العالم كله يترقب الآن تلك الجزيرة الصغيرة في وسط الأرخبيل الرأسمالي، بعد تنحي كاسترو،" رفيق السلاح لتشي غيفارا". هل سيستطع السيد راؤول كاسترو بعد ان تجاوز الثمانين ان يقود الثورة بنفس حماس أخيه؟.
في آواخر القرن الماضي كنت في طريقي الي أمريكا اللاتينية وكنت أُمني نفسي بقضاء بعض الساعات في هافانا عاصمة الثورة الكوبية وملهمة الثوار في زمن الإشتراكية الذهبي ولكن حال الطقس بيني وبينها فأنتهى المطاف بي، الى فيردادو عاصمة السياحة الكاريبية، وتماما كما في كل الدول الإشتراكية تجد صورة الزعيم المفرد في كل الساحات ملوحاً بيديه في الهواء او مؤشرا باصبعه شارحا لفكرته أو قابضا بحزم على الزناد ، وكذلك تمتلي الحيطان بالشعارات والاهازيج .
بالاضافة ذلك تشعر وانت تتجول في شوارع مدينة فيراداو بآثار الاشتراكية واهازيج النصر تتلوها الموسيقي والاسبانية لشعب مرح راقص.
لقد أستنفدت الحرب على الإرهاب بعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي كل الطاقات الثورية للشعب الكوبي خصوصا، وكل الشعوب الحرة التي تحلم بامتلاك قرارها ، وتلاشى بريق ذلك التضامن العالمي الذي بذغ مع فجر دول عدم الانحياز في الخمسينات برعاية سوكارنو وناصر ، لقد تعرض نظام فيدل كاسترو الي هزات عنيفة بعد العام 1990 لعبت فيها الولايات المتحدة الأمريكية دورا عظيما بسنها لقانون ديمقراطية كوبا في العام 1992 وما تبعة من حصار اقتصادي أجبر كوبا على الأستدانة من المصارف والمؤسسات العالمية مما أضطرها بالتالي للتخلي عن برامجها الإجتماعية والاشتراكية من اجل سداد مستحقات الاقتراض، بالرغم من ذلك تعتبر كوبا الآن ومقارنة بمعظم دول الكاريبي الأخرى وكذلك دول القارة اللاتينية هي الأفضل، اذا لايوجد بها فقر ولاتشرد ومعدل الادمان على المخدرات بها قليل جدا.
وكوبا لقربها من الولايات المتحدة الامريكية، حيث تُشاهد معظم محطات التلفزيون الامريكية بدون الحاجة لأي اطباق فضائية ، ولوجود عدد كبير من الكوبيين يعيشون بالولايات المتحدة الامريكية ، يتطلع كثير من مواطنييها للهجرة الي أمريكا او على الأقل الحصول على المنتجات الامريكية مثل ما يسمح به لمواطنيي جامايكا وهايتي الرأسمالتيين .
وكوبا الآن مثال حي لما ذكره تشي غيفارا بأن "الثورة في بلد واحد ليست الا حلا مؤقتا لعدم المساواة" وذلك لاعتماد كوبا على السياحة ولكن السياحة تعتمد على البغاء وهو ما كانت الثورة الكوبية تحاول القضاء عليه.
الثورة الكوبية وبعد ان مضت أكثر من 60 عاما على اندلاعها استطاعت ان توفر الطعاج والعلاج والسكن، لكل الكوبيين ويبقى النقص في بعض الادوية بسبب الحصار الامريكي من الاشياء التي فشل كاسترو في علاجها، لعدم وجود البديل الاشتراكي الناجع او لعدم توفره في الصين، ولكن المواطن العادي في كوبا يطمح لاكثر من حياة التقشف والضروريات خاصة بعد قدوم السياح الاثرياء وانفاقهم ببذخ في الشواطيء الكوبية.
ويظل في صلب المشكلة الكوبية محاولة الحفاظ على الخطاب الالهامي لثورتها وبقاياها وارثها وايقوناتها ( بذة كاسترو العسكرية الملطخة بالدماء والتوثيق التصوّري لضحايا دكتوتارية باتيستا ) وكذلك ما تعرضه اللوحات الضخمة في ساحات كوبا التي تدعو الجماهير وتحضها على ان تكون مثل غيفارا ولكن كل ذلك اصبح غير كافي لجعل الناس يشعرون بالإمتنان أو ليقبلوا افتقارهم للحريات السياسية والاجتماعية .
هناك أشياء كثير جيدة في كوبا ولكن الناس يرغبون في حرية الاختيار ، حرية الاختيار للنظام السياسي ، حرية الكلمة والقرار وكذلك حرية ما يأكلون ويشربون.
بعد تبعثر الإتحاد السوفيتي كان الرئيس الامريكي رونالد ريغان متأكدا من إحتضار النظام الكوبي لذلك بداء في تشديد القبضة وجاء كلينتون ليوقع مشروع (The Helms-Burton Act) الذي كان يهدف الي إفلاس كوبا، ولكن كاسترو تعامل مع المؤامرة بحنكة وفتح بلاده للسياحة ، وعندها توقع الإقتصاديين الأمريكان موت ناعم لكوبا تحت ضغط الدولار الامريكي. ولكن خاب ظنهم فقد قاومت كوبا وستظل تقاوم حتى بعد رحيل كاسترو.
وفي محاولة لقراءة المستقبل الكوبي بعد كاسترو يعتبر الكوبيين بأن السؤال لايجب طرحه الابعد وفاته ، ويظل الهم الاساسي للجيل النأشيء هو الالتحاق بقوارب المهاجرين الهاربين جنوبا.
ما يحدث في كوبا الآن هو الايام الاخيرة لثورة اشتراكية أوفت بمعظم وعودها ، ولكنها الآن تصطدم بواقع اقتصاد سياحي يخدمه الكوبيين ولاينالون منه سواء الفتات ويحمل كل ذلك أرث عظيم من البنية التحتية في مجال الاسكان والرعاية الصحية ، محو الامية والتعليم. وسيظل الشعب الكوبي متمسكا بكل ذلك وعينه على ماحدث في الجمهوريات الروسية ، والخوف على كوبا من حكومة ينتخبها الشعب وتمولها الولايات المتحدة الامريكية تتحدث يسارا وتمشي يمينا تبشر بالاشتراكية وفي نفس الوقت تدمر مؤسسات الثورة الي جعلت من كوبا أنوذجا متفردا بعد أن وضعت الانسان في قلب اهتماماتها.