في هذا المشهد تظل في قلب الصراع بين مختلف الأطراف و لا تستطيع أن تنتصر إلا للشعب وللمكان و هي تجتر ثـُكلَها الدائم و المرأة هي المدينة "أعانِق وجهَك قبل بداية أي حديث يطولُ/ أبوس الشفاهَ/ و هذي الشفاهُ/ تُنَزنِزُ قيْحا/ و تقطر ملحا/ و وجهُك هذا المليحُ/ المقطبُ أجمل/ من أي يوم مضى/ و يسألني الماء و الملح و النفط و الزيت/ لكنني اتعثر/ و أكتشف اليوم أن العلاقة بالبحر عاطلة/ و أن العلامة في الموج باطلة/ و أن البحار لـَتَكتبُ تاريخها في صِحاف التواطؤ"ص16
و لكن ألا يتغير الحب حين يتغير كل شيء من حولنا؟ " تعالي إذن/ سوف نبني علاقة عشق جديدة"ص14 فالعشق في الحصار و في الحرب و في الغربة يأخذ طعما آخر، طعم الوعي بالمرارة و لا يظل محتفظا ببداهته و بداءَته فلا أحد من الطرفين يستطيع تجاهل الدمار من حوله و العذاب الذي يتلبس بالروح و يقبض على اللحظة في اُلتِماعَتِها و كما تتلبس القضايا اليومية بالروح نجد الشاعر يتألم من صيغ أخرى للعلاقة في إطار الوطن الصغير و الكبير "أخي يا أخي يا اُبن أمي/ تُرى صِرتَ خصمي/ و ذاك اُبنُ عم بثوب اُبن عم و لحم عدُوّ/ و إنهما الآن في الحلبة/ يبوسان طِفل الوفاق/ فأسأل كيف العبور إليك/تشخّصَ داءُ القضية/ و حُلما تجلى دواؤك/ فلا طفل يُولد/ و لا جرح يُضمد/ و لا شيء يحدث فجأة" ص20/21.
هل لدى الشاعر مشروع أم أن أطراف الصراع أقوى من أن يكون للفعل الشعري جدوى فأطراف الصراع هي المكان و الزمان و الإنسان و هي اللغة أيضا بما هي تاريخ و أداة بل إن اللغة تفقد معناها إذا تجاهلت صراعاتها و تصير مجرد حالة من الهذيان تعكس رؤية غير واضحة للواقع و اللغة. إن الإطارَ الحضاري مُلزَم به المُبدع مهما اُدّعى المُعاصرة و اُجترح الأساليبَ الحديثة و لأن الماضي مُتلبس بالحاضر و لأن الحاضر جنين الماضي "و إن فرانكو مازال يُعشش في الأرْز اللبناني/ و أحفاد الحجاج الثقفي/ و أولاد المنصور السفاح/ مازالوا في حمّام الدم/ فعلى هذا اللحم اُكتظت بصمات بني هاشم/ في أيلول الأسوَد/ كان العرس الأموي/ مزهوّا بالعرش الدموي/ و ما عاد بوجه الرزنامة يوم أبيض/ ما عاد بها وقتُ حوار بين الذابح و المذبوح"ص32/33 هذه القراءة التي تتبنى مشروعا آخر غير مشروعها أو يرمي عليها الحضاري بظلاله فتتماهى معه و هي تنتمي إلى جغرافية حافة لا جغرافية مركزية يعيدنا لتلك الحقبة القومية التي كان فيها الوطن العربي من المُحيط للخليج مُتجاهلا فوارقَهُ مُذيبا إياها في ذات البوتقة مما يُعطي أبعادا هلامية للهوية المحلية و يربطها بهموم غير همومها و مجال ابستيمي غير مجالها بل تبدو في هذا الديوان قَمعا يُضاف إلى القمع و منعا مُضافا إلى المنع و سَرقة تردُف سرقات "و البحر الليلة منهوك بالجزْر الممتد على الأفق الشرقي/ و منهوك بالجزر الممتد على الأفق الغربي/ همست سُفن/ لن تُشرق شمس الإقلاع من الشرق/ و لا/ لم/ قطعا/ أبدا/ لن تطلع من غرب/ كيف ستشرق و هي الوهج الأرضي/ الطالع من صدر الشعب/ هل داخلُ بيتِهِ في العرف العصري يُسمّى سارق/ هل كاشف أسرار المتواطئ في خيمات النصر المهزوز/ دعِيّ نمّام مارق"ص49/50/51 تنكشف عند محاسبة التاريخ كل خطابات التبرير و التفسير و التشفير فكلّ شيء يبدو غريبا إلا رائحة الأرض و كل شيء يثير ألف سؤال و سؤال إلا حرارة اللّحم و شهقة الدم و خمرة البلاد فهناك يرتاح المُنهَك و تجف الدمعة التي طالما اُستقرت في المُقَل لا تُرَدّ و لا تنزل و على صدر قصيدة أو أم أو حبيبة قد يزفر المشتاق زفرة تطير لها أشواك القلب فلا تُبقي غير السلام..السلام..

*المرحلة الثانية: الشعر الساخر (الثمانينات): ديوان "حبات"
اِنتقلت كتابة منصف المزغني من مرحلة الزخم التي تعرفها كل البدايات الإبداعية في شكل غليان غير مرتب لأفكار و عواطف و مواقف إلى مرحلة قام فيها الشاعر بالإشتغال على اللغة اشتغالا غير مألوف فقام إلى الشكل يشاكسه و يُطوّعه دون أن يتجاهل تماما قضايا البدايات فاُشتغل على الاشتقاقات و الأضداد و الطباق و التوريق محاولا أن يخرج بالقصيدة من بنيتها العمودية الجامدة من جهة و من الضوابط التي يلزم بها شعراء النثر أنفسَهم من طرح نمطي لمواضيع نمطية إلى فضاء يخلع القداسة عن هذه اللغة باُعتبارها لغة الأب و المؤسَسة ليصنع موسيقى شعرية خاصة به كأن يقول:"لص معروف/ وضع الإكليل/ على قبر الجندي المجهول"ص18 فكأن عجزهُ عن تقويض المؤسسات التي تصنع هذا الواقع الموبوء لم يترك له خيارا إلا تقويضَ مؤسسة اللغة "خروف/ دخل البرلمان/ قال:/ ماع/ فجاء الصدى/ إج..ماع"ص20 كما أنه يصنع شيفرة خاصة فيما يخص العالَمَ السياسي فلا يقول الكلمات بصفة مباشرة بل يعبر بشخصية الحيوان عن بعض الإنسان "العقرب/ لا يلسع/ .../..../ في التلفزيون"ص20 و يعبر عن مشاغلَ طبقية بنفس الأسلوب "ارتفاع البنايات/ ارتفاع أسعارها/ أزمة الإسكان/ أشياء...لا تهم الحلزون"ص30 و يعبر كذلك في مكان آخر من ديوان "حبات" عن تحول الحب إلى فعل اُصطناعي لا يمت للعواطف في مؤسسة الزواج"ماذا تفعل/ وردة البلاستيك/في المزهرية/ في غرفة الزوجية؟"ص40 و قد يمتد البلاستيك إلى حياة الشاعر نفسها فلا يستطيع إلا أن يحاسب نفسَهُ رغم الوجع "أم الشاعر قالت/ يا اُبني/قتل الله الفقر/ لا أملك أوراقا نقدية / لشراء الحبر/ و أبوك/ لم يترك إلا/ ريشة بط برية/ بالريشة صار الشاعر يكتب أغلى الشعر/ و الأم تدوّن هذا الغليان بحبر الذاكرة الشعبية/ حتى دوّى في آذان القصر/ كان بريش البطة/ يكتب أشعارا ذهبية/ أما بالقلم الذهبي/ فلم يكتب/ غير/ كلام البطة"ص53/54/55
فهذا الشاعر "البرّي" دخل القصر فقـُلِمت أظافرُهُ و صار أليفا..ألم يكن الثمن غاليا؟ و لكن يبدو أن النوتة السياسية في العالم الثالث لا تخرج عن ذات الوتيرة مهما اُختلف الزمان "طيور قد جوّقت صوتَها/ جميع الطيور تؤلف دولتها/ دونما شرطة للزفير المُوفـّى/ على برلمان مُقفـّى"ص103
و في موضوع الحب يخرج الشاعر عن القالب ليشاكس اللغة و الحب "أحبكِ/ قلتُ/ أجبتِ/ كلام قديم/ و لكن حبكِ فعل جديد/ أحبكِ حتى أقاوم طقس الجليد/ أحبكِ/ تبقى كلاما قديما/ بنا يستبدّ/ و ضاعت حقوق مؤلفها/ للأبد "ص125/126
لقد كانت هذه المرحلة الإنتقالية على ما فيها من قوة و ضعف في الصناعة مرحلة جريئة على مستوى الأسلوب كان بالإمكان أن تؤرخ لطرح جديد عبر تفكيك التابوهات و إدخال رموز الجمادات و الحيوانات للتعبير عن ثورة ما أو سخرية أو نقد بأسلوب يخلو من البلاغة الكلاسيكية و الرمزية المغرقة و إذا كانت العلاقة بالمكان و التاريخ في المرحلة الأولى متجذرة في حاضرها تستعيد الماضي من حين لآخر لنقده و إن كانت المرحلة الثانية قائمة على البتر تستعدّ لواقعها بحالة من الإنتباه العصيّ تعكس تشظيا للواقع الزمني فإنها في المرحلة الثالثة طللية تشهد اُنتكاسة الوعي الشعري إذ تطـْبِق الكتاب على أسئلتها و لا تبحث عن مُساءلة المُبتدأ و المُنتهى بل كانت فيها اللغة طرقعة نافرة لا تؤدي إلى طريق.
*المرحلة الثالثة: انتكاسة التجربة (التسعينات و ما يليها)-محبات-
تمسكَ الشاعرُ في هذه المرحلة بالبنية العمودية للقصيد دون أن يجيد التحكم في عَروضِها فكانت كتابته مجرد تقليد فجّ لأسلوب قديم (العمود) و غرض قديم (الغزل) إذ يتقوقع فيه كما لو كان يكتب قصائدَه الأولى مستكينا لخطاب لا يحمل أية هوية يمكن أن يحمل كاتبُه أي مُسمّى و تكون المعشوقة فيه أيضا تحت أي مُسمى :"فتح القلبُ طريقا/ ساقني يوما إليكِ/ شبّ في عقلي حريق/ قادم من مقلتيك/ كم بنى العشق منازلْ/ ثم هزتها زلازل"ص172/173 و يقول في مقام آخر: "التي/ أنتظر/ لم تصل/ ربما اُنتظرتْ/ وردة في الصباح/ لذا سهرتْ/ و لذا لم تصل/ و التي لم تصل/ أنتظر/ ربما أوقفت/ ربما/ عُلقت في جدار/ ربما سُلخت في مطار/ ربما فالتي أنتظر/ أنتظر"ص176/177 و هكذا تتحول التجربة الشعرية إلى عملية رصف للأصوات تخلو من أي عمق و أي فكر و أي وعي بالعملية الشعرية بل تتحول التجربة إلى "وان مان شو" سعيا لتحويل الغرض الشعري إلى فن قابل للعرض على غرار المسرحية و الأغنية و توشيحه بحكاية يقع ضفرها مع النسيج الشعري لجلب انتباه السامع و عنوان القصيدة "أغنية اُمرأة عائدة من الحرب" دون أن تكون للقصيد علاقة بالحرب من قريب أو بعيد و يقول فيها:"أنا أختكن/ أغني لكـُنّ/ أنا يا صبايا/ أخيات..يا/ يا سفيرات حواء حذرتكن/ من الحب فالحب نار و نار و نار و هيا اُبتعدن/ و أوصيتكن/ بألا تصدقن شِعر الرجال/ إذا ما اُستعاروا لسان النساء/ فتِلكـُن مهنة"ص192/194 و له قصائد كثيرة على هذا المنوال منها"أغنية امرأة مسروقة" و "أغنية امرأة صامتة" و "أغنية اُمرأة لا تنام" إذ يستعير شخص المرأة ليعبر عن تأنث التجربة بعد فحولة و عن اُستدراج الأضواء الاصطناعية للحياة الشعرية التي هي باطنة بالأساس فإن تعرّت فلا ترضى بأقل من النجوم مقاما و لن يستدرجها الضوء إلا للأفول و التلاشي.

خاتمة

ليست القصيدة مصادفة ً لغوية و لا شغبا فكريا إنها خميرة الوجدان و خمرة الروح، حركة موتورة إلى أعلى سماء في لحظة معلومة يتجرد فيها الجسم من الجاذبية الفيزيائية و الجمعية ليعانق الإيقاع الكوني و القصيدة في بلدان المغرب خصوصا لها تركيبها الفريد الناحي إلى التجريد و مناخها الذي يحمل جراح السلاسل الأطلسية و روائح حنطتها و عواء بارودها في ليالي الإستعمار الطويلة و نهار الثورات المقموعة هنا و هناك بين أبناء الجلدة الواحدة و رائحة بحرها الذي كثيرا ما باع أسماكَهُ ليُطعمَنا سمكا مُستوردا يحمل طعمَ الخيانة. فكيف يتفرغ الشعراء للعبث بالحروف ضمن لعبة شعرية تنقلب عليهم لا محالة رغم أنهم أدرى الناس بشحنتها الإستعمارية و بمزالق سوء اُستعمالها ضمن مِظلة الولاء لنظام سياسي مُعسكر و نظام سوسيو-ثقافي منغلق وافد علينا عوض تناولها بالنقد الكافي و هي تُشكل حياتنا و تصوراتنا لِذاتنا و للعالم..
و نظل ننتظر أن يكتب الشاعر قصيدة عمره التي لم يكتب بعد علها تترك كلمة يسير بها الناس زمنا كلمة تطلع مع الفجر، كالفجر تقول لا للفجور، فجور النوايا و بيع الأوطان تحت الطاولات.

المصادر:
عناقيد الفرح الخاوي-ديميتر1981
حبات و محبات-كتاب دبي الثقافية