لقد تأسست هذه الدولة في منطقة البحرين على يد بائع الطحين أبو السعيد حسن الجنابي المولود في مدينة جنبة على الساحل الفارسي من الخليج العربي كانت السيادة لأبي سعيد الجنابي و الوزارة لآل سنبر من أهل زوجته و الذين دعموه في إرساء دعائم دولته في منطقة البحرين و التي امتدت حتى سواد الكوفة دولة النظام الاجتماعي التعاوني و التكافلي في الإحساء بقيادة الأوليين بين السواسية كان أبا السعيد رجلاً حسن الخلق رقيق الحديث شجاعاً و أديباً و شاعراً و كان مشلول الطرف الأيسر وصفة البعض بالفيلسوف الملعون سميت دولته بدولة القرامطة نسبة إلى حمدان ابن أشعث القرمطي أول منظر للدعوة الجديدة انتشرت الدعوة القرمطية بفضل شخصيته القوية و ما عرف عنه من الوفاء و الأمانة فعين رئيساً لحركة المؤسسين في الكوفة مركز الدعوة و الثورة لقد انحدر هؤلاء من المذهب الاسماعيلي الشيعي ولكن الدعوة كانت مستقلة استقلالاً تاماً عن التوجيه الاسماعيلي الديني و كانت العبارة الفلسفية التي تقول : " أن العقل يقودنا إلى الحياة و الطبيعة تقودنا إلى الموت " و هذه المقولة كانت أهم الأسس التي بنيت عليها هذه الدعوة ورغم أن الدعاة ينحدرون من المذهب الاسماعيلي لكن أبا السعيد لم يدعي النسب العلوي كما فعل بعض الثوار السابقين كصاحب الزنج و أبناء زكرويه ولم يعلن عن نفسه إماماً كما فعل علي ابن الفضل في اليمن و اكتفى بلقب سيد و صار أتباعه على نفس النهج الديمقراطي المتواضع الخالي من التبجيل والمفاخرة.
لقد جمعت مؤسسة الدولة الصبية في دور خاصة و أقاموا عليهم العرافة ووسموهم لئلا يختلطوا بغيرهم و علموهم ركوب الخيل و فنون الحرب لسنوا ت طويلة ولم يعرفوا شيئاً غير ذلك قاموا بجمع الأموال من كل البلاد و جمع القمح و الثمار و أقاموا المراعي للأغنام و الإبل و عينوا عليهم مسئولين لحفظها و الإشراف عليها باسم الدولة .
جمعوا الخيل وأعدوا السلاح و نسجوا الدروع و ضربوا السيوف و الأسنة و علموا الصبية الفروسية و طردوا الأعراب من حول دولتهم فقاموا بإصلاح الأراضي الزراعية و نصبوا الأمناء عليها , و على المواشي و الإبل و شكلوا اللجان لتطبيق نواميسهم على كافة خيرات دولتهم حتى إذا ما ذبحت شاة يتسلم العرفاء لحمها ليفرقوه على من ترسم لهم و يدفع بالرأس و الأحشاء و الأطراف إلى العبيد لكي يتقاسموها بالتساوي و يفرق الصوف على من يغزله ثم يدفع غلى من ينسجه و يصنع منه العدي و الجولقات و تصنع منه الحبال أما الجلد يسلم للدباغة و يصنع منه النعال للمواطنين و الجيش و تجمع كل هذه الخيارات في خزائن تحت إشراف مجلس العقدانية " الحكومة " ثم يوزع إلى مناطق الدولة كل حسب حاجته مما زاد هيبة و عظمة هذه الدولة في صدور الناس .
بهذا ألغى أبو السعيد الجنابي الملكية الخاصة و أصبح الحكم جماعياً و تحول كل نتاج الدولة إلى السلطة المركزية و يقوم المسئولين عن الخزينة بتوزيع الدخل القومي إلى مناطق حسب الحاجة و في المقابل كان هناك أخصائيون عسكريون للتدريب و حماية الدولة و توسيع نفوذها مما أثار حفيظة والي البصرة في ذلك الحين فكتب إلى الخليفة العباسي المعتضد يطلب منه العون لمواجهة الدولة الناشئة فكانت أول معركة للقرامطة مع سلطة العباسيين بقيادة عباس ابن عمرو الغنوي و الذي هزم على يد جيش القرامطة و تم اعتقاله ثم أطلق سراحه ليحمل رسالة للخليفة العباسي بأن يكف يده عن دولته في رسالة طويلة حملت الكثير من التهديد و الوعيد و في الوقت نفسه يؤكد له أنهم لم ينتزعوه ملكاً و أنهم هم من صنعوا دولتهم وليس العباسيون و لكن الخليفة رفض ذلك و جهز الجيوش لمحاربة القرامطة و لكنه المنية وافته قبل ذلك .
لقد استطاع أبو السعيد حسن الجنابي أن يؤسس مجتمعاً اشتراكيا لم يعرفه أحد من قبل فوضع الأسس لتثبيت أركان الدولة ووضع نظاماً داخليا للزراعة و الإدارة و وزارة للجيش و رسم الحدود تحت مسئولية مجلس العقدانية و الذي كان يضم سبع من مؤسسي الدولة و الدعوة وسمي المجلس بمجلس العقدانية " مجلس أهل الحل و العقد " و كانت ملابسهم بيضاء و راياتهم بيضاء تعبيراً عن النقاء و اعدل و كان هناك وزيراً للعدل والشرطة ووزيراً للبريد ووزير دولة ووزيراً للاقتصاد و الذي وضع نظاماً اقتصاديا يستند على جباية المحاصيل و ضرائب العقارات و ضرائب الحج و رسوم على السفن المبحرة في الخليج العربي و كان المركز الاقتصادي لهذه لدولة في جزية أوال قرب البحرين و وضعوا الضرائب على صيد اللؤلؤ و تم تجميع كل غنائم الغزوات في خزائن تتبع للسلطة المركزية ولكن ما أخذ على هؤلاء أن بعضهم احتفظ بملكيته الخاصة مما أثار الشكوك حول النية الحقيقية لإقامة الدولة الاشتراكية حسب ما دعى إليه منظر الدولة و مؤسس الدولة و منظر الفكرة حمدان ابن أشعث القرمطي " نظام الألفة " والذي أخذ على عاتقه توفير حاجات الأفراد كاملة من الضمان الاجتماعي و الصحي و التعليمي.
تكفلت الدولة بإصلاح المنازل و ترميمها و تقديم العون المادي للزوار و القادمين إلى البحرين و كانت كل أدوات الحرف توزع على الحرفيين مجاناً و تحت سيطرة الدولة ... و بهذا سخرت الدولة الناشئة الدخل القومي و وسائل الإنتاج للاستعمال الجماعي و هذا أول تطبيق تاريخي لمفهوم الاشتراكية .
كان الحكم عقدانياً , اشتراكياً ديمقراطيا و ليس ملكياً وراثيا و لهذا لم يذكر التاريخ عن أي محاولات تمرد ضد مؤسسات الدولة بل كانوا يخدمون و كأنهم أصحاب قضية عاجلة نابعة من العقل و الوجدان .
كان للمرأة دوراً هاما و إيجابياً في مؤسسات دولة القرامطة و مشاركة فاعلة في النظام الجديد فشاركت في الدعوة إلى الفكرة قبل إنشاء الدولة في الكوفة و شاركت في المعارك و في الطواف على الجرحى و تقديم المساعدة و اعترفت لها الدولة بالحقوق التي لم تكون مألوفة قبل ذلك و يعود ذلك من تأثر تلامذة القرامطة بالفلسفة اليونانية ذلك الحين و التي كانت تنادي المطلقة بين الرجل و المرأة و بهذا اختلفوا عن " إخوان الصفا " الذين طالبوا بتبعية المرأة الكاملة للرجل و خضوعها للرقابة المشددة و التشكيك في قدراتها العقلية و المتأثر في فلسفة أرسطو المعاكسة لفهم أفلاطون و نظرته في الدعوة للمساواة بين الرجل والمرأة و هذا يدحض بعض الاتهامات التي وجهت للقرامطة من قبل أعدائهم عن الإباحية و تحليل المحرمات و الذي أكده الرحالة ابن حوقل بأن المجتمع القرمطي كان مجتمعا متماسكا أخلاقيا .. و أن التهم ألصقت بالمرأة القرمطية نتيجة لمشاركتها الفاعلة في كل مهام الدولة أسوة للرجل .. ولكن الشيء المميز في هذه الدولة كان منع نظام تعدد الزوجات و كانت وصية أبو السعيد الجنابي لأبنائه بأن يحذو حذوه صوناً لأبدانهم و عقولهم و أن يتزوجوا من امرأة واحدة فقط .
ورغم أن الأصول القرمطية تعود إلى الإسماعيلية الشيعية إلا أن زواج المتعة كان ممنوعاً رغم إصرار القرامطة رغم إصرار القرامطة على أنهم مسلمون كما ورد في رسائلهم إلى الخليفة العباسي.
لقد دأب العديد من المؤرخين في عهد الدولة العباسية على مهاجمة الأسس التي بنيت عليها دولة القرامطة ليس بسبب معتقداتهم بل لأنهم كانوا يشكلون خطراً حقيقياً على مركز الخلافة في بغداد نتيجة تميزهم عن باقي الفرق الأخرى التي خرجت عن طاعة الخليفة العباسي بنجاحهم في تأسيس دولة يتعايش فيها الأقوام و المذاهب المختلفة على أسس لاقت استحسان الكثيرون من سكان تلك المنطقة الذين هم عبارة عن خليط من المسلمين و اليهود و المجوس في ظل نظام تكافلي آمن يكفل الحقوق و يصون الواجبات تيمناً بالفلسفة اليونانية و رغم غلوهم بالتفسيرات الدينية إلا أنهم لم يخرجوا عن حظية الإسلام بدليل أن أحد أصحاب المذاهب الأربعة " أبي حنيفة رضي الله عنه " بالقتال إلى جانب القرامطة في العديد من المعارك ...
لقد كانت دولة القرامطة أول تجار بالحداثة و الاتصال بالثقافات الأخرى كاليونانية و الهندي ة الفارسية إلى جانب الثقافة العربية و الإسلامية .
كانوا يعتمدون في فلسفتهم على استخدام العقل و عدم التسليم أو النقل الجاف للتعاليم الدينية و أن الوصول إلى الإيمان الحقيقي يأتي من خلال العقل و هذا ليس خروجاً عن الدين و الله أعلم ..
ولكن ما أخذ عليهم أنهم مارسوا أساليب غيرهم في إرغام قوافل الحجاج على دفع الأتاوات و الغرامات بحجة حماية قوافلهم و إذا رفضوا كانوا يهاجمون القوافل و ينهبون ما تحمل من خيرات و يسلموها إلى خزينة الدولة و هذا ما تسبب باتهامهم بالإلحاد و لكن بعض المؤرخين في سياق الدفاع عن دولة القرامطة يذكرون " بيوم الحرة " عندما كان يزيد ابن معاوية خليفة للمسلمين و كان الحجاج بن يوسف الثقفي والياً للخليفة عندما أمر بضرب الكعبة و من فيها بالمنجنيق و غير ذلك الكثير من الحوادث ...
و المأخذ الآخر الذي أخذ على هذه الدولة عندما دخل قائدها أبي الطاهر الجنابي رئيس دولة القرامطة إلى مكة و اقتلع الحجر الأسود من مكانه و أرسله إلى البحرين و هذا كان من أفدح الأخطاء التي ارتكبتها قيادة دولة القرامطة عبر التاريخ رغم أنهم لم يفعلوا ذلك على خلفية عقائدية بل كنت خلفيتهم سياسية لتحسين شروط التفاوض مع السلطة المعادية في بغداد و ليس كما ادعى البعض بأنهم كانوا ينون بناء كعبة جديدة في منطقة الإحساء ...
رغم كل ذلك نحن نحاكم تاريخ كتبه المنتصر بعد أن دمر الطرف الآخر ودمر فلسفته و تراثه و كتبه و إنجازاته و لكن ما لم يستطيعوا أن يدمروه أن هذه الحركة القرمطية كانت حركة فكرية اجتماعية لم تتاجر بالدين و لا بالطائفية و كان هدفها مجتمع تسوده العدالة و المساواة بين كل الأجناس و الأعراق و الألوان ..
فعند وفاة مؤسس الدولة أبا السعيد الجنابي أوصى أولاده أنه إذا عاد بعد مماته من الموت أن يضربوا عنقه على الفور لأن في ذلك بدعة و استخفافاً في العقول و قصد في ذلك محاربة أي أفكار قد تدعو إلى عودته مرة أخرى إلى الحياة تيمناً بأسطورة المهدي عند الشيعة ...
لقد قتل أب السعيد الجنابي على يد خادمه الصقلي في الحمام بخنجر سنة 301 هـ و شاع في ذلك الوقت أن مقتله جاء على خلفية شذوذه الجنسي و لكن ذلك لم يستقيم مع المعلومة التي تقول أنه كان مصاباً بالشلل النصفي ..
لقد كانت فترة حكمه 15 عاماً " 286 هـ - 301 هـ " ومن أبنائه أبا القاسم سعيد الجنابي و أبا الطاهر سليمان الجنابي و أبا منصور أحمد الجنابي و أب العباس إبراهيم و أبا يعقوب يوسف الجنابي لقد تولى ابنه أبا القاسم الحكم بقرار من مجلس العقدانية لفترة مؤقتة ثلاث سنوات ثم سلم الحكم لأبي الطاهر نتيجة لتمتعه بالشخصية القيادية الصارمة و التي ظهرت من خلال المعارك التي خاضاها فيما بعد كان قائداً شجاعاً و سيماً و شاعراً واسع الأفق و واسع الصدر و سميت فترة حكمه بالعصر الذهبي القرمطي .
لقد أرسل إله الخليفة المقتدر بأن يدخل في طاعته بعد أتهمه بالكفر والإلحاد فرد عليه أبا القاسم برسالة تقول" أما ما أدعي علينا من ترك الصلاة وغيرها فلا يجوز قبول دعوة من دون بينة وإذا كان الخليفة ينسبنا إلى الكفر فكيف يسألنا إلى الدخول في طاعته" ولكن لإبداء حسن النوايا إطلاق سراح الآلاف من أسرى الدولة العباسية لكي يثبتوا بأنهم مسلمون هذا أدى إلى تفهم الوزير العباسي علي ابن عيسى لفكر القرامطة بطبيعة أنه كان رجلاً مفكراً وعالماً وباحثاً فاتهم من قبل الحاقدين عليه في البلاط العباسي مما أدى إلى سجنه رغم أنه استطاع أن يمنع العديد من الكوارث التي حلت بالمسلمين بعد مقتله .
إن القوة الاقتصادية والعسكرية المبنية على الفكر الجديد الذي أسس له دعاة الدعوة القرمطية جعلت من هذه الدولة فيما بعد قادرة على مقارعة العباسيين والفاطميين وهزيمتهم في العديد من المعارك ومن ضمنها السيطرة على مدينة البصرة المحصنة والإستراتيجية مما زاد من نفوذ الدولة جغرافياً وشعبياً وأصبح هناك مؤيدون في مركز الخلافة في بغداد .
لقد رفع رئيس الدولة أبا الطاهر الجنابي شعار"لا طاعة إلا لله والحرب غداً " فشن سلسة من الحروب متحدياً السلطة العباسية وكان له النصر في معاركه الأولى رغم صغر جيشه الذي لم يتجاوز الألفين رجل مقارنة بجيش الدولة العباسية الذي كان يعد بالآلاف وكانت عقيدتهم العسكرية تستند إلى فكرة " أن السلام في الثبات والمواجهة والهزيمة في الهرب " .
لقد أرتكب أبا الطاهر سليمان الجنابي خطأ تاريخياً متحدياً سلطة العباسيين لاحتلال مكة وانتزاع الحجر الأسود وإرساله إلى الإحساء عاصمة الدولة القرمطية رغم أن الأسباب كانت سياسية اقتصادية إلا أن الخطوة كانت عملاً متهوراً ساهم في اضمحلال نفوذ هذه الدولة فيما بعد .
لقد تميز أبا الطاهر الجنابي بعقلية عسكرية فذة استندت إلى نقل المعارك إلى أراضي الغير وسياسة الضربات الإستباقية وكان يعتمد على حماية الدولة في غياب الجيش إلى الحراسات الشعبية وقناعة الجماهير بعدالة قضيتهم انتق بعد ذلك إلى الكوفة رغم تحذيرات الخليفة المقتدر وانتصر في هذه المعركة وأسر قائد الجيش العباسي " ابن أبي الساج " وأعلن أهل الكوفة ولاؤهم المطلق للدولة الاشتراكية الجديدة ورفعوا الرايات البيضاء فوق منازلهم " شعار دولة القرامطة " وكتب على بعضها الآية القرآنية " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " صدق الله العظيم .
كانت المعركة بين سلطتين متناحرتين على النفوذ وعلى الموارد المالية ولا علاقة لها بالمعتقد الديني بل كانت معركة نفوذ سياسي اقتصادي على مقدرات المنطقة وكانت حجتهم في اقتلاع الحجر الأسود المساومة الاقتصادية .
امتد نفوذ الدولة القرمطية من عمان حتى أطراف الكوفة وأصبحت الجزيرة العربية تحت سيطرة القرامطة بلا منازع مدة 22 عام " بقي فيها الحجر الأسود رهينة في البحرين ولكن ورغم كل هذه الانتصارات بدأ يدب الخلاف في زوايا الهرم السياسي القرمطي فانشق سبعون من رجال أبا الطاهر الأشداء بسبب أحد الدجالين منه والذي تسبب في ظهور تيارات انشقاقية في جسم الدولة ومما زاد الأمر سوءاً هزيمة حملته العسكرية البحرية على الجانب الآخر من الخليج العربي في مناطق فارس مما أدى إلى خسارة جزء كبير من قوته العسكرية وتدني الروح المعنوية لدى الجيش و لدى السلطة ودخلت الدولة القرمطية في حقبة جديدة انشغل فيها أبا الطاهر بمشاكل دولته الداخلية حتى وفته المنية 332 هـ بمرض الجدري وتولى الحكم من بعده أبا العباس الجنابي والذي أعاد الحجر الأسود إلى الكوفة ووضعه في المسجد الجامع ومن ثم أعاده سنبر بن الحسن بن سنبر إلى مكة وقال مقولته المشهورة " أخذناه بقدرة الله ورددناه بمشيئته " و الغريب في الأمر أنهم أعادوه بقرار منهم رغم رفضهم السابق لكل محاولات الضغوط و الإغراءات من قبل الدولة العباسية و دون أي مقابل ... و المقابل الوحيد كان هدنة وقعت بين القرامطة و العباسيين تحسباً لمواجهات مستقبلية مع الفاطميين في مصر و دخلت الدولة في مرحلة سكون حتى عام 360 هـ .. عندما عين المجلس العقدانية أحد أحفاد أبا السعيد الجنابي و الملقب بالأعصم على رأس الدولة و كان نسخة جديدة من أبا الطاهر في الأدب و الشعر و الفروسية ..
الأعصم خليفة أبي الطاهر في المجد و العسكرية و الأدب كان قصير القامة و له بياض في أحد أطرافه و لهذا سمي بالأعصم و كان يردد دائماً عبارة أن الإنسان قلب و لسان و فعلاً بقد حقق له قلبه الحديدي و لسانه الطليق مجداً كتب عنه التاريخ حتى هذا اليوم نقول " خطبة عصماء " ..
لقد وقع الأعصم معاهدة سلم و تعايش مع الدولة العباسية و رفع رايات العباسيين السوداء و المكتوب عليها " "السادة الراجعين إلى الحق" و ينتهز الأعصم هذه الفرصة و يخرج بجيشه إلى دمشق و ينتزعها من سلطة الفاطميين و يحتل مدينة الرملة في فلسطين و مدينة يافا و يحاصر جيش الفاطميين المرسل من قبل القائد جوهر الصقلي و يهزمه فيما بعد و يدخل القاهرة عام 361 هـ , و لكنه سرعان ما يعود إلى الإحساء بسبب محاولة انقلابية من أبناء أبي الطاهر على سلطته و يسانده في صدهم الخليفة العباسي و يضعهم تحت الإقامة الجبرية في جزيرة "أوال" في الخليج العربي , و بعد أن استتب له الأمر عاد ليحاصر القاهرة مرة أخرى عام 363 هـ و يجبي الأموال الطائلة لصالح دولته و يوزع جيشه على كافة الأراضي المصرية و تحالف الأعصم مع أمير العرب في الشام " ابن الجراح الطائي لمواجهة الخليفة الفاطمي في شمال أفريقيا و لكن ابن الجراح سرعان ما بدل ولائه بسبب رشوة مالية ضخمة مقدارها مائة ألف دينار فهزم الأعصم و عاد أدراجه إلى الإحساء لحماية دولته من طمع حلفاء الأمس و يتحالف مع القائد التركي " اليتكين " الذي دخل الشام و احتل دمشق و كتب للحسن بن أحمد " الأعصم " لمساعدته ضد القائد جوهر الصقلي عدو الأمس فاستجاب له الأعصم و لكن الأتراك غدروا به و غيروا تحالفاتهم و بقي الأعصم و حيداً في مواجهة الفاطميين و بدأ بالتقهقر و استقر به الأمر في مدينة الرملة حتى عام 366 هـ و أصيب هناك بالإعياء الشديد حيث وافته المنية عن عمر يناهز 88 عاماً و عين جعفر أحد أقربائه قائداً للجيش و قائداً لمجلس العقدانية ولكن خلافاً نشأ مع أخيه إسحاق حول السيطرة والنفوذ مما أدى إلى انفصال عمان عن الدولة عام 375 هـ , و انقطاع الموارد المالية التي كانت تأتي من حماية قوافل الحجيج و تضعف الدولة و تحاصر من قبل الشيخ المنتفق الملقب بالأصفر عام 378 هـ , و يستولي على القطيف مما يهز أركان السلطة المركزية في الإحساء و انحطاط الإدارة و ضعف الدولة و تنتهي دولة القرامطة في عهد آخر أمرائها الأمير سهل بن همام الذي ظل محافظاً على نواميس الدولة الاشتراكية حتى آخر أيامه في جزيرة أوال آخر معاقل الدولة القرمطية و لكن بقي العديد من القبائل في تلك المنطقة تدين بالولاء إلى المذهب القرمطي حتى القرن الخامس عشر الميلادي و من ثم تضيع أخبارهم و يتحول أغلبيتهم إلى المذهب الإثني عشري الشيعي دون معرفة الأسباب الحقيقية لذلك .
كانت هذه أول تجربة اشتراكية في التاريخ وضع فلسفتها فلاسفة عرب و فرس و سبقوا بذلك ماركس و إنجلز و العديدين من الفلاسفة العجم و هم أول من كتب عن المدينة الفاضلة التي يعيش بها الجميع تحت سقف القانون الذي يضمن الحقوق المتساوية والرفاهية للجميع و سبقوا بذلك نقولا ميكافيلي .
نكتب هذه المقالة فقط للتاريخ لأنني أشعر أن هؤلاء رغم كل التجاوزات تعرضوا لظلم تاريخي بإقصائهم عن صفحات التاريخ بقصد الشطب لأن التاريخ يكتبه المنتصر و نتيجة لأن التجربة تستحق منا أن نتعرف عليها لأنها تبقى جزء من تاريخنا العربي و الإسلامي ...
المراجع: كتاب من سواد الكوفة حتى البحرين للكاتبة مي محمد الخليفة ..أرض كنعان.