أقصر طريق يسلكه الحزب السياسي لكسب المعركة على السلطة، هي أن يلبس جبة الدين، ويطالب الدولة بتطبيق قوانين الشريعة. لكن مشكلة هذا الطريق القصير، أن قوانين الشريعة بالذات، لا تطبقها الدولة بل يطبقها المواطن. فإذا مرّت المغالطة، ونجحت الأحزاب الدينية في مسعاها، وتمّ تطبيق قوانين الشريعة في دول الوطن العربي، حتى صار لكل حكومة بوابة رسمية على الجنة، فإن المواطن العربي شخصياً، سوف لن يشارك في هذا العرس، ولن يؤدي فيه دوراً نافعاً، سوى أن يحمل الطبل والحطب. إنه لا يستطيع أن يطبق الشريعة حتى بمعونة من فقهاء الحزب.
فالمشكلة من أساسها، ان المجتمع العربي نفسه، مجتمع غير شرعي، خلقته مؤسسات إقطاعية معادية لمعظم مبادئ الإسلام، من مبدأ المساواة والشورى، إلى مبدأ تحريم الحكم الفردي، وضمان حرية الحوار والقضاء. وقد تأسس على نظرية تحكيم القوة، والتعصب الطائفي، وتقديس الخرافة، وتحول منذ عصر الحجاج إلى مجتمع من الصيادين، قائم برمته على شريعة (اصطياد الفرص). وإذا شاءت الأحزاب الدينية أن تطبق قوانين الشريعة في مثل هذا المجتمع المعقد، فإن المواطن العربي نفسه، سوف يكون آخر من يسمع.
فهذا مواطن لا يعيش في كتب الفقه، بل يمارس تجربة الحياة في مجتمعه عملياً، ويعرف أنه مجتمع شريعته تحكيم القوة، وليس تحكيم الله، وأن ما يقوله رجال الدين بالذات، مجرد كلام في غياب الكلام. وهي رؤية يائسة _وغير دينية_ لكنها أيضاً رؤية مشروعة، لأنها مستمدة من قراءة الواقع، وقادرة على التعامل معه بنجاح. إن النص الشرعي يستطيع أن يقول ما يشاء على الورق، لكن المواطن الذي يعيش في مجتمع إقطاعي، يملك تحت تصرفه شريعة عملية أخرى.
فالدين يحرم الرشوة، لكن المواطن الذي يعيش في مجتمع اقطاعي، لابد من أن يرشو كل موظف يقابله، بكل عملة مقبولة في السوق. لأن الخدمات العامة في مثل هذا المجتمع، ليست حقاً دستورياً للمواطن، بل "فرصة" عليه أن يصطادها بصنارة. فإذا كان الصيد حوتاً كبيراً مثل استخراج رخصة للمقاولات الأهلية، يكون الطعم نقوداً وهدايا وعقود زواج وخدمات خاصة. أما إذا كان الصيد مجرد سمكة صغيرة مثل استخراج شهادة ميلاد، فإن الوصفة الشعبية تحتم أن يرقص المواطن حاجبيه، ويقول للموظف محيياً: (صباح الخير يا عسل).
والدين يحرم ارتزاق المرأة بجسدها، لكن المرأة المحجبة التي تمنعها شريعة الإقطاع من فرصة التأهيل المهني، لا تستطيع ان تكسب عيشها دائماً بالحلال. إنها "تتزوج" على سنة الله ورسوله، لكن شريعة هذا الزواج الناجم عن العجز والبطالة، أمر يصعب إثباته شرعياً.
والدين يحرم السرقة، لكن المواطن الذي يعيش تحت سلطة إقطاعية، لا يستطيع أن يذهب وراء الدَين إلى حتفه. فالملكية تحت هذه السلطة ليست حقاً شرعياً للمواطن، بل غنيمة، عليه أن يكسبها في غارة عسكرية. وهو شرط لا يوفي به المواطن الأعزل إلا إذا تعلم فن القتال الليلي، وأتقن التسلل من وراء ظهر القانون. إنه لا يستطيع أن يملك شيئاً بالحلال، في مجتمع مسروق برمته.
والدين يحرم القتل، ويتوعد القاتل بالخلود في النار، لكن المواطن المجند لحراسة رجل إقطاعي، لا يعرف كيف يطيع هذا الدين، من دون أن يخالف ديناً آخر. إنه لا بد من أن يحمل سلاحه ذات يوم، لكي يدافع عن سيده ضد الجياع والمظلومين بالذات. وهي مسيرة افتتحها الإقطاع في تاريخ المسلمين، بإبادة أسرة النبي شخصياً، وقصف بيت الله بالمنجنيق.
والدين يحرم الكذب، ويهدد الكذابين بقطع ألسنتهم. لكن "رجل الإعلام" الذي يعمل في خدمة نظام إقطاعي، لا يستطيع أن يكفّ عن نشر الأكاذيب، حتى إذا كان أخرس. إنه ملزم بتسويق بضاعة بدائية فاسدة، وملزم بمخاطبة زبائن غاضبين لا يريدون الشراء. وفي ظروف تجارية من هذا النوع، يبيح رجل الإعلام لنفسه أن يتكلم لغة الحواة، ويعتبر خداع الزبون شطارة، ويسمي الكذب سياسة إعلامية، بغض النظر عما سماه الله.
والدين يحرم حكم الطاغية، ويسمي الطاغية نفسه باسم)فرعون). لكن المواطن الذي يعيش تحت سلطة فرعون شخصياً، لا يستطيع أن يردد هذا اللقب، حتى في منشور سري. إنه يعرف لغة الواقع، ويعرف أن الطاغية اسمه (صاحب السعادة)، ويهنئه بعيد ميلاده سنوياً، في إعلانات ملونة على صفحتين.
والدين يحرم أكل السحت، ويعتبر تبذير أموال الناس، جريمة عقابها الحرق بالنار. لكن الحاكم الإقطاعي لا يستطيع أن يتوقف عن أكل السحت، إلا إذا كان الدين يريده أن يموت من الجوع. فهذا رجل شبه معوق، لا يجيد حرفة مفيدة، ولا يصبر على مشقة العمل، يحتاج يومياً إلى ثروات طائلة، لدفع نفقات حراسه، وتغطية طلبات مساعديه، وشراء مديح الشعراء الذين تزايدت أسعارهم عصراً بعد عصر.
إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة في مجتمع غير شرعي، مثل مجتمعنا العربي الحالي، فكرة تعوزها روح العلم والورع معاً. لأنها مجرد شعار حزبي، مفصّل على مقاس حزب سياسي، يريد أن يكسب معركة السياسة بسلاح الدين.
فالواقع أن الشرع الإسلامي، لا يمكن تطويعه لخدمة أغراض الإقطاع، لأنه لا يعيش معزولاً في صوامع رجال الدين، بل يعيش بين الناس، في كتاب بلغتهم العربية، يخاطبهم مباشرة من دون مترجمين، ويقول لهم كل يوم إن أول شرط لتطبيق الشريعة، هو إنهاء مجتمع الإقطاع. وفي وجه هذا المنشور السماوي، لا يملك الإقطاعيون وحلفاؤهم حلاً، سوى أن يجلسوا في انتظار القارعة.
المواطن العربي يملك نسخة من القاموس الأصلي، ويعرف أن تطبيق الشريعة، يحتاج أولاً إلى مجتمع شرعي، وأن الناس الذين يعيشون تحت سلطة فرعونية، لا يملكون مثل هذا المجتمع، وليس بوسعهم أن يطبقوا فيه شريعة أخرى سوى شريعة فرعون.
فالقانون الذي يحكم بقطع يد السارق في مجتمع إقطاعي، لا يستطيع أن يسري على جميع الأيدي السارقة، وليس بوسعه أن يحمي الناس ممن يسرقهم علناً.
والقانون الذي يحرم دفع الفوائد المصرفية في نظام إقطاعي، لا يحرم الربا، بل يحارب الادخار، إنه لا يستطيع أن يمنع عمليات الربا الحقيقية، مثل التلاعب بالأسعار، واحتكار السلع، وزيادة الرسوم الجمركية، ورفع نسبة العمولة، لأن هذه العمليات تتم فوق رأس القانون، داخل غرف مغلقة، تحت حراسة رسمية من رجال القانون بالذات.
والقانون الذي يحرم الاختلاط بين الجنسين، ليس تشريعاً دينياً ضد الرذيلة، بل حلاً إقطاعياً لتمرير الرذيلة بضمان من الشرع. فمنع الاختلاط يغلق باب العمل الشريف في وجه المرأة، ويحرمها من حقها في التأهيل المهني، ويجعل جسدها هو سلعتها الوحيدة القابلة للتسويق، مما يحيلها بقرار "شرعي" إلى مخلوق معاق، يتوقف بقاؤه على بقاء الإقطاع بالذات. ووراء جدران البيت الإقطاعي، تتحول المرأة إلى جارية، وتسري عليها شريعة الجواري، من إنكار حقها في الطلاق إلى إنكار حقها في الهرب، وإلزامها بالعودة إلى بيت الطاعة تحت حراسة الشرطة.
والقانون الذي يمنع القمار والخمر في مجتمع إقطاعي، لا يمنعهما فعلاً، بل يجعلهما لعنة ضرورية. فالمواطن لا ينفق حياته في شرب الخمر ولعب الورق، لأنه رجل فاسد، بل لأن حياته نفسها فاسدة، وجوفاء وكئيبة، ولا تحوي شيئاً مفيداً أصلاً. وهي كارثة تحيق بحياة الناس في ظل الإقطاع بالذات، وتنشر روح الضياع بينهم، وتحيل جلسات الخمر والقمار إلى منافذ سهلة للهرب. وإذا شاءت الشريعة أن تدين هذا الواقع من دون أن تدين أسبابه، فإنها لا تحد من انتشار الخمر والقمار، بل تجعلهما وباءً سرياً.
فالإسلام الذي يبشر به القرآن، ليس شريعة تطبقها دولة، بل دولة أخرى في حد ذاته: إنه نظام محدد في الحكم، يقوم على مبدأ الشرع الجماعي، ويعتمد إدارة جماعية، تنعقد للعمل في يوم اسمه يوم الجمعة، تحت قبة برلمان رسمي اسمه الجامع. وإذا شاءت الأحزاب الدينية أن تطوع هذا الشرع الجماعي لخدمة رجل واحد، أو حزب واحد، فإن النتيجة الوحيدة المتوقعة من وراء هذا السحر السياسي، هي أن تقوم الدولة الإسلامية، وتسقط دولة الإسلام.
تسقط حكومة الناس.
ويغلق الجامع أبوابه، ويغيب الحوار السياسي، ويخسر المواطن صوته، حتى يصبح مواطناً أخرس، وغير مسؤول شرعاً عما يقال على لسانه بجميع الأصوات.
وبعد ذلك يسود الصمت.
ويفقد الناس حقهم في الإشراف على جهاز الدولة، فتتحول الميزانية العامة إلى ثروة خاصة، ويتحول الجيش إلى شرطة، وتصير الأمة مجرد "رعية" ويتبنى القضاء شريعة الراعي، حتى يصبح الذبح والسلخ والحلب وجز الصوف، أشغالاً حكومية.
وبعد ذلك يسود الهلع.
ويفقد الناس قدرتهم على تحكيم العقل، ويكتبون لأنفسهم شريعة، تقطع يد لص، وتأمر بتقبيل يد لص آخر، متعمدة أن تقول صراحة إن الله الواحد، له لسانان، في شريعة الخروف.
وبعد ذلك يغضب الله الواسع الرحمة، ويرحم هذا الخروف بالتخلف العقلي.