في أجواء القلق والتوتر وحدة المشاعر , يضيع عادة صوت المنطق , وتسيطر المبالغات وتنتشر الشائعات وتنكفىء الحقيقة .
كتبنا سابقا عن مقدمات وأسباب ما يجري في سوريا , والسؤال الذي يتردد على ألسنة الجميع الآن:إلى أين ستمضي الأمور ؟
لنتابع بداية ما حدث
أولا:
لنتفق أن ما يجري ليس ثورة كما وصفها (الثوار) على الإنترنت ,فالثورة تعني قلب الوضع القائم وإستبداله بوضع آخر مختلف معه في كل شيء , فإن لم يكن ثورة ماهو إذن ؟
أعلن شباب الفيسبوك مطالبهم على الشبكة أخيرا (البارحة) بوضوح ,وأعلن الناس في الشارع مطالب تنسجم معها , وهي بمجموعها مطالب إصلاحية , صحيح أن بعضها جريء ولكن هذا لا يرقى للثورة .
وكان السيد فداء الناطق باسم الصفحة قد صرح عندما سئل عن العنوان (الثورة السورية ضد بشار الأسد)
قد أجاب أنهم لا يمانعون أن يكون بشار الاسد رئيسا في حال تنفيذ المطالب ولكن قانون الفيس بوك يمنع
تغيير عنوان الصفحة بعد تجاوز عدد المنتسبين لها عددا معينا .
ثانيا :
نذكر أنه تم تنظيم عدة دعوات فيسبوكية لأيام غضب سوري (بدأت في 5 شباط) لم تلق استجابة فلماذا نجحت هذه المرة ؟
لقد تم اختيار 15 آذار كموعد لانطلاق الإحتجاجات , وهو اختيار بدا موفقا لعدة أسباب منها:
أن ثورة مصر وتونس قد أدتا لخلع الحاكمين وكان يظن أن ليبيا وربما اليمن ستكونا قد سارتا على نفس الطريق وسط
شماتة وتهليل إعلامي كبير , فيتم إخلاء الطريق و التركيز الإعلامي على سوريا فقط وتحظى بالإهتمام ومن المعروف أن الإعلام كان له دور كبير قي مصر وتونس .
ثم إن عيد النيروز عند الأكراد لا يبعد سوى أسبوع عن هذا الموعد ففي حين تبدأ الإحتجاجات في جهة , ينتفض الأكراد
في جهات نائية مما يعطي الحركة زخما وديمومة ويربك السلطات ويعطي إيحاءا بأن الثورة عمت جميع أطياف الشعب .
ثم , وفي لبنان يكون اللبنانيون قد تجمعوا في 13 آذار في قمة حملة شنها تيار المستقبل على حزب الله .
ثالثا :
ماذا حدث, وكيف بدأت الشرارة؟
في شباط الماضي اعتقل 15 فتى في درعا، بتهمة كتابة شعارات على الجدران معادية للنظام .
وبعد عدة مراجعات لوجهاء العشائر , لم يستجب لطلبهم في إخلاء سبيلهم ,وهذا ما أثار حفيظة العشائر في درعا فاندلعت يوم الجمعة في 18/3 احتجاجات عارمة في المدينة، واجهتها الدولة كعادتها بالبطش ما أسفر عن سقوط أربعة قتلى من المتظاهرين وجرح العشرات واعتقال البعض.
كيف سارت الأمور؟
كانت هناك أرضية قوية لمشاعر السخط على الأداء الحكومي , وعلى الفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة,وعلى عدم تنفيذ وعود الإصلاح ,وعدم شفافية الخطاب الرسمي ,و أدت الأخطاء المتتالية إلى تغذية الشرارة,وبدأت الأمور تتدحرج ,وانفجرت تراكمات المرحلة السابقة ودماملها , وكما حصل في البلدان العربية بدا أن هذا السيناريو سيتكرر في سوريا ,وبدأت الماكينة الإعلامية بالعمل , وتتغذى من مشاهد الدم والعنف ,وتم نصب كمين آخر في الصنمين حيث تبين أن مجموعة مسلحة أرادت الإعتداء على نقطة حراسة لمساكن عسكريين واقتحام المجمع.
إذن أصبحت ماكينة الإعلام تحتاج كل يوم لكمية من الدم لكي تعمل ولكي يتم التجييش والحشد ,وبدا أن الأمور تسير وأن الإنتفاضة تنجح باستقطاب العديد من الفئات.
ولكن أصيبت الحركة بالنكوص والإرتداد بعد أن فشلت الدعوة لمظاهرة مليونية يوم السبت بل وتراجع عدد المحتجين فماذا جرى؟
-وضح أن هذه الحركة غير متحدة المطالب ولا الهدف النهائي, ففي حين تم الإعلان عن حزمة مطالب كما ذكرنا مؤخر إلا أنهم اتبعوا تكتيك "المطالب المتدحرجة" حسب الوضع الميداني , ولكن الوضع على الأرض بدا مختلفا ,حيث برزت مطالب لها صفة محلية أكثر منها وطنية (من مطالب المحتجين في جبلة مثلا فتح جامع ضمن جامعة تشرين وإقالة مديرالتموين ورئيس البلدية), ومطالب حمصية بإقالة المحافظ وبرزت مطالب لأهل درعا ومطالب لريف دمشق لها طابع ديني أيضا .
-استبقت السلطات السورية الحركة بنسج شبكات أمان مهمة (في حلب وحماه ومع الأكراد السوريين ومع الدروز ومن هنا تأتي أهمية زيارة الأسد للسويداء قبل أيام من 15 آذار في إشارة مهمة )
فعلى غير المتوقع والمخطط له أحجم الأكراد السوريون عن المشاركة في هذه الحركة ونأوا بأنفسهم عنها وبدا واضحاأن أجندتهم تحتلف عن أجندتها .
وفي حين استفاد المخططون من أخطاء السلطة في الأسبوع الأول ووقوعها في عدة كمائن مدبرة ,وخاصة من مشاهد العنف والخطاب الإعلامي القاصر,
انعكس الأمر وأخذت السلطة المبادرة وبدأت
باستثمار أخطاء المحتجين ودفعهم لارتكاب المزيد منها , وبدأت العمل بسرعة على مستويين : سياسيا ومطلبيا فتم
إقرار حزمة إصلاحات مهمة مع الوعد بتنفيذها سريعا , والوعد بحزمة أخرى قد تصدر هذا الأسبوع .
وعلى الأرض أبدت المزيد من هدوء الأعصاب وبدأت (تتعود) على منظر الإحتجاجات بل وتحميها في عدة أماكن من توظيف محتمل لاستجرار العنف.
وبدأت تحارب "الفيسبوكيين" بسلاحهم (الإعلام والدعاية والشائعة) واستفاقت مجموعات فيسبوكية ومواقع إعلامية ومحطات كانت ممنوعة من إذاعةالأخبار فسمح لها , وبدأ هؤلاء يكشفون فبركات إعلامية وخطاب ملتو وبدأ الناس يزودون هذه المحطات بأخبار عن مجموعات شغب ومن جنسيات مختلفة.
واصطدمت الحركة بجدران تنوع المجتمع السوري وو قعت في شباك الأمان المنسوجة ,خاصة بعد أن طغى التيار الديني المتشدد على السطح وتأكد أن هذا التيار هو الذي يقود في الشارع وتمت محاولة إقحام إيران وحزب الله على الخط ودخول القرضاوي بكلامه الطائفي الشهير.
وقلنا سابقا إن فشل أية حركة غليان في الإمتداد الأفقي سيتم التعويض عنه حتما بامتداد شاقولي عنفي وهذا ما حصل ,
فلجأ المحتجون للعنف والتحطيم والحرق والإعتداء بل والقتل في ثلاث حوادث مؤكدة من مصادر محايدة ,وآخر الإستطالات الشاقولية هو التجييش الطائفي والحديث عن حضور سلفي في هذه التحركات الذي أخاف المجتمع السوري وهدده بفقدان إحدى أهم ميزاته وهو تنوع فريد بين مجموعة ثقافات وعقائد وأطياف.
لقد نجحت السلطة في تحويل دفة الأمور لصالحها على المستويين الأمني والسياسي , على عكس ما حصل في بقية البلدان العربية , حيث كانت السلطة تفقد المبادرة وكان الشارع يقودها ويسبقها.
الآن ونحن في منتصف المسار , كيف ستجري الأمور ؟
هذا يعتمد على السلطة لأن زمام المبادرة الآن بيدها , فلا يجب النكوص عن الوعود , بل يجب المضي فيها بجرأة
وسرعة , وعلى الأرض حمايةالإحتجاجات وحماية المجتمع الأهلي من استطالات التطرف والتجييش
الطائفي .
إن سوريا أمام فرصة ذهبية لتقديم نموذج عن التقاء رغبات الناس مع إرادة الحاكم بالتغيير الواعي , وأمام فرصة ذهبية لاعادة النبض والحياة للمجتمع الأهلي (كم برزت أهميته ) .
يجب أن يتم احتضان الشباب الذين خرجوا سلميا للتعبير عن مطالبهم ,وتمييزهم عن الخلايا والمجموعات التي خربت وحرقت , في هذه اللحظة ستكون سوريا قد انتصرت وخلفت نذر الإنشقاق والمخططات وراءها..وسنكون أمام سوريا أقوى وأنضج.
لقد خطفت سوريا الأضواء أخيرا من لبنان , وبات الناس يمجون اجترار الكلام على المحطات اللبنانية تعويضا عن فراغ وحراك محلي حتى بات السوري
يعرف أسماء مخاتير لبنان ولا يعرف أسماء وزرائه .
إن سوريا قد أثبتت أنها سريعة التحول والإعتياد , وأن المجتمع فيها محصن , ليس بالدولة فهذه كانت من أسباب جموده ,
بل لأنه سليل حضارة ومدنية
وآن الأوان لهذه المدنية ..أن تعود وتأخذ دورها بين الأمم.
info@jablah.com
27-3-2011