و تملك الفكر و لكنها تعتّقه في ثلاجاتها حتى لا يزعج مناصب المتنفـّذين فيها.
لقد تغنى كثيرون بأننا اُكتفينا بقشور الحضارة الغربية و لم نأخذ لـُبّها و لكن هل اللب خفي لهذه الدرجة حتى أننا لم نتوصل إليه و لم نتعرف عليه؟ إن لـُبّ الحضارة الغربية هو سيطرة الإنسان على العالم الذي أدّى بدَورهِ إلى وهم تحكُمِ الإنسان في نفسه و السند في ذلك هو التبجحُ اللانهائي بالعقل كمادة قائمة بذاتها مستقلة عن غيرها قادرة بمعزل عن كل أدوات الإدراك الأخرى أن تقدم الحقيقة... و لكن ماذا حدث تبعا لذلك؟ نجم عن ذلك تأليه للفرد و عبث بالقيم سواء كانت هذه القيم اجتماعية (بقطع النظر عن مدى صحتها و خطئها) أو إنسانية أو عائلية فصرنا نشهد تساهلا عاما في أهمّ القيم و اُستقالة للعائلة و المجتمع من وظيفتهما القيمية و قد اُنتبه لذلك علماء الغرب لأنّهم شهدوا هذا الخلل قبلنا أمّا نحن كشعوب حديثة العهد بالفرديّة فقد اُبتلعنا الوردة بشوكِها و لم نأبه لخطورتها علينا لا كمجتمعات تتكون من أفراد فحسب و لكن كمجتمعات تملك رؤيتها الخاصة و لكنها تضعها على الرف لتتبع رؤية موازية لا تمتّ لتاريخها و لا لما يناسبها من فكر و من أسلوب عيش.
و قد نتج عن اُتّباعنا للنظريات التربوية الأجنبية أننا تبنينا منظومة التعلـُّم مقابل التعليم فجعلنا المتعلم أساسا في العملية التربوية و دُسنا على المعرفة و قناتها الأساسية و هي الإنسان أو المُدرّس و عوض تحديد مجال التعلم في الإكتشاف و إبداء الرأي و ترك الباقي للمدرس لإدارة المعرفة و إشعار المتعلم بهيبتها لا بقداستها قدمنا للمتعلم هامشا يجعله يستغني عن المدرس و يعوضه بالالعاب التفاعلية و البرمجيات الرقمية و لكن هل يعوض هذا وظيفة المدرسة كمؤسسة و هل يوفر ديمقراطية التعليم و عدالة توزيع المعرفة؟
و نتج عن اُستهداف الاقتصاد لشريحة الأطفال و إفرادهم ببضائع خاصة بهم و تنمية فرديتهم من خلال توسيع الاختيارات أننا صرنا نعتبر الطفل في البيت ملكا و ليست المَلكية مُسوّغة لمن لم يبلغ من الكبَر عتيا و إنما كان ذلك بسبب غياب المرجعية التربوية و نظام العمل الذي يجعل كلا الزوجين غائبا عن البيت طول النهار مما يدفع الأبوين إلى التعويض اللاشعوري بالمال سواء كان نقدا أو عينا و ليس الطفل غبيا ليعجز عن إدراك المساومة التي تحدث و يكون فيها المال مقابل التربية و الحنان و لهذا فهو يُمعن في اُستغلال الأبوين ما يجعلهما في دائرة مُفرغة من الضغوط الاقتصادية (نظام العمل و الأجرة) و النفسية و السياسية و هكذا يتعلم الطفل اعتبار التربية و الحنان و القيم بلا معنى و أن المال قادر على تعويض أي شيء و بهذه الفلسفة الميكيافيلية ينشأ الطفل كحلقة من حلقات التوريث التي ستنقل خبراتها إلى الجيل الموالي و أيُ خبرات؟
لقد ساهمت هذه الأنساق الفكرية الفاسدة في تثوير الإقتصاد و صار الاقتصاد الرأسمالي وحشا أكولا يستمتع بطحن عظام الفئات الضعيفة فيزيد الفقيرَ فقرا و الغني غنى و إزاء الوهم الذي تبيعه الشركات للحصول على أرباح أضخم ساهم الإقتصاد في فساد العلاقات الإجتماعية بتكريس الفردية و اُستفزاز الغرائز للهث وراء الأفخم و الأغلى و لأنه يُشعر صاحب المنتوج بالسيطرة أو السعادة أو الأمان أو الرجولة أو الأنوثة و هذه الأوهام التي يبيعها الإشهاريون تلقى رواجا لدى كل الطبقات فتتبناها و من لا يستطيع شراء سيارة يشتري هدية في عيد الحب و يجب أن يكون عصريا فيشتري أكثر من هدية، هدايا كثيرة بعدد "الحَبيبات" و قد لا يستطيع تقديم هدية لحبيبته الحقيقية لأن هذا النظام الإجتماعي القائم على المظاهر يقتل المشاعر الحقيقية فيخفُتُ نورُها أمام الأضواء الإصطناعية المُبهِرَة.
لا يفتأ الإنسان يَعُدّ خسائره المادية و لكنه لا يلتفت للكارثة القيمية التي تعصف بالمجتمعات و ما نتحدث عنه اليوم من تصاعدٍ لوتيرة العنف في العائلة و المؤسسات و الشارع و العنف الذاتي ليس إلا انعكاسا لهذا الفراغ القيمي الذي أعلى شأن الفرد دون أن يُغذيَهُ بالقيم البنّاءة التي تجعل منه فردا صالحا و ثروة في المجتمع و ليس إلا اُنعكاسا لأنظمة العمل المستوردة و المشاعر المُبسترة و الأفكار التي تتبناها الحكومات دون أن تستشير أصحاب الخبرات في بلدانها.
إن اُستقالة المدرسة و العائلة و تبنيهما -دون وعي- للنظام الإستهلاكي لا كنظام سلعي بل كنظام فكري يبرر الوسيلة و لا يعطي للتربية و المعرفة دورهما الأساسي هو الذي يجعل ثوابت الطفل الذي سيصير رجلا أو امرأة ثوابت هشة . ماذا يعرف الطفل في عصرنا عن الوطن عدا أنه موضوع في المقرر المدرسي، ماذا يصدق الطفل عن الأبوين عدا أنها شبحان يراهما في الصباح مرة و في المساء مرة يظهران ليغدقا عليه المال أو ليُمطِراهُ بسَيْل من النصائح أو المخاوف عن الحياة و العالم الخارجي ثم يختفيان إما للنوم أو للعمل؟ ماذا يعرف الطفل عن الطبيعة و الكون و الجمال و هو يعيش في بيت صندوقي تحيط به بيوت مشابهة له حد التماثل. كيف نطالب أطفالنا بالخيال و البحث و الاختلاف و لا مصادر لديهم لتحفيزه أو تغذيته حتى الجدة سرقها نمط الحياة السريع و لم تعد تجد وقتا لنفسها مع اتساع العائلة و ربما كان الجد غارقا في العمل و إيجاد مداخيل جديدة تعينه على تكبد مصاريف الحياة و إعالة ما تبقى من الأولاد الذين يواصلون تعليمهم إلى مرحلة متقدمة من العمر قبل الظفر بعمل.
أليس على أرباب العائلات و المسؤولين أن يقفوا وقفة مراجعة للذات و يستعيدوا القيم التي تربوا عليها و لا يحرموا منها هذا الجيل الذي قد لا يتفق معهم في الأولويات و الاختيارات و لكن تظل قيم الأخلاق و قيم العمل أولوية الأولويات لكل مجتمع و لكل فرد و من حقه أن يعي بها ليعرف أن سببها أساسا هو التبعية الاقتصادية و الصحية و الرقمية و السياسية فيعالج الأسباب و ماذا سيورث الطفل الذي تربى على التواكل أبناءَهُ و كيف يسلك في حياته الطفل الذي يعلم أنه قادر على دَوْسِ المعرفة و المُدَرّس لأن أنظمة التقييم و الاختبار قابلة للاختراق و مُصمَّمة بطريقة تجعل العشواءَ تحصل فيها على علامة مقبولة، ماذا ستكون فكرته عن العلم و العدالة و الأخلاق و الاعتماد على النفس؟ إننا ننشئ كائنات طفيلية إذ ننشئ أطفالنا بهذه الطريقة و ليس على الآباء أن يشتكوا جحود الأبناء فهم من علموهم قطع جذورهم بأيديهم و الكسب السهل و السريع و لهذا يجب إعادة تأهيل المجتمع قيميا و وجدانيا عبر العائلة و المدرسة و عدم تسييسهما و لنحْمِ طفولة أطفالنا لأنها المرجع النفسي و الأخلاقي الأول و الأخير للفرد.