كثير منا يسمع بالطبقة الوسطى فيحتار أين يضع نفسه.. هل هو ضمن هذه الطبقة؟ أم أنه ينتمي إلى الطبقة الفقيرة «المسحوقة»؟..الحيرة تتأتى من جانبين: الأول أن معايير التصنيف لهذه الطبقة ُتفصل تبعا لأهداف كل منا، والجانب الثاني أنه حكما خارج طبقة الأغنياء.. «الأغنياء» عن التعريف..
تحظى الطبقة الوسطى في معظم المجتمعات الإنسانية باحترام وتقدير كبيرين باعتبارها الطبقة التي ترفد المجتمع بالمثقفين والمبدعين في مختلف المجالات الحياتية والعلوم الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك فإن قوانين الدخل والضرائب تقر تبعا لهدف واحد هو الحفاظ على تماسك هذه الطبقة وزيادة عوامل اتساعها..
الجانب المظلم في مسيرة الطبقة الوسطى يتمثل في حالة الانحدار والتقوقع اللتين تقعان تحت تأثيراتهما بفعل الفوضى المجتمعية، التي لا تعرف قواعد محددة في الثراء و لا في الفقر، فاليوم هذا الشخص فقير.. وبعد سنوات قليلة جدا يصبح غنيا.. كيف؟ ولماذا سمح المجتمع له بذلك؟.. لا أحد يجيب..
لدينا.. الطبقة الوسطى وخلال العقدين الماضيين تعرضت لانتكاسة خطيرة توسعت على أثرها الطبقتين الأخيرتين الغنية والفقيرة و زادت طبقة جديدة سميت بطبقة «مادون خط الفقر» فما الذي حدث؟ وما هو واقع الطبقة الوسطى حاليا في المجتمع السوري
هل تعرفونها؟
ثمة أسئلة كثيرة تدور في ذهن كل منا عند الحديث عن الطبقة الوسطى في سورية.. أبرزها و أهمها.. هل كنا كمجتمع نعي فعلا أهمية هذه الطبقة ودورها؟ وما هي الدراسات والأبحاث التي تناولتها؟.
دعونا بداية وقبل الخوض في الإجابة على هذه التساؤلات، نحدد تعريفاً بسيطاً وواضحاً للطبقة الوسطى ونسأل.. من هي؟
يوضح الدكتور أكرم ناصر الأستاذ المساعد في المعهد العالي للعلوم والتكنولوجيا في بداية تعريفه للطبقة الوسطى في سورية أنها «تختلف عن الطبقة الوسطى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي فتعبير المتعلم أو المثقف اليوم يختلف عما كنا نسميه متعلماً أو مثقفاً في منتصف القرن الماضي وكذلك بالنسبة للحرفيين وصغار الكسبة..» ويضيف أن الطبقة الوسطى هي «مجموع المتعلمين والحرفيين وصغار الكسبة الذين يعون بداخلهم أن لا وطن بديلا لهم عن وطنهم و أنهم يتأثرون مباشرة معنويا وماديا بأي تغيرات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية تعتري الوطن، و بأنها قلقة غير مستقرة من السكان ولهذا فهي غير فاعلة وقليلة التأثير سلبا أو إيجابا في المجتمع السوري، فالطموح من أبنائها إما أن يسعى إلى الهجرة خارج الوطن لتحقيق ذاته أو يحاول استغلال ظروف الفساد المستفحلة لتحقيق الإثراء غير المشروع فإما أن ينجح ويتخلص من روابط طبقته أو يفشل فيدخل متاهات السجن والملاحقة، أما الشريحة الخاملة في هذه الطبقة فتتراجع إلى الطبقة الفقيرة تحت ضربات التراجع الاقتصادي والقمع الاجتماعي».
من جانبه يركز المهندس الاستشاري سعد بساطة رئيس فريق العمل للجاهزية التنافسية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تعريفه للطبقة الوسطى على الجانب الاجتماعي فيرى أنها المحافظة على الثقافة والتقاليد والدين.. الخ وهي تتلاشى فإما أن تنسحق وتسقط للأسفل، أو تقفز للأعلى بطرق مختلفة لا مجال لاستعراضها الآن.
التعريف الثالث الذي نستعرضه معا هو للوسط الاقتصادي، إذ يشير سامر الدبس رئيس غرفة صناعة دمشق إلى أن الطبقة الوسطى هي الطبقة التجارية والصناعية، لذلك فالطبقة الوسطى هي المسيطرة على المجتمعات الأوروبية اليوم.
كما تلاحظون..كل طرف ركز في تعريفه على ناحية محددة اعتبرها المقياس الذي يميز الطبقة الوسطى عن غيرها من الطبقات الاجتماعية الأخرى، لكن يمكننا القول: إن الطبقة الوسطى عموما هي الشريحة الاجتماعية التي تمتاز بنسب تعليم عالية، وبدخل مادي جيد يساعدها على تجاوز الأزمات الاقتصادية التي قد تمر بها البلاد، والمحافظة على العادات والتقاليد والثقافة المتوارثة.. أي أن هناك معيارين لتحديد الطبقة الوسطى.. الأول نسب التعليم المرتفعة وهي الضمان لإمداد المجتمع بالمبدعين والكفاءات الشابة، والمعيار الثاني يتعلق بالوضع المادي الذي يجعلها في منتصف الطرق بين دخل الفرد في الطبقة الغنية، ودخله في الطبقة الفقيرة..
نمو بالتراجع!!
وفق تقرير الفقر الذي أنجزه المكتب المركزي للإحصاء بالتعاون مع هيئة تخطيط الدولة والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وصلت نسبة الفقر الإجمالي في سورية إلى نحو 30% من إجمالي عدد السكان أي أن هناك 5.3 ملايين فقير منهم 2.2 مليون شخص تحت خط الفقر الذي حدد متوسطه بنحو 1400 ليرة سورية، وبالتالي فإن نسبة الطبقة الوسطى تتحدد بعد معرفة نسبة الطبقة الغنية.. يؤكد المهندس بساطة أن «نسبة الطبقة الوسطى الآن لا تتجاوز 35 ـ 40% بعدما كانت تشكل السواد الأعظم»، وهو بذلك يكون قد حدد نسبة الطبقة الغنية بنحو 30%.. فيما يعتقد الدبس أن نسبة هذه الشريحة تصل لنحو 60% مع الإشارة إلى أنه ضمنها شريحة التجار والصناعيين، فيما ذهب الدكتور ناصر إلى القول إنها «تشكل نسبة تتراوح بين 70 ـ 80% من السكان لأنها تعكس واقع سورية الاجتماعي والسياسي والاقتصادي»، واعتقد أن الدكتور ناصر وضع هذه النسبة انطلاقا من أنها النسبة الطبيعية المفترضة للطبقة الوسطى وليست النسبة الراهنة لها.
أيضا رئيس غرفة صناعة دمشق يفضل التحدث عن الواقع الأفضل لها، فيقول إنها «يجب أن تكون نسبتها 60% وكلما ارتفعت نسبتها فذلك مؤشر على أن الاقتصاد السوري بخير، و أن وضعنا الاجتماعي أيضا بخير، فالطبقة الغنية يجب أن تكون أقل تعدادا، فليس من العدل أن تستأثر قلة بالثروة والأكثرية لاشيء لديها..».
وبعيدا عن ماهية النسبة وحدودها، فإن معظم الباحثين يتفقون على أن هذه الطبقة في تراجع مستمر، وهذا ما يوضحه الدكتور طارق الخير عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق بقوله «الطبقة الوسطى تقل نحو الأسفل، بسبب انخفاض الدخل أولاً، فأفراد هذه الطبقة لا يستطيعون القيام بأي عمل آخر مثلا كأساتذة الجامعة والمهندسين.. الخ، إضافة إلى تصاعد الأسعار وارتفاعها خلال فترة سريعة..».
ويضيف المهندس بساطة على قول الدكتور الخير أفكاراً أخرى، حيث يؤكد أن الطبقة الوسطى «هي في تراجع دائم، والسبب انزلاق الغالبية للأسفل وقفز القلة للأعلى ولكن مبرر ذلك هو التوزيع غير العادل للثروات، وترابط بعض مراكز السلطة مع التجارة والوكالات وغيرها من الاستثمارات، بحيث صار من الصعب التفريق بين مسؤول كبير وبين تاجر كبير يحتكر الوكالات، فهناك علاقة جدلية ومباشرة، فهذا يحمي وذاك يسهل، كل يعرف دوره ويلعبه بإتقان».
خلال أكثر من عقدين من الزمن حدثت في سورية تغييرات كبيرة أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على وضع الطبقة الوسطى في المجتمع السوري، فالقوة الشرائية تراجعت عدة أضعاف مقابل ارتفاع الأسعار وزيادتها عدة أضعاف أيضا فيما حافظ الدخل الفردي على مستواه المتراجع، الأمر الذي انعكس سلبا على وضع الطبقات الاجتماعية الوسطى والفقيرة، حيث انزلق جزء كبير من أفراد الطبقة الوسطى إلى مصاف الطبقة الفقيرة، والتي بدورها اصبح عدد كبير من أفرادها تحت خط الفقر، والدكتور ناصر يبين أنه «يتأثر نمو وتراجع هذه الطبقة عدديا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا بالنظام السياسي والاقتصادي في سورية، فهي طبقة هامة وفاعلة إذا كانت الظروف مناسبة، و خاملة إذا كانت الظروف العامة غير مواتية لذلك».. هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإن اتساع موجة الفساد، لدرجة جعلت البلاد العام الماضي تحتل المرتبة 71 تبعا للدول الأقل فسادا، وذلك وفقا للأرقام القياسية للفساد الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية، جعل الكثير من أبناء الطبقتين الفقيرة والوسطى يقفزون إلى مصاف الطبقة الغنية، وهذا ما أحدث خللا بنيويا في المعايير الاجتماعية والأخلاقية، و يؤكد هنا المهندس بساطة أن «الفساد يلعب دورا كبيرا، ومبدأ حلال عالشاطر شجع الكثيرين على الإقدام على الاختلاس والرشوة وتسهيل أو الاشتراك في صفقات مشبوهة وبالتالي هم الذين قفزوا للأعلى تاركين طبقتهم الوسطى تسقط للحضيض تئن تحت وطأة الأعباء المالية والضغوط الاجتماعية».
لم يطل تأثير هذه المتغيرات الجانب الاقتصادي فقط، بل امتد ليشمل أيضا الجانب الثقافي والاجتماعي، إذ انخفض معدل التعلم نتيجة انخفاض الدخل للأسر و دخول الفرد في العمل وهو في سن مبكرة، إلى جانب مظاهر أخرى لم تكن معروفة من ذي قبل.
و بالعودة إلى العوامل المؤثرة في تراجع معدلات الطبقة الوسطى فإن تواجد هذه الشريحة في المحافظات متفاوت جغرافيا، فالمحافظات الشمالية والساحلية هي الأكثر فقرا كما يوضح المهندس بساطة، الذي يتابع تحليله حول التوزع الجغرافي بالقول «في حين العاصمة وحلب وحمص هي الأفضل، ولكن تلك بدورها تجذب المهاجرين داخليا وهؤلاء يضافون للسكان الأصليين وبالتالي يعدلون النسبة»..!!
ماذا نفعل؟!
الدكتور ناصر وفي معرض إشارته لأهمية هذه الشريحة يؤكد أن «إبقاء الطبقة الوسطى السورية على الوضع الذي هي عليه سيزيد من التراجع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، لذا لابد من تفعيلها وحمايتها، والمحافظة على استقرارها لتقوم بالدور الذي تقوم به في المجتمعات الأخرى فهو حساس الخطأ والصواب في السياسة، والاقتصاد، والمجتمع، وهي الطبقة الأكثر عطاء وقدرة إذا أحسن استخدامها..».. لكن كيف يمكن إيقاف تراجع الطبقة الوسطى و إعادة التوازن إليها؟!.
ثمة إجراءات محددة في هذا السياق، إلا أن طرق التنفيذ هي التي تحتاج إلى خطط عملية تتابع عملية تطبيقها تبعا لبرنامج زمني واضح، وتلك الإجراءات أو العناوين هي كما يقول بساطة «إعادة النظر في توزيع الثروات، إتاحة مجالات متكافئة للجميع، فصل الملكية عن الإدارة في القطاعين العام والخاص، المحاسبة و إعادة قانون من أين لك هذا، قانون جديد متوازن للضرائب، ومنع الاحتكار بالنسبة للخدمات..».
فيما الدبس يرى أن على «الدولة أن تلحظ من خلال سياساتها الاقتصادية ضرورة رفع دخل المواطن بالمعدل الطبيعي لفرد الطبقة الوسطى، و أن تبقي الضرائب على مكانة هذه الشريحة ونسبها..» متوقعا أن يكون نهج «اقتصاد السوق الاجتماعي وسيلة لاعادة توزيع الدخل بشكل جيد مما سينعكس على ازدياد الطبقة الوسطى لتشكل مستقبلا الأكثرية في المجتمع السوري..».
تغيرت الصورة بعد كل ما سبق يمكننا القول وبكل مشاعر القلق والخوف أن المجتمع السوري فقد صورته التي كانت دوما حاملاً للتنمية، فاقتصاره على طبقتين واحدة فقيرة وأخرى غنية يجعل من جميع الإجراءات التي تتخذ تصب في خانة «زيادة فقر الفقراء وغنى الأغنياء» وبالتالي سد قنوات إمداد المجتمع بالطاقات والكوادر المؤهلة الشابة المبدعة، لأننا بذلك النهج نكون قد حولنا الإمكانيات الكامنة في المجتمع، إما إلى طاقات خفية تئن تحت وطأة الفقر، وبالتالي لا تظهر أو أنها تضمحل في حياة المال والصخب الاجتماعي
تشرين