آخر الأخبار

شو بدك..ولاه ...عقيد!!

فكما تُحمل الجبال على كواهل الرجال , حمل ذاك الشاب

اليافع نجمتيه الاثنتين و أقسم أن يكون بينه و بين الدنّية

المسافة التي تفصلها عن نجومه التي ظل يحلم بها مذ

استلقى أول مرة على الحافة الصخرية القريبة من بيته

الذي احتواه منذ الأزل..

هناك , عاش الليالي .. كل الليالي .حيث تعودت أنامله

الصغيرة على ملامسة النور ..حينها , نظر إلى السماء

علها العيون تلتقط شيئاً من شغف الذاكرة .

فلقد أعلمه والده بأن النجوم هي أزلية كل شيئ . هي أرواح

الأولين . أرواح أولئك الذين نذروا أنفسهم و نفوسهم من

أجل أن ترسم سماء الوطن و فضاء الأمجدية..

مد يده ببطئ صوب السماء ليرسم بإبهامه الصغير خطاً

مستقيماً بينه وبينها محاولاً أن يتلمس فيها ماهية الروح

و صحوتها و أزلية المكان و قبل كل ذلك معرفة الله..

فعاش لبرهة حلم المستقبل حين سيصبح ضابطاً في القوات

المسلحة ..

توالت الأيام و الأحلام . كبر الفتى وخط الشاربان و تلاقى

الحاجبان و غلظ الصوت واستطالت الهامات حتى لامست

طهر السحاب.. وبقي الصبي على ميثاق شرف الأحلام

يتطلع بجبين الصباح و أنفة صولات الرياح إلى أفق المجد

و الشهادة و من ثم الانبعاث. وكان أن تحقق له ذلك حين

تلقى موافقة الكلية الحربية لضمة إلى بوتقة المستجدين

بعد أن اجتاز امتحان و شروط القبول فيها...

و ما هي إلا سنتان و نيف حتى حاز على نجمتيه الغاليتين

..

هاتان النجمتان مثلتا حقيقة في نفس الفتى الذي أصبح اليوم

رجلاً , روح أمه و أبيه اللذين تغمدتهما سماء الرحمة

و الغفران منذ وقت قريب..

تابع الفتى ... الضابط تنشئته العسكرية متنقلاً بين قطعاتها

حيث انخرط في دورات تدريبية عديدة و اجتاز الكثير من

اختبارات الجيش بجدارة و اقتدار ..

و لقب بين أقرانه.... بالثور البشري ..

نال ثقة و محبة الضباط و صف الضباط و الجنود على حد

سواء , مما دعا قادة هذه القطعات التي انتمى إليها ثورنا

البشري إلى اقتراح الترقيات و الترفيعات ...

و ما هي إلا سنوات قليلة , حتى رُفِع الضابط الشاب لرتبة

عقيد ركن ..

أدرك العقيد الجديد أن المسؤوليات المناطة به و برتبته

الجديدة كبيرة جداً . ولهذا الأمر , حرص حرصاً شديداً

على بذل أقصى الجهود في سبيل تمثيلها خير تمثيل..

لقد مضى وقت طويل على آخر إجازة قضاها في

محافظته اللاذقيه . لقد اشتاق للبيت و السواقي و الماء

و زرقة البحر و السماء أضف لذلك رغبته في تسوية

بعض أعماله و أشغاله ..

حصل على مهمة السفر و بادر فوراً إلى الانطلاق صوب

قريته ..

هناك , احتاج للقاء قائمقام المدينه . قابل مدير مكتبه طالبا ً

إليه ترتيب موعد مع القائمقام لشرح مشكلته الخاصه .

و لكن دونما طائل .

جاء الضابط إلى قصر القائمقامعدة مرات دون أن يتحقق

ذلك اللقاء . و لم يتبق للعقيد الركن سوى يوم واحد

لتكتمل فيها كامل أيام مأذونيته ..

لذلك , كان لا بد له من الانتظار في ردهة القصر عله

يستطيع أن يلتقي القائمقام الكريم ..

و فعلاً , و بعد انتظار ساعتين كاملتين , استطاع العقيد

الركن أن يلمح مرور القائمقام . فسارع للتوجه صوب

سيارته عله يستطيع أن يحدثه قبل أن يغادر..

و ها هو يقترب من القائمقام وعلى بعد خطوات

قليلة فقط , استهل العقيد الشاب حديثه للقائمقام بتحية

عسكرية و مقدمة تعريف عن الرتبة و الاسم الثلاثي

وألحقها بعبارة سيادة الوالي ... ثم صمت منتظراً

عبارة رد من القائمقام ...

نظر القائمقام إلى العقيد برهة و قد أصبحت إحدى قدميه

في السيارة و قال له :

شو بدك .....ولاه ...... عقيد!!!!!!!! .ثم استقل

سيارته و غادر ....

ظل العقيد الشاب مسمراً في مكانه غير مصدق لما حصل .

لحظتها , تذكر كل شيئ وكأنه شريط سينمائي سريع

يُِعرض أمامه . تذكر نجومه و أمه و أباه ووطنه وبيته

وقريته و رفاقه . تذكر حافته الصخرية و أحلامه وأوهامه.

في هذه اللحظة , انهارت الجبال و سدت الدروب و غارت

المياه و خاب ضوء النجوم و ذبلت الأماني و تاهت

العبرات و انتهى كل شيئ للعدم ...

بكى العقيد و بكت الأرض تحت قدميه الطاهرتين .

انسابت الدموع على خديه الحمراوين من لون الشقائق.

واغرورقت العينان الزرقاوان ...

نظر إلى نجومه الغاليه , فلم يرها .. ولم يجد حينها إلا يداً

تربت على كتفه وصوتاً يقول له : لا حول و لا قوة إلا

بالله العظيم . خذ هذا المنديل و كفكف دموعك يا بني و

استغفر الله..لقد أتيت يا بني للعنوان الخطأ وفي الزمان

الخطأ ...طلبك هنا مردود و طريقك مسدود ..ما دام هذا

القائمقام... في قصره موجود ...!!!! .