ادوار شمعون
في حفل استقبال السيد الرئيس بشار الأسد ببلدية أثينا مساء الثلاثاء 16/12/2003 وضمن فعاليات اليوم الثاني من زيارته والسيدة عقيلته التاريخية لليونان ورد في الكلمة الترحيبية للسيدة دورا باكويانيس عمدة مدينة أثينا قولها الهام التالي:
(أهلاً بكم في عاصمة دولة تربطكم بها روابط قديمة)
(كاتب الأناشيد الذي ولد في عاصمتكم دمشق كتب الأناشيد الرائعة التي ننشدها باستمرار في كنائسنا الأرثوذوكسية)
(في أرض سورية نمت أيضاً العلاقة الحضارية المنتجة بين البيزنطيين والعرب)
(كانت التأثيرات المتبادلة هائلة في الفن المعماري وفي الموسيقا والتقاليد الشعبية وفي أمور أخرى) (البطل المعروف من العصور الوسطى ذيينيس اكريتاس والذي يعتبر شعره العظمة الأولى لأدبنا باللغة اليونانية كان يطلق عليه ذيينيس لأن نصفه كان عربياً)
وكان السيد الرئيس قد ألقى بعد توقيعه على بيان الشخصيات العالمية لتأييد الهدنة الاولمبية، الكلمات المتميزة التالية من مجمل كلمة سيادته الهامة:
(ليس مصادفة أن أوقع هذه الاتفاقية الآن في أثينا، لو عدنا إلى التاريخ المشترك لرأينا أن التاريخ اليوناني موجود في سورية والتاريخ الروماني تواجد في سوريا وفي اليونان، ونحن أعطينا للإمبراطورية الرومانية خمسة أباطرة من سورية، وهذا يعني أننا قبل ألفي عام كنا قادرين على الحوار).
الشعر مفخرة للعرب وسفر لحكمتهم وبطولاتهم ومساجلاتهم الوجدانية حفظاً ونقلاً عن الأقدمين والمعاصرين، وهو أرفع علوم الأدب والتربية لديهم، وكلمة شعر Shaer شاير تعبير قديم معروف متوارث منذ عهود الاكاديين والسومريين في أرض الرافدين، وأن أقدم نصوص شعرية وجدت منقوشة على ألواح ورقم وجدران وتماثيل يرجع تاريخ كتابتها إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وكان أهمها على الإطلاق ملحمة جلجاميش الأكادية، التي نظمها وأنشدها ابن الرافدين، أناشيد وتراتيل تتعلق بالموت والحياة والخير والشر والنعيم والجحيم والخلود والفناء وغيرها من المواضيع المصيرية الهامة التي شغلت فكره واهتمامه، منذ أن بدأ يعي وجوده ويسائل عن أسبابه ويفسر ظواهره.
إن الكلمة العربية حين تنتظم شعراً تغني والنغمة العربية حين تتموسق نغماً تتكلم، للكلمة العربية تفعيلات البحور: فاعلن وفعولن ومفاعلين ومفاعلتن ومستفعلن وفَعْ أي حركة وسكون (/ ه)، بينما تجيء الكلمة في أغلب اللغات الأوروبية على أبسط وزن عربي هو فَعْ أي على وزن السبب الخفيف، والنغمة العربية تتكلم لأنها تنطق بكل الأنغام العربية وألوانها من بيات وراست وسيكاه وهزام وصبا وحسيني ونهاوند وعجم وسواها من ألحان كثيرة تتفرع عنها، بينما تنطق النغمة الغربية بنغمتين هما الماجور والمينور وبعض الألحان القريبة منهما والتي لا تحتوي على ربع نغمة.
لقد كانت الموسيقا العربية دوماً، وريثة موسيقا أرض الرافدين وسادت موسيقا الدنيا حتى مجيء (باخ) في منتصف القرن السادس عشر الذي اقتصر تلك الألحان البديعة اللامتناهية في هذين اللحنين المينور والماجور وما يجاورهما من ألحان محدودة.
ولقد نقشت ملحمة جلجاميش هذه على اثني عشر لوحاً من الآجر المشوي كتب على كل لوح من هذه الألواح نشيدٌ خاصٌ بموضوع معين فلوح لجلجاميش وثان لأنكيدو وثالث للطوفان إلخ ... وغير ذلك من مواضيع استحوذت على اهتمام الإنسان في أرض الرافدين فنظمها شعراً ولحناً، فلما تكاملت شكلاً ومضموناً كتبها باللغة الأكادية والخط المسماري وغناها وعزفها على آلته الموسيقية الكنارة HARP وذلك بألحان كانت تسمى بأسماء أوتارها باللغات الأكادية والسريانية والعربية وغيرها:
الوتر الاول: إيشاتو وهو البايا والبياتي
والوتر الثاني: كيتمو وهو الهوسونو والحسيني
والوتر الثالث: أمبوبو وهو الاوراك والعراق
والوتر الرابع: بيتو وهو الرازد والراست
والوتر الخامس: نيد قبليت وهو الأوجو والأوج
والوتر السادس: نيش كاباري وهو الصْبْا والصَبَا
والوتر السابع: قبليتو وهو الحاجو والحجاز
هذه المقامات الأصلية أصبحت أيضاً المقامات العربية المرتبطة بأوزان الشعر العربي وبحوره، وبعزفه على العود وغيره مثل طويل بالبنصر ورمل بالخنصر في مجرى الوسط وبسيط بالوسطى إلخ ... وذلك بحسب ما ورد في كتب الأغاني للأصفهاني.
و لقد سرت ملحمة جلجاميش في سوريا كلها ثم في المشرق العربي واوروبا والعالم بأسره فكانت منها الالياذة والأوديسا في بلاد اليونان وكانت الكوميديا الإلهية لدانتي في إيطاليا ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وغيرها... وسرت أخيراً تراتيل سورية أواخر القرن الرابع إلى بلاد الإغريق وأوروبا عبر القسطنطينية التي نقلها إليها الراهب السوري يوحنا الذهبي الفم (344-407)ب.م وذلك كما ذكر المؤرخ الراهب السوري تيودوريت، فالأمم التي آمنت بدين السيد المسيح السوري مارست شعائرها الدينية بهذه الصلوات والتراتيل السورية التي نظمها شعراً ولحناً الراهب السوري أفرام السرياني (306-372)ب.م .
يقول المطران جورج هافوري في كتابه (السريان الآراميون) ص74: (لقد صرّح البابا بندكتس الخامس في براءته الرسولية التي أذاعها بمناسبة إعلانه القديس أفرام ملفانا (معلماً) للكنيسة الجامعة في روما بتاريخ 5/10/1920: في وسعنا أن نقرر بأن أناشيد الطقس الموزونة قد اقتضبت عن مار (السيد) أفرام السرياني وعنه نقل يوحنا الذهبي الفم إلى القسطنطينية ومار أمبروسيوس إلى ميلانوف ومنها ذاعت إلى الأقطار الإيطالية، وفي عهد غريغوريوس الكبير (604)م بلغت منتهى الرونق والكمال، والفضل في ذلك، على ما رواه رجال النقد المحققون، عائد إلى مار أفرام السرياني، الذي كان أول من ابتكر فن الموسيقا البيعية، وعنه نقل آباء اليونان واللاتين، وحين أرادت الأمم التي دخلت في دين المسيح السوري، أن تستوعب أكثر فأكثر أبعاد ومفاهيم ديانتها السورية الجديدة، ترجمت هذه الصلوات شعراً ولحناً ولكن بذات أبجديتها الآرامية السورية (أولف بيت جومل دولت) التي أصبحت الأبجدية العربية (أ ب جـ د) والأبجدية الإغريقية (ألفا بيتا غاما دلتا)، والتي أصبحت بدورها أبجدية كل أوروبا (A B C D)، فلما تلتها بذات مقاماتها السورية الأولى بقيت إيقاعاتها الموسيقية الشعرية كلها بذات بحور وإيقاعات وأوزان التراتيل السورية الاولى والتي هي أصلاً على أوزان أناشيد جلجاميش، ثم ما لبثت تلك التراتيل أن استقلت عن مواضعها الدينية واتجهت بذات أوزانها وبحورها إلى مواضع إنسانية أخرى كحب الوطن والإنسان والبطولة والعشق والكرم والبعاد إلخ... فكان ذلك إيذاناً بمولد الشعر لدى تلك الأمم.
ونستعرض الآن، أشعاراً من أناشيد هذه الملحمة الأكادية الفريدة، بحسب أطوالها الشعرية، اعتباراً من البحر السباعي، وحتى البحر الإثني عشري، ونقارنها بأشعار تقابلها عروضياً من بحور شعرية كلدو آشورية وسريانية وقريضية وزجلية، ثم نقارنها أيضاً بأبيات شعرية منتخبة أوروبية: يونانية وفرنسية وإنجليزية وأسبانية .
يتبع...
-الأبجدية الجديدة.