فكما تُحمل الجبال على كواهل الرجال , حمل ذاك الشاب
اليافع نجمتيه الاثنتين و أقسم أن يكون بينه و بين الدنّية
المسافة التي تفصلها عن نجومه التي ظل يحلم بها مذ
استلقى أول مرة على الحافة الصخرية القريبة من بيته
الذي احتواه منذ الأزل..
هناك , عاش الليالي .. كل الليالي .حيث تعودت أنامله
الصغيرة على ملامسة النور ..حينها , نظر إلى السماء
علها العيون تلتقط شيئاً من شغف الذاكرة .
فلقد أعلمه والده بأن النجوم هي أزلية كل شيئ . هي أرواح
الأولين . أرواح أولئك الذين نذروا أنفسهم و نفوسهم من
أجل أن ترسم سماء الوطن و فضاء الأمجدية..
مد يده ببطئ صوب السماء ليرسم بإبهامه الصغير خطاً
مستقيماً بينه وبينها محاولاً أن يتلمس فيها ماهية الروح
و صحوتها و أزلية المكان و قبل كل ذلك معرفة الله..
فعاش لبرهة حلم المستقبل حين سيصبح ضابطاً في القوات
المسلحة ..
توالت الأيام و الأحلام . كبر الفتى وخط الشاربان و تلاقى
الحاجبان و غلظ الصوت واستطالت الهامات حتى لامست
طهر السحاب.. وبقي الصبي على ميثاق شرف الأحلام
يتطلع بجبين الصباح و أنفة صولات الرياح إلى أفق المجد
و الشهادة و من ثم الانبعاث. وكان أن تحقق له ذلك حين
تلقى موافقة الكلية الحربية لضمة إلى بوتقة المستجدين
بعد أن اجتاز امتحان و شروط القبول فيها...
و ما هي إلا سنتان و نيف حتى حاز على نجمتيه الغاليتين
..
هاتان النجمتان مثلتا حقيقة في نفس الفتى الذي أصبح اليوم
رجلاً , روح أمه و أبيه اللذين تغمدتهما سماء الرحمة
و الغفران منذ وقت قريب..
تابع الفتى ... الضابط تنشئته العسكرية متنقلاً بين قطعاتها
حيث انخرط في دورات تدريبية عديدة و اجتاز الكثير من
اختبارات الجيش بجدارة و اقتدار ..
و لقب بين أقرانه.... بالثور البشري ..
نال ثقة و محبة الضباط و صف الضباط و الجنود على حد
سواء , مما دعا قادة هذه القطعات التي انتمى إليها ثورنا
البشري إلى اقتراح الترقيات و الترفيعات ...
و ما هي إلا سنوات قليلة , حتى رُفِع الضابط الشاب لرتبة
عقيد ركن ..
أدرك العقيد الجديد أن المسؤوليات المناطة به و برتبته
الجديدة كبيرة جداً . ولهذا الأمر , حرص حرصاً شديداً
على بذل أقصى الجهود في سبيل تمثيلها خير تمثيل..
لقد مضى وقت طويل على آخر إجازة قضاها في
محافظته اللاذقيه . لقد اشتاق للبيت و السواقي و الماء
و زرقة البحر و السماء أضف لذلك رغبته في تسوية
بعض أعماله و أشغاله ..
حصل على مهمة السفر و بادر فوراً إلى الانطلاق صوب
قريته ..
هناك , احتاج للقاء قائمقام المدينه . قابل مدير مكتبه طالبا ً
إليه ترتيب موعد مع القائمقام لشرح مشكلته الخاصه .
و لكن دونما طائل .
جاء الضابط إلى قصر القائمقامعدة مرات دون أن يتحقق
ذلك اللقاء . و لم يتبق للعقيد الركن سوى يوم واحد
لتكتمل فيها كامل أيام مأذونيته ..
لذلك , كان لا بد له من الانتظار في ردهة القصر عله
يستطيع أن يلتقي القائمقام الكريم ..
و فعلاً , و بعد انتظار ساعتين كاملتين , استطاع العقيد
الركن أن يلمح مرور القائمقام . فسارع للتوجه صوب
سيارته عله يستطيع أن يحدثه قبل أن يغادر..
و ها هو يقترب من القائمقام وعلى بعد خطوات
قليلة فقط , استهل العقيد الشاب حديثه للقائمقام بتحية
عسكرية و مقدمة تعريف عن الرتبة و الاسم الثلاثي
وألحقها بعبارة سيادة الوالي ... ثم صمت منتظراً
عبارة رد من القائمقام ...
نظر القائمقام إلى العقيد برهة و قد أصبحت إحدى قدميه
في السيارة و قال له :
شو بدك .....ولاه ...... عقيد!!!!!!!! .ثم استقل
سيارته و غادر ....
ظل العقيد الشاب مسمراً في مكانه غير مصدق لما حصل .
لحظتها , تذكر كل شيئ وكأنه شريط سينمائي سريع
يُِعرض أمامه . تذكر نجومه و أمه و أباه ووطنه وبيته
وقريته و رفاقه . تذكر حافته الصخرية و أحلامه وأوهامه.
في هذه اللحظة , انهارت الجبال و سدت الدروب و غارت
المياه و خاب ضوء النجوم و ذبلت الأماني و تاهت
العبرات و انتهى كل شيئ للعدم ...
بكى العقيد و بكت الأرض تحت قدميه الطاهرتين .
انسابت الدموع على خديه الحمراوين من لون الشقائق.
واغرورقت العينان الزرقاوان ...
نظر إلى نجومه الغاليه , فلم يرها .. ولم يجد حينها إلا يداً
تربت على كتفه وصوتاً يقول له : لا حول و لا قوة إلا
بالله العظيم . خذ هذا المنديل و كفكف دموعك يا بني و
استغفر الله..لقد أتيت يا بني للعنوان الخطأ وفي الزمان
الخطأ ...طلبك هنا مردود و طريقك مسدود ..ما دام هذا
القائمقام... في قصره موجود ...!!!! .