الخارطة الشرق أوسطية
تتكون منطقة الشرق الأوسط من 22 بلداً عربياً، منضوية ضمن جامعة الدول العربية، إضافة إلى دول جوار إقليمي شديدة الارتباط بها هي: إيران ـ تركيا ـ أرمينيا ـ إضافة إلى أثيوبيا وأريتريا.
وفي هذا الخصوص يمكن الإشارة إلى أن هذه الخارطة تنقسم على أساس الاعتبارات الجيو ـ سياسية إلى مناطق فرعية تضم مجموعة أصغر من الدول التي تشكل تكتلاً منسجماً على أساس الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
اندلعت حركة الاحتجاجات السياسية في جميع بلدان الشرق الأوسط، إضافة إلى بلدان الجوار الإقليمي المرتبطة بها، وفي هذا الخصوص تشير مجموعة منتقاة من هذه الاحتجاجات باعتبارها تمثل الأكثر أهمية وخطورة لجهة تشكيل مستقبل المنطقة، وذلك على النحو الآتي:
o الحدث السوري: برغم أنه صغير ومحدود الحجم ووصل إلى نهايته، فإنه كان الأكثر خطورة لجهة تداعياته المحتملة على توازنات الصراع العربي ـ الإسرائيلي وتوازنات الصراع الدولي الأمريكي ـ الروسي في منطقة شرق المتوسط، إضافة إلى مستقبل لبنان والأردن والعراق، والقضية الفلسطينية، إضافة إلى مستقبل استقرار تركيا وإيران.
o الحدث الليبي: يبدو في ظاهره على أساس أنه صراع بين معارضة سياسية ونظام ليبي، مع وجود تحالف دولي يسعى لردع ومنع النظام الليبي من استهداف المدنيين الأبرياء، ولكنه في باطنه ينطوي على المزيد من الأبعاد والمعطيات الشديدة الخطورة ليس على ليبيا أو منطقة الشرق الأوسط وحسب، وإنما على كامل البنيان الدولي المعاصر، فالتدخل الدولي تم على أساس ذرائع في أغلبيتها العظمى كانت غير صحيحة، وإضافة لذلك فقد انحصرت ولاية القرار الدولي 1973 في مجرد فرض منطقة حظر الطيران وحظر وقف إطلاق النار، ولكن أطراف التحالف الدولي تجاوزت فرض حظر الطيران باتجاه تنفيذ عمليات القصف الجوي. ورفض تنفيذ أي وقف لإطلاق النار، والتخطيط لجهة القيام بغزو ليبيا. وإمداد المعارضة الليبية بالسلاح والعتاد برغم أن القرار الدولي 1973 والقرار الدولي 1970 الذي سبقه قد شددا على منع القيام بأي عمليات إدخال سلاح إلى ليبيا مهما كان الطرف الليبي المستلم لهذه الأسلحة، وما هو جدير بالملاحظة في الأزمة الليبية أن التدخل الدولي قد تم لصالح مجموعة صغيرة معارضة لا تتمتع سوى بدعم 25 إلى 30% من السكان في أحسن الأحوال، وإضافة لذلك، فما هو أكثر خطورة يتمثل في سابقة منح الاعتراف الدولي للمجلس الانتقالي الليبي المؤقت بما أعطى هذا المجلس شرعية دولية علماً بأن هذا المجلس لم يتم انتخابه. وفقط تم تكوينه بواسطة الفصائل المسلحة الليبية.
o الحدث البحريني: يبدو في ظاهره على أساس أنه صراع معارضة سياسية شيعية في مواجهة نظام ملكي سني، ولكنه في باطنه ينطوي على المزيد من المعطيات الهامة، وذلك لجهة طاقة العنف السياسي ـ الطائفي الهيكلي الكبيرة، وبتحديد أوضح يشكل الشيعة حوالي 90% من إجمالي السكان. وهذا معناه أن 90% من السكان يعارضون النظام، وفي نفس الوقت يعتمد النظام البحريني في وجوده على الدعم السعودي والأمريكي، إضافة إلى الدعم الأمريكي الكبير الذي انكشف أمره أخيراً.
o الحدث اليمني: يبدو في ظاهره على أساس وجود معارضة سياسية كبيرة في مواجهة نظام سياسي تدعمه أقلية صغيرة، ولكنه ينطوي في باطنه على العديد من تأثير العوامل غير المعلنة: فالنظام تدعمه السعودية وأمريكا ودول الخليج. وفي نفس الوقت نلاحظ أن السعودية تقوم أيضاً بدعم زعماء القبائل اليمنية الكبيرة التي تقود المعارضة وعلى وجه الخصوص قبيلة حاشد وقبيلة بكيل، وتشير المعطيات إلى أن اليمن قد بدأت فعلاً فعاليات انتقالية باتجاه الحرب الأهلية والصراع الداخلي المرتفع الشدة.
o الحدث العراقي: على المستوى الظاهري السلوكي بدأت فعالياته قبل حوالي شهرين على أساس أخذ شكل الاحتجاجات السياسية المناهضة للفساد والتمييز الطائفي والتنديد بتدهور الخدمات العامة، ولكن سرعان ما توقفت هذه الاحتجاجات، و برغم ذلك فقد تحول الحدث إلى المستوى الهيكلي الباطني، وتقول المعلومات، بأن الحدث العراقي سوف يبرز ضمن فعاليات شديدة العنف خلال شهري تشرين الأول (أكتوبر) والثاني (نوفمبر) القادمين، وذلك لأن مستقبل الوجود الأمريكي سوف يتحدد خلالهما، وبالتالي إذا لم يتم خروج القوات الأمريكية من العراق فسوف تأخذ فعاليات الحدث العراقي شكل المواجهات المرتفعة الشدة ضد الاحتلال الأمريكي وحلفاءه العراقيين، وإذا تأكد خروج القوات الأمريكية فسوف تأخذ فعاليات الحدث السياسي شكل الصراع التنافسي حول عراق ما بعد خروج القوات الأمريكية.
o الحدث الأردني: بدأ منذ بضعة أشهر، وأخذت فيه الاحتجاجات السياسية طابعاً متقطعاً منخفض الشدة، ولكن الجانب الأكثر خطورة تمثل في تواتر استمرار هذه الاحتجاجات، إضافة إلى الطابع المتغير للمطالب السياسية التي ظلت في كل مرة تطرح شيئاً شديداً، وكأنما المقصود الحقيقي لم يأتى أوان ظهوره علناً، وفي هذا الخصوص تشير عملية التحليل إلى أن ما يحدث في الساحة الأردنية هو عملية نهوض بطيء متدرج لأزمة سياسية هيكلية عميقة الجذور، ترتبط بطبيعة النظام الملكي الأردني، وبطبيعة دوره في المنطقة، وعلى وجه الخصوص لجهة علاقاته بمحور واشنطن ـ تل أبيب، وتداعيات ذلك على ملفات الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
تمثل هذه الأحداث الأكثر أهمية في الوقت الحالي، مع ملاحظة أن الحدث المصري، قد بدأ وهو أكثر احتمالاً لجهة صعود الفعاليات مرة أخرى، وذلك بفعل الاحتقانات الجديدة، وأيضاً الانقسامات الجديدة، التي حدثت بفعل عمليات الاستقطاب التي جرت بعد رحيل الرئيس المصري حسني مبارك. وهي استقطابات أخذت الخطوط الآتية:
o تيار يطالب بتصفية تركة نظام مبارك، ويشكك في مصداقية المجلس العسكري الانتقالي المصري الحاكم حالياً، ويتكون هذا التيار من حركات الشباب المصري إضافة إلى الجماعات اليسارية.
o تيار يطالب بضرورة إعطاء المجلس العسكري الانتقالي المصري الحاكم فرصة لجهة القيام بإنجاز الفترة الانتقالية، وبالتالي لا داعي للتشكيك في مصداقية هذا المجلس العسكري طالما أنه حدد تاريخ الانتخابات، وبعد فإن من سيختاره الشعب المصري سوف يكون متاحاً له إنجاز التعديلات والتغييرات التي يريدها، ويتكون هذا التيار من جماعة الإخوان المسلمين والجماعات ذات التوجهات القومية الاجتماعية.
أما بالنسبة للحدث التونسي، فما يحدث في ملف الحدث المصري من تطورات ينطبق بالضرورة على تونس، وبالنسبة للحدث المغربي، فإن السيناريو الجاري فيه يشبه إلى حد كبير سيناريو الحدث الأردني. وبالنسبة للحدث السعودي والحدث العماني والقطري والكويتي، فإن مصيرهم رهين بتطورات فعاليات الحدث البحريني الجاري حالياً.
* أبرز النتائج الاستراتيجية
أدت فعاليات حركة الاحتجاجات السياسية الشرق أوسطية إلى صعود المزيد من النتائج الجديدة البالغة التعقيد، والتي سوف تظل لعدة سنوات قادمة وهي تمارس حضورها القوي على المسرح السياسي الشرق أوسطي، وفي هذا الخصوص نشير إلى النتائج الآتية:
o النتيجة الأولى: صعود أهمية السياسة الخارجية: خلال المراحل السابقة، ظلت سوريا الشرق الأوسط وهي أكثر اهتماماً بملفات السياسة الداخلية، وعلى وجه الخصوص تلك المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية، ولكن ما حدث في احتجاجات عام 2011م تمثل في الكشف عن تزايد أهمية ملفات السياسة الخارجية، وذلك بدليل أن الأنظمة الأكثر اهتماماً بتعزيز الروابط مع إسرائيل وأمريكا والبلدان الأوروبية الغربية على حساب التزاماتها إزاء قضايا الصراع العربي ـ الإسرائيلي، كانت هي الأكثر تعرضاً للاحتجاجات السياسية المرتفعة الشدة، بما أدى إلى سقوط نظام الرئيس التونسي والنظام المصري، ويهدد الآن بسقوط النظامين اليمني والبحريني، أما بالنسبة للأنظمة الأقل ارتباطاً بالأجندة والملفات الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية الغربية، فكانت الأقل تعرضاً لهذه الاحتجاجات بحيث لم تتجاوز فعالياتها بعض المظاهرات المتقطعة المتباعدة وغير المتواترة، كما في حالة الاحتجاجات السورية والجزائرية.
o النتيجة الثانية: صعود أهمية الأطراف الخارجية: سعت الأطراف الخارجية إلى القيام بالمزيد من الأدوار المزدوجة، وذلك ضمن اتجاهين: الأول القضاء على الاحتجاجات التي تستهدف الأنظمة الحليفة لهذه الأطراف، كما في حالة قمع الاحتجاجات البحرينية والتعامل بسلبية مع حركة الاحتجاجات اليمنية، والثاني تمثل في السعي لدعم الاحتجاجات التي تستهدف الأنظمة غير الحليفة لهذه الأطراف الخارجية، ونشهد حالياً قيام الأطراف الخارجية بدعم الاحتجاجات الليبية، ونفس السيناريو سعت هذه الأطراف الخارجية إلى القيام به إزاء الاحتجاجات السورية برغم أنها كانت احتجاجات أقل عددا وزخما.
o النتيجة الثالثة: تراجع استقلالية الاتحاد الأوروبي، وبكلمات أخرى، لم يعد الاتحاد الأوروبي قادر على اعتماد توجهاته المستقلة الخاصة به والتي تعبر عن شخصيته الجيو ـ سياسية المستقلة عن واشنطن، والآن، أصبح الاتحاد الأوروبي يقوم بدور "كلب الحراسة" الأمريكي، لجهة اعتماد المواقف التي تهدف إلى حماية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وبدا دور كلب الحراسة واضحاً من خلال الموقف الأوروبي إزاء الحدث السوري، والحدث الليبي وأيضاً لجهة التعامل بطريقة مخففة مع الحدثين البحريني واليمني.
o النتيجة الرابعة: اللايقين الروسي: برز الموقف الروسي، وهو أكثر اهتماماً باعتماد المواقف التي تسعى إلى التعامل في وقت واحد بعين مفتوحة كما في حالة موقف موسكو إزاء الحدث السوري، والتعامل بعين مغمضة كما في حالة موقف موسكو إزاء الحدث الليبي، وعلى ما يبدو، فإن الأمر يتعلق بمؤشرات تفيد لجهة سعي موسكو إلى إعطاء الأولوية لملفات السياسة الداخلية الروسية على ملفات السياسة الخارجية الروسية.
o النتيجة الخامسة: الحياد السلبي الصيني: ظلت بكين، وهي أكثر اهتماماً بالصمت ومراقبة التطورات الشرق أوسطية الجارية عن كثب، على أمل أن لا تنتقل عدواها إلى الصين، والتي سبق أن عانت من أوضاع مماثلة.
o النتيجة السادسة: الانقلاب التركي ـ العثماني: سعت تركيا إلى الدخول في حركة الاصطفافات الشرق أوسطية، وفقاً لثلاثة طرق: الأولى استخدام آلية عمليات الوساطة كما هو الحال في مساعي الوساطة التركية لحل الصراع الليبي، والثانية في المشاركة الفاعلة في عمليات التدخل الخارجي كما حدث في مشاركة تركيا في عمليات التحالف الدولي ضد ليبيا، والثالث في العمل من أجل دعم أطراف احتجاجية بعينها، كما هو الحال في قيام أنقرا بدعم بعض عناصر وقوى الاحتجاجات السورية ذات التوجهات السنية الإسلامية.
o النتيجة السابعة: الاختراق الإسرائيلي: برز هذا الاختراق بوضوح من خلال عمليات الدعم وتنسيق المواقف الساعية إلى زعزعة استقرار دمشق، وقد بدا هذا الاختراق أكثر وضوحاً من خلال الدور الإعلامي القطري الذي كان ينسجم بقدر كبير مع الدور الإعلامي البريطاني والأمريكي، المنسجمان بدورهما مع محتوى ومضمون فعاليات إعلام وجماعات اللوبي الإسرائيلي والجماعات اليهودية الملتزمة بالدفاع عن أمن المصالح الإسرائيلية.
تأسيساً على هذه النتائج السبعة، يمكن الإشارة إلى أن الآفاق المستقبلية الشرق أوسطية قد أصبحت تفيد بقوة لجهة احتمالات الآتي:
o تزايد تماسك روابط خط دمشق ـ طهران.
o تزايد تماسك مذهبية المقاومة في المنطقة.
o تزايد النفوذ الأمريكي ـ الإسرائيلي في البلدان التي ظلت وما زالت أكثر اهتماماً بالبقاء ضمن دائرة النفوذ الأمريكي.
وإضافة لذلك، فمن المحتمل أن يؤدي صعود الاحتجاجات الأردنية إلى حدوث تدخل إسرائيلي ـ أمريكي سافر، يؤدي بدوره إلى حدوث عملية اصطفاف وعمليات تعبئة سلبية فاعلة أدرنية داخلية، تندلع ضمنها المواجهات بين أنصار "ملف الملكية" وأنصار "ملف الجمهورية". وإضافة لذلك، سوف تحدث المزيد من التحولت النوعية في الملف الفلسطيني، خاصة أن حركة حماس قد أصبحت الآن تحت "الرعاية القطرية" بما جعلها تبدو أقرب إلى اتخاذ المزيد من المواقف البراغماتية إزاء مطالب اللجنة الدولية الرباعية لها لجهة الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف، والاعتراف بالاتفاقيات التي سبق وأن وقعتها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل وعلى وجه الخصوص اتفاقية أوسلو.
على مستوى مؤسسات المجتمع الدولي، من المتوقع أن تؤدي فعاليات الأحداث الشرق أوسطية إلى تزايد فعاليات قيام أطراف مثلث واشنطن ـ لندن ـ باريس بالاستخدام والتوظيف المتزايد لمفردات خطاب سياسي دولي تدخلي جديد يستند على معطيات ما أطلق عليه الخبراء الدوليين تسمية القانون الدولي "الإنساني"، الذي يؤكد على مبدأ مسؤولية المجتمع الدولي لجهة القيام بعمليات التدخل الدولي الرامية إلى حماية السكان المدنيين، مع التركيز على الاستخدام المتزايد لهذا المبدأ كغطاء يتيح للقوى العظمى والكبرى الدولية إطلاق فعاليات عملياتها السرية في العديد من بلدان العالم الثالث وعلى وجه الخصوص منطقة الشرق الأوسط، كما هو الحال في فعاليات التدخل الدولي "الإنساني" الجارية حالياً ضد ليبيا.
(الجمل)