آخر الأخبار

حديث في الفراغ

توطئة: في هذا المقال سأتحدث عن الفراغ رباعي البعد (و خماسي البعد و أكثر). من حصل على شهادة الثانوية العلمية العامة يدرك ما المقصود، و للزملاء الآخرين أقول: أرجو ألا تتخوفوا من هذا المصطلح: فقط تذكروا أن المستقيم هو "أحادي البعد": يوجد عليه بعد واحد هو الطول، في حين أن المستوي هو "ثنائي البعد": يوجد فيه بعدان هما الطول و العرض، و الفراغ "ثلاثي البعد": فيه الطول و العرض و الإرتفاع... ثم تخيلوا أن لدى الرياضيين فراغات "وهمية" يبلغ عدد أبعادها أربعة أو خمسة أو أي قيمة أخرى...

من المعروف أن كبلر هو مكتشف قانون حركة الكواكب حول الشمس (تذكير لمن نسي منهاج الدراسة الثانوية: هذا القانون ينص على أن الخط المستقيم الواصل بين الكوكب و الشمس يمسح سطوحا متساوية في أزمنة متساوية، و منه نستنتج رياضيا أن الكواكب في دورانها حول الشمس ترسم قطعا ناقصا تقع الشمس في أحد محرقيه).

لو أن كبلر اكتفى بذلك لقلنا عنه أنه فلكي و رياضي عظيم... لكن هذا الرجل "معلاقو كبير" كما نقول في سوريا... فهو طرح مسألة "كومة البرتقال"...

مسألة كومة البرتقال هي كما يلي: لديك كمية من البرتقالات... كيف ترتبها بحيث تحتل أصغر حجم و بحيث تشكل كومة مستقرة؟

هذه المسألة طرحها كبلر عام 1610 و اقترح لها حلا... لكن لم يتم البرهان على صحة هذا الحل إلا عام 1998! أربعمائة عام لحل مسألة كومة البرتقال!

هنا، يقول الإنسان المتسرع أن الرياضيين هم حقا تافهون و يشغلون أنفسهم بمسائل تافهة و عبثية... و يفعلون ذلك على حساب الحكومة التي تنفق عليهم بلا حساب من أجل أن يشبعوا فضولهم في مسائل سخيفة لا تضر و لا تنفع!
و يدعم الإنسان المتسرع قوله بدليلين: فأولا النحل يعلم منذ ملايين السنين كيف يصف الثقوب التي يخزن بها العسل... و ثانيا أن اي بقال يعلم كيف يضع البرتقال: بشكل كومة هرمية!

لكن هذا الإنسان المتسرع خاطئ... ذلك أن العجلة من الشيطان!
ابتداء، نود أن نوجه شكرنا لهذا الإنسان المتسرع ذلك أنه اشار لعدة نقاط هامة، و هي:
1- مسألة كومة البرتقال في الفراغ يقابلها مسألة ثقوب العسل على سطح المستوي: يعني ترتيب الكرات في الفراغ ثلاثي الأبعاد يقابلها ترتيب الدوائر في المستوي ذي البعدين. ثم نعمم ذلك رياضيا و نقول: و هناك مسألة ترتيب الكرات رباعية الأبعاد في الفضاء رباعي الأبعاد، و الكرات خماسية الأبعاد في الفراغ خماسي الأبعاد...
2- نلاحظ أن النحل يرتب الدوائر بشكل سداسي: كل دائرة لديها ستة جيران، ثم نلاحظ أن هذا هو الحل الذي اقترحه كيبلر... و قد تم البرهان رياضيا على صحة ما يفعله النحل عام 1910 (يعني: تم حل مسألة كومة البرتقال في المستوي ثنائي البعد عام 1910)، و كما أسلفنا تم حل المسألة في الفراغ عام 1998.
3- نعم، نحن نريد كومة هرمية. لكن كيف نبني هذا الهرم؟

نعود للحل الذي اقترحه كبلر:
لقد اقترح كبلر أن نصف طبقة أولى من البرتقال كما يفعل النحل: بشكل سداسي. ثم نضع فوقها طبقة أخرى مرتبة بنفس الأسلوب بحيث تقع برتقالات الطبقة الثانية في المنخفضات التي تتشكل بين برتقالات الطبقة الأولى، ثم ننشئ طبقة ثالثة... و هكذا دواليك (انظر الشكل المرفق).

كما تلاحظون فكبلر اقترح استخدام الحل في المستوي ثنائي البعد لحل المسألة في الفراغ ثلاثي البعد. ثم نضيف أن الرياضيين يستخدمون الحل في الفراغ ثلاثي البعد من أجل إيجاد الحل في الفراغ رباعي البعد و هكذا دواليك...

طيب ويش فايدة كل هذا اللقش؟

هذا هو السؤال الذي يطرحه الإنسان المتسرع الذي يريد أن يرى تطبيقا عمليا لكل الأشياء... كما يطرحه كل وزراء المالية الأغبياء الذين يريدون أن يقلصوا اعتمادات البحث العلمي (كما يحصل حاليا في فرنسا، راجع مقالنا: فرنسا: حكومة يمين = حكومة حمير )

نقول:
الإنسان العاقل لا يبحث عن تطبيق مباشر للرياضيات، مهمة الرياضيات هي أن تحل مسائل رياضية بغض النظر عن أي تطبيق عملي.
لكن في مثالنا هذا يوجد تطبيق عملي... و ذو أهمية حيوية!

الإتصالات و موثوقية المعلومات...

لنأخذ رسالة ما تنتقل عبر شبكة اتصالات ما: مثلا، هذا المقال الذي يصلكم عبر انترنت.
هذه الرسالة هي عبارة عن سلسلة من القيم 0 و 1 تنتقل بشكل نبضات إلكترونية، نسمي كل قيمة من هذه القيم "بت" (bit)...
طيب فماذا يحصل إن كانت نوعية الخط سيئة و تغيرت قيمة إحدى هذه البتات؟

طيب ما الذي نفعله حين نتصل بصديق و يكون خط الهاتف سيء؟ (يوجد تشويش لأن المخابرات السورية -مثلا- وضعت عشرين جهاز تنصت )
الذي نفعله هو أننا نكرر الجملة عدة مرات حتى يفهم صديقنا ماذا نقول...

و هذا هو بالضبط ما تفعله شبكات الإتصالات: إنها "تكرر الجملة" حتى يفهم المتلقي ما المقصود تماما!
مع بعض الفروقات الطفيفة:
حين يتم إرسال رسالة على شبكة اتصالات إلكترونية فإنه يتم "تكرارها" حتى لو كانت نوعية الخط "جيدة": يتم هذا "التكرار" احتياطا.
و هذا "التكرار" ليس تكرارا حقيقيا للجملة: لكنه إرسال لمجموعة أجزاء مختارة منها. أو بصيغة أدق: إنه إرسال لوصف لمجموعة أجزاء منها...

طيب... هاذا اللقش كويس... بس شو علاقتو بكومة البرتقال؟
نقول:
دعوني أعد لمثال المكالمة الهاتفية على خط سيء: أنت تكرر الجملة كي يفهم صديقك ما تقول. لكن كم مرة يجب عليك تكرار ما تقول كي تثق أن صديقك فهم الجملة؟ مرة واحدة أم مائة مرة؟
لا شك أنك إن كررت كل جملة مائة مرة فصديقك سيفهم تماما ما ستقول... لكن فاتورة التليفون ستكون مرتفعة!
بالمقابل... إن كررت مرة واحدة، ففاتورة التليفون ستكون معقولة... لكن لن تكون واثقا من أن صديقك قد فهمك بشكل صحيح!

فنطرح السؤال (و أعتذر سلفا عن التلاعب بالكلمات) : كم يجب أن يكون "حجم" تكرارك كي "يستقر" فهم صديقك لما تقول؟

هذه هي بالضبط مسألة كومة البرتقال: كم يجب أن يكون حجم كومة البرتقال، يعني كيف سنشكل كومة البرتقال، كي تكون مستقرة؟

نعود إذن لمسألة كومة البرتقال:
تخيل أنك تريد أن ترسل كمية من البرتقال لصديقك، و تريد السماح له بالتحقق من أن كل البرتقالات وصلته... لكنك لا تريد إثقال الحمل بشكل غير مفيد، و تريد أن يبقى حجمه معقولا!
هذا يعني: تخيل أن الشبكة الإلكترونية تريد إرسال سلسلة من البتات و تريد السماح للمتلقي أن يتحقق من صحة ما استلمه.

كيف العمل؟
في حالة إرسال البرتقال... الحل بسيط:
نضع البرتقالات التي نريد إرسالها بشكل ثقوب العسل... يعني الحل السداسي... ثم نضع فوقها طبقة أخرى من البرتقال وفقا للحل الذي اقترحه كبلر...
و عندها... فإذا حصل و ضاعت إحدى برتقالات الطبقة الأولى (الرسالة المفيدة) فإن برتقالة الطبقة الثانية التي تستند عليها (التكرار) ستسقط و الشكل لن يكون منتظما... و عندها يستنتج المتلقي أن خطأ ما حصل...
هذا هو بالضبط ما تفعله الشبكة: بالإضافة للرسالة المفيدة تضع مجموعة ضوابط يتم إنشاءها وفقا للحل الذي اقترحه كبلر... و هو أكثر الحلول اقتصادا (لأنه أصغر حجم) و أكثرها فائدة (لأنه أكثرها استقرارا)...

سأضيف فقط نقطتين:
- طيب فماذا إن ضاعت برتقالة من الطبقة الأولى... و ضاعت ايضا البرتقالة من الطبقة الثانية التي تستند عليها؟
الجواب بسيط: نضع طبقة ثالثة تسمح لنا بمراقبة الطبقة الثانية... و طبقة رابعة تسمح لنا بمراقبة الطبقة الثالثة ... و يمكننا المتابعة حتى نصل لبناء هرمي كامل قمته برتقالة واحدة.

- في الحقيقة، الشبكات الإلكترونية تستخدم حل مسألة البرتقال في فراغات أعلى (ذات أبعاد أكبر) تسمح للمتلقي ليس فقط باستنتاج الخطأ، لكن أيضا بتصحيحه من دون العودة للمرسل. فمثلا حل مسألة كومة البرتقال في الفراغ ذي ثمانية أبعاد يسمح للشبكة بإرسال رسائل طولها 5 بت و معها 3 بت للتحقق، فيتمكن المتلقي من استنتاج أي خطأ حتى 3 بت، و تصحيح اي خطأ لا يتجاوز 2 بت...

و الآن...
ما رأيكم أن تأكلوا برتقالة و تترحموا على سيدنا كبلر؟