أخي، وسيدي رئيس الجمهورية، بشار الأسد، المحترم،
مما لا شك فيه أن من يتوقون للتحدث إليك هذه الأيام كثر، ولعلك تجد في طيات هذه الرسالة لسان حال بعضهم، على الأقل.
ما يدفعنا لكسر الحواجز والتوجه إليك مباشرة هو مزيج من الخوف على حال الوطن، والأمل بمقدرتك على تجاوز الصعاب. وسأسمح لنفسي فيما يأتي أن أخفف ما أمكن من عبارات التبجيل، والتي يستوجبها موقعك، و تفرضها علينا دماثة خلقك، لئلا أغرق الحديث في دوامة الخطاب العربي المألوفة.
سيدي الرئيس،
بعد أن مضت موجة الانبهار الأولى، أمسى معظمنا مدركاً لحقيقة أن التحرك الشعبي الطابع الذي بدأ مؤخراً في تونس ليس بأقل من قيامة للعرب طال انتظارها. جوهر هذه القيامة نفاذ صبر الناس من فكرة أن يسوسها راع من الخلف ويحملها على السير في اتجاه لا يعلمه سواه، ولهفتها في المقابل لأن يؤمها إمام يقودها من المقدمة نحو طريق واضح المعالم، متفق عليه مسبقاً. ليس الأمر خبزاً ولا اقتصاداً، بل كرامة أولاً وانعدام أمل ثانياً، وطموح آخراً.
ولئن كنا نعلم جميعاً طريقنا في السياسة الخارجية، ونتفق معك حوله ونسلم لك بالقيادة فيه، فالسؤال الذي يطرحه الكثيرون هو: إلى متى يمنعنا الخوف على وحدة بلدنا من السير علناً بهذا الاتجاه فيما يتعلق بالداخل أيضاً؟ وما الذي يمنع هذا السير من أن يكون مدروساً ومنظماً ويأخذ بعين الاعتبار أفضل ما توصلت إليه أنظمة الحكم في العالم؟ وعلام نقيد أنفسنا بأصفاد الحفاظ على التوازنات، بانتظار عاصفة لا تبقي ولا تذر يمسك بزمامها أرباب الفتنة والكراسي البائدة وعصور الجاهلية؟ وإن لم يؤمنا من نحترم ونحب ونثق به وبقدراته، وهو في أوج شعبيته داخلاً وقمة نفوذه خارجاً، فمن ذا الذي يفعل؟
لقد حولت فتنة سبعينات وثمانينات القرن الماضي مؤسساتنا الوطنية، وأولها حزب البعث ومعه نقاباتنا المهنية واتحاداتنا الأهلية، إلى قنوات وأدوات للحفاظ على الوضع الراهن أكثر من كونها أطراً لخلق وتوجيه دفة التطوير. ولئن كان هذا ضرورياً للحفاظ على تماسك الوطن وأمنه يوماً ما، فالذي حدث أننا ما زلنا، مذ ذاك، في بحث عما يمكّننا من تجاوز تلك المرحلة سياسياً، حتى مل منا الوضع الراهن.
فإن شكلنا فرقة حزبية، مثلاً، فهمنا ينحصر في الحفاظ على التوازنات هذه أو تلك، كما لو كنا في لبنان. وعلى أعضاء الفرقة إذاً أن ينتخبوا ضعف العدد لكي "تنتقي" قيادة الشعبة منهم "الأصلح" لقيادة الفرقة الجديدة. حسنٌ، هل من شك بعد كل هذه السنين أن ولاء أعضاء قيادة الفرقة الجدد محصور بمن عيّنهم، لا بمن انتخبهم؟ وهل من شك بالتالي أن قيادة الفرقة هذه مسؤولة أمام قيادة الشعبة أكثر بكثير من مسؤوليتها أمام مؤتمرها؟ ألا يبرر هذا عدم الحاجة لتغيير أسلوب الدعاية الانتخابية الحالي الهزيل والمتمركز حول الشخص ذاته، لا حول أفكاره وما يريد أن يحقق؟
أمن الصعب حقاً على من يريد النجاح في الانتخابات، على أي مستوى كانت، حزبية أو بلدية أو نيابية، وفرداً كان أم مجموعة أفراد، أن يصدر برنامجاً يسبقها يحدد فيه خطة عمله للفترة القادمة في كافة المجالات المطروحة، ويتم انتدابه من قبل الناس لتنفيذ هذا البرنامج، لتجدد له الثقة أو تحرمها عنه في الدورة التي تليها وفقاً لأدائه ووفائه بوعوده؟ هل نحن بعيدون حقاً عن تبني فكرة انتخاب فلان لكي يفعل كذا، بدل انتخاب فلان لأنه فلان وحسب؟
وإذ نتحدث عن حزب البعث، فلا شك أن فينا الكثير ممن يراه كإطار وطني جامع؛ ولكن حزب البعث بحاجة لبعث، هو الآخر. ولا نظن أن من الصعوبة أن يقرر الحزب عجمَ عيدانه فينتخب منها فريقاً قادراً على صياغة مشروع لإعادة النظر بآليات الحزب وأهداف وجوده على المدى المتوسط والبعيد، ووضع ذلك موضع التطبيق، ناهيك عن وضع السياسات الحكومية الخاصة بالاستجابة للتحديات التي تواجه سوريا حالياً ومستقبلاً.
في الماضي، درس مؤسسو الحزب الواقع والتحديات بُعيد الاستقلال وقرروا برنامجه آنذاك، والذي يُعرف بالدستور. وعندما تم انتخاب نواب الحزب إلى مجلس النواب قاموا بالضغط للسير في اتجاه تطبيق بنوده. ومن يدرس هذا الدستور يجد فيه محاولة للإجابة على مشاكل الأمة والوطن في تلك الأيام، لا هذه. حسنٌ، أفلا تستحق مشاكل وطموحات وتحديات الأمة الحالية أن يجلس الرفاق في الحزب فيدرسوها ويقترحوا لها حلولاً، فيبينوها للناس كبرنامج عمل متكامل، كما تعمل كل الأحزاب السياسية في العالم؟
هل ما زالت الحكومة ملزمة بتطبيق سياسة الحزب الاجتماعية حول الأسرة، مثلاً، والتي تنص على أن " النسل أمانة في عنق الأسرة أولاً والدولة ثانياً وعليهما العمل على تكثيره والعناية بصحته وتربيته."؟ وهل من المفيد في هذا العصر أن تبقى "المؤسسات ذات النفع العام وموارد الطبيعة الكبرى ووسائل الإنتاج الكبيرة ووسائل النقل ملكاً للأمة تديرها الدولة مباشرة ..."؟ أليس من الممكن تبني سياسة أن يقود الحزب الدولة نحو التنافسية التي سيستفيد منها المواطن حتماً، سعراً وجودة وخيارات؟ أليس من الممكن أن نفكر في القطاع العام من زاوية حماية المواطن من الاحتكار أولاً، بدل أن نزين للناس سياسة تحويل شركات القطاع العام المحتكرة للخدمات إلى شركات ذات طابع ربحي، على سبيل المثال؟
هل من المعقول ألا يراجع أحد في الحزب جدوى الاستمرار في تقديم أصحاب الثقة على أصحاب الفهم عند تولية المناصب، وجدوى بقاء القيادة القطرية، وهي التي يفترض أنها ترسم سياسات الدولة، كياناً منفصلاً عن مجلس الوزراء، وجدوى تصنيف الناس تحت بندي العمال والفلاحين وباقي فئات الشعب، وجدوى بقاء الحزب عقائدياً بدل تحويله إلى حزب مدني، وجدوى الاستمرار في اعتماد الديموقراطية المركزية بدل تجريب الديموقراطية من الأسفل للأعلى، وجدوى تلازم النضالين القومي والاشتراكي، وجدوى الإبقاء على تحالف الجبهة الوطنية التقدمية، وجدوى الإبقاء على قانون الأحزاب قيد الدرس... إلى ما هنالك؟
اسمح لي أن أنبئك، سيدي الرئيس، أن فينا من يشعر أنّا لسنا ببعيدين عن هذا كثيراً، وأن كل ما ذكرنا، وغيره، ممكن التحقيق. جل ما يحتاجه الأمر هو جهد مركز تقوده أنت، ونسير فيه نحن وراءك. الأمة التي تقبع مكانها، سيدي الرئيس، هي التي تضطر لشغل نفسها بالتوازنات، وأما تلك التي تسير للأمام فعزم اندفاعها نحوه يغنيها عن ذلك. والفرق بين أن تقود أنت هكذا جهد وأن يفرضه الشارع هو سنوات من القلق والخوف والفوضى.
لن أتمنى عليك رفع قانون الطوارئ ولا إقالة الحكومة ولا مكافحة الفساد ولا تعديل الدستور، ولا أي أمر بعينه مهما اجتمع الناس على ضرورته أو تفرقوا؛ إذ أني أرغب، كما غيري، أن نرى الأمور تحل جملة لا تفصيلاً، وضمن سياق ما معروف البداية والنهاية، لا اعتباطاً. لكن أتمنى عليك بالمقابل، باسم كل من يوافقني الرأي، أمرين اثنين؛ أولهما أنك أنت قائد هذا البلد، هكذا نراك، فلا تدع غيرك يخطف المبادأة لئلا نفشل وتذهب ريحنا؛ وثانيهما ألا تدع من حولك يشعرون بضرورة استعجال الحلول، لئلا نقع في مشاكل يمكن تجنبها، في المدى المنظور.
وكمقترح بسيط، ولست في موقع مسؤولية لأتكهن باستطاعة تحقيقه، فإن بداية الدور التشريعي القادم لمجلس الشعب، قريبة كانت أم بعيدة، تبدو لنا نحن الناس موعداً معقولاً لفراغ حزب البعث من بلورة مشروع إعادة صياغة نفسه. كما أن هذا الموعد يتيح الوقت الكافي، ربما، لتشكيل حزب جديد واحد على الأقل، بعيد عن العقائد، يستطيع أي مواطن في الجمهورية العربية السورية الانتساب إليه، كما هو الحال في حزب البعث. ولربما يكون من المناسب خوض مرحلة انتقالية ندرس فيها بعناية، تحت قبة مجلس شعب انتقالي، دستوراً جديداً نقرر فيه برويّة ماهية بلدنا المنشودة في المستقبل، وكيفية الوصول إليها.
ما ذكرته أعلاه، وغيره، عبارة عن أفكار بسيطة قد تمر في ذهن أيّ منا. ولئن كان تسويقها أسهل بما لا يقاس من درس أسباب تحقيقها، فلا شيء مستحيل طالما نعلم ما نريد، وإلى أين نتجه. ولقد علمتني الحياة في المغترب، كما لا شك وعلمتك، أن الناس يمكن أن ترسم بشكل أو بآخر سقفاً للاختلاف ويتفقون على عدم تجاوزه.
لا شيء يدمي الفؤاد، سيدي، أكثر من أن يرى المرء أهله ينزلقون إلى مهالك عدة فيما يقف هو عاجزاً عن فعل شيئ، ويتربص بهم أكثر من طامع وشامت. وإني إذ وجدتني مندفعاً لكتابة هذه الرسالة لك في العلن، بعد أن سمعنا في الأيام القليلة الماضية مطالب علنية غربية أبعد ما تكون عن تحقيق توافق شعبي، فإنما أكتب إليك كمساهمة خجولة مني في الجهد القائم لبناء هكذا توافق وسطي فيما بيننا نحن الناس أولاً، وحولك ثانياً، تجاه ما ينبغي فعله وأولويات التحرك، لا لأني أود الإضافة لأفكار ما ظننتها تغيب عن من هو مثلك.
سيدي رئيس الجمهورية،
إن لم نلعق جرحنا في درعا سريعاً، فأي جرح جديد قد يؤدي لإفقادنا التوازن، وسيغري من يترصد ضعفنا بالتحرك أكثر وأعمق. نعلم جميعاً أن بيننا من ينفذ أوامر وخططاً تأتيه من الخارج، ولكننا نعلم أيضاً أنهم قلة وأننا كثر. ولعلهم، إن لم نعمل معاً ونتعاون سوية على تمييز الغث من السمين، زادوا. ليس في درعا سوى أهل لنا ولك، ومن قضى منهم فإنما إخوتنا وإخوتك. فطبب جرحنا، يا سيدي، وضمده، نرجوك.
نعلم جميعاً أن سوريا آخر بلد يقف في وجه تثبيت الحيف الذي أصابنا في فلسطين، وإلى الأبد. وإن فرحتنا الحالية لا توصف، بعد أن بدأ عدونا يحسب حساب إخوتنا في مصر مرة ثانية، ولو بصمت. وإنّا كلنا أمل في أن تقود قافلتنا، كما خبرناك في السنوات القليلة الماضية، خارج رياح الخماسين هذه بأقل الخسائر.
قدنا، يا سيدي، وإلا قادنا الخوف.
أخوك، عمار وقاف
(كلنا شركاء)