الآن، وقد ثبت فشل "الحلّ الأمني" في سوريا، أيّ أقدار تنتظر البلاد؟ قبل الإجابة، لا بد من وَقفة أمام بعض الحقائق التي أفرزتها الأحداث العنيفة الأخيرة في بلاد الأموِيّـين.
الحقيقة الأولى، أن الموضوعية العِـلمية تقتضي الإعتراف بأنه لم يكُـن في مقدور أحد التنبُّـؤ أو حتى التكهّــن بما قد يحدُث في سوريا. واستتباعاً، لن يكون من السَّـهل التنبُّـؤ أو حتى التكهّـن أيضاً بمحصِّـلات ما يجري الآن.
الرئيس السوري بشار الأسد نفسه كان أول المُحبَـطين على صعيد التكهُّـنات. فهو كان جازِماً قبْـل أسبوعين فقط من الإنتفاضة السورية الحالية في منتصف مارس الماضي، بأن ما حدث في تونس ومصر، لن يتكرّر في بلاده، وهو أبلغ "وُول ستريت جورنال" بأن الشعب السوري لن يثور "لأن النظام ينفّـذ رغباته"، وهو بذلك كان يُـشير إلى ما يُسمَّـى سياسة "المقاومة والمُـمانعة"، التي تنتهِـجها دمشق مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
ثم عاد الرئيس الأسد وكرّر التكهُّـن غيْـر الدقيق نفسه، حين أبلغ صحيفة "الوطن" السورية قبل أيام معدودات من "جُـمعة الحرية"، أن الأزمة دخلت نهاياتها الأخيرة بعد الحملات الأمنية الشاملة، التي شنَّـتها السلطات. لكن، وكما تبيّـن لاحقاً، كانت محصِّـلات هذه الجمعة الأكثر عُـنفاً ودموية من كل سابقاتها.
والواقع، أن الأسد لم يكُـن وحيداً في هذا المِـضمار. فقد سبقه إلى ذلك عدَد لابأس به من المحلِّـلين الأمريكيين والأوروبيين الذين شاطروه (ولكن لأسباب مختلفة عن أسبابه) القناعة بأن سوريا مُحصَّـنة نِـسبياً ضدّ الربيع العربي. هذا إضافة إلى حلفائه الرئيسيين في المنطقة: إيران وحزب الله وحماس، الذين يثبت الآن أنهم كانوا يُـمارسون التفكير الرغائبي، حين أبدَوا قناعتهم مِـراراً بأن ما يجري في سوريا، هو سحابة صيْــف عابِـرة، سُـرعان ما ستبدِّدها قوة النظام الأمني.
معركة الأرياف
الحقيقة الثانية، هي أن الحِـراك الشعبي السوري تخطّـى عتَـبة ردّة الفعل ودخل مرحلة الإنتفاضة، بعد أن أسقط السوريون عامِـل الخوف. صحيح أن هذه الإنتفاضة لم تتحوّل بعدُ إلى ثورة، حيث لم نتخَـط "الكُـتلة الحرِجة" Critical Mass)) من الطبقة الوسطى المدنية في المظاهرات الواسعة والتزمت التعاطُـف "السرّي" والمعنوي معها، إلا أن هذه الانتفاضة شكّـلت مع ذلك خطراً داهِـماً على النظام، لسببيْـن: الأول، اعتماد هذا الأخير المديد، خاصة في مراحِـله التأسيسية قبل نيْـف و40 سنة، على دعْـم الرّيف السوري له بكل مكوِّناته الطائفية، حيث استقى منه مُـعظم كوادِره الأمنية والعسكرية، وحتى السياسية، وبالتالي، فإن ثورة الرِّيف على النظام، وإن كانت مقتصِـرة حتى الآن على الرِّيف السُـنّي، تُـعتبَـر نذير خطر داهِـم عليه.
السبب الثاني ذو بعد تاريخي، إذ أن مُـعظم الثورات السورية في العصريْـن، القديم والحديث، كانت تنطلِـق أيضاً من الأرْياف ثم تتمدّد بعد ذلك إلى المُـدن. وثورة زعيم الدروز سلطان باشا الأطرش، التي يُطلَـق عليها اسم "الثورة العربية الكُـبرى"، نموذج ساطع على ذلك.
أما لماذا برز الشَّـرخ بين الرِّيف وبين النظام، فهذا يعود في الدرجة الأولى إلى أن أبناء النُّـخبة الحاكمة السورية، وعلى عكس آبائهم، تحوَّلوا إلى نُـخب بورجوازية مدينية (خاصة في دمشق وحلب) وأداروا ظهورهم للرِّيف على الصُّـعد الإجتماعية والإقتصادية، وهذا، إضافة إلى عوامِـل الجفاف والإنفجار الديموغرافي الكبير وازدياد مستويات التعليم ونقْـص الفُـرص الاقتصادية، ما مهَّـد الطريق أمام انتفاضة الرِّيف الحالية.
وجدير بالذكر هنا، أن التَّـهميش لَـحِـق أيضاً بالمناطق الرِّيفية العَـلَـوية والدُّرزية وأقليات أخرى، كان يعتمِـد النظام على دعمِـها.
.. ومعركة العوْلمة
الحقيقة الثالثة، هي أن النظام السوري، وعلى رغم أن قياداته كانت شابة منذ عام 2000، لم يلتفِـت إلى أن ما كان يقبَـل به الجيل القديم، من مقايضة بين سياسة خارجية مُمانعة، مقابل رضوخ في الداخل لنظام سُـلطوي، لا يرضى به الجيل الجديد، الذي لا يرى سبباً لعدم المُـزاوجة بين الحريات الفردية والعدالة الاجتماعية والمواطنة وبين السياسة الخارجية المستقِـلة، خاصة وهو يرى ما حدث ويحدث من علـوّ صوت الشعوب في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وعُمان والمغرب، وحتى في السعودية.
الحقيقة الأخيرة، هي أن الإنتفاضة السورية، كما سائر ثورات الربيع العربي، لا تجري في فراغ، بل هي تندلع في إطار قرار دولي اتّـخذ على أعلى مستويات السلطة العالمية (والتي تشمل حكومات الولايات المتحدة وأوروبا والشركات العملاقة متعدّدة الجنسيات ومراكز الأبحاث والقرار الكبرى)، بضرورة دمج منطقة الشرق الأوسط الكبير نهائياً في العولمة وبشروطها. وبما أن هذه الشروط تتضمَّـن أساساً مسألة سيادة القانون وشفافية الحوكمة واستقرار المجتمع المدني المستند إلى الرضى لا إلى القمع والاستِـبداد، كان لا مناص من تأييد بروز شكل من أشكال الديمقراطيات في كلّ دولة شرق أوسطية.
النظام السوري ليس ولا يستطيع، أن يكون خارج هذا القرار. وما لم يتغيّـر من تِـلقاء نفسه، سيُغيَّـر بقوة موازين قِـوى العولمة الجديدة في العالم.
سيناريوهات ثلاثة
نعود الآن إلى سؤالنا الأولي: سوريا إلى أين؟ ثمة ثلاثة سيناريوهات لا تزال سوريا تتأرجَـح بينها بعُـنف: إما أن يتمكّـن الرئيس الأسد، بصفته كما يُـقال زعيم "التيار الواقعي والإصلاحي" في البلاد، من إقناع القوى المتصلِّـبة والمتشدِّدة في الأجهزة الأمنية بضرورة الإصلاحات أو أن يفشل الأسد في ذلك، فتبرز قِـوى عسكرية وأمنية عَـلَـوية أخرى تقوم بـ "انقلاب قصر"، لتحقيق عملية الإنتقال، حتى ولو أدّى ذلك إلى مواجهات مسلّـحة مع القِـوى المتشددة أو انحدار سوريا إلى حرب أهلية رهيبة، سترتدي على الأغلب طابعاً مذهبيا.
ولكن أي الخيارات ستكون الأقرب إلى التحقق؟ حتى الآن، يبدو أن اليَـد العُـليا، هي للخيارين الأوليْـن. فلا أحد في الوطن السوري، الذي لم يشهَـد تاريخيا تلك الصِّـراعات الطائفية الدَّموية، على غرار تلك التي ابتلى بها لبنان منذ قرنيْـن ولا يزال، يريد هذا المصير. ولا أحد أيضاً في المنطقة والعالم يريد ذلك، إذ أنه إذا ما انفجرت مصر وتونس وليبيا واليمن، فإن انفجارها يكون داخليا. أما سوريا، فإن انفجارها يكون داخلياً وخارجياً في آن، وقد يجر إلى أتُـونه كل منطقة الهلال الخصيب وحتى ما بعدها.
لكن، ومع ذلك، فإن عامِـل الوقت ليس لصالح الحلول السياسية والعقلانية. وما لم يتِـم التحرّك لتنفيذ أحد الخياريْـن الأوليْـن، فإن الحرب الأهلية المرفوضة، قد تفرض منطِـقها على الجميع، خاصة وأن عودة الأوضاع إلى ما قبل 15 مارس، باتت من رابع المستحيلات.
سعد محيو
swissinfo