بعد مرور أربعة عشر قرناً ونيّف على الصراع التاريخي الذي تسبب بانقسام الأمة، عاد السوريون للجلوس تحت سقيفة بني ساعدة بهدف الحوار والنقاش بين قريش ومعارضيها الذين أعادوا طرح فكرة « منّا أمير ومنكم أمير» ، إذ طالب منظموا لقاء المعارضة تحت سقيفة فندق سميراميس بحكومة وحدة وطنية برئاستهم بنسبة تمثيل 51% متعهدين بإنهاء بنية الاستبداد وإحلال الديمقراطية الشعبية في الديار الشامية، وهذا كلام قد يكون مقبولاً لدى البعض، ولكن دونه إثبات قدرة المعارضين على تهدئة المتظاهرين ولجم المخربين وإقناع فريق المؤيدين ، على اعتبار أن لعبة السياسة تقول بأن كل شيء يجب أن يكون مقابله شيء، وإلا فكلام بكلام لا يحقق الوحدة والوئام ولا يحمي الأنام من أظافر إخوتهم وأنياب أعدائهم ..
أما ماجرى من استنفار معارضة الخارج وحملتهم الشعواء على اجتماع معارضة الداخل "التاريخي" في السميراميس، فيعود لاختلاف الانتماءات أولا ولتضارب المصالح ثانياً.. خصوصاً أن غالبية المجتمعين في دمشق ينتمون إلى تيارات يسارية ماركسية بينما غالبية "أرفاض" الخارج ينتمون إلى تيارات إسلاموية، وبالتالي يمكن القول أن الصدام الذي حصل متأخراً بين تيارات المعارضة المصرية قد بدأ مبكراً بين أوساط المعارضة السورية، وإن كانت الكفة تميل لصالح معارضة الداخل المعروفة لدى السوريين منذ ربع قرن، بينما تقتصر علاقتهم بمعارضة الخارج على المشاهدة عبر زجاج الشاشات التي تنقصها الرائحة والتواصل الحقيقي مع الناس.. وحتى لو اجتمعت المعارضات السورية واتفقت بجهود جماعة الاتحاد الاشتراكي، فإنها ستبقى أضعف بكثير من النظام الذي حافظ على تماسك ووحدة مؤسساته، بدءاً بمؤسسة الجيش مروراً بالحكومة وانتهاء بالجبهة الوطنية التي يرعاها حزب البعث، على الرغم من مرور مئة يوم على بداية التمرد ودعايات انقسام الجيش والبعث من قبل المحطات الغربية الداعمة للمعارضة دون جدوى ..
وبالعودة إلى المقدمة، يمكن القول أن العصبية السياسية قد حولت المعارضة إلى ما يشبه الطائفة أو المذهب، وكذلك المؤيدون المتعصبون للنظام قد شكلوا بدورهم طائفة "منحبك"، وفي كل طائفة سياسية نشأت مدارس فقهية تزيد من هذه العصبية، الأمر الذي يؤكد أننا لم نخرج بعد من تحت أجواء سقيفة بني ساعدة التي قسمت الأمة وتركت لنا إرثاً يعيقنا عن صناعة الديمقراطية التي تبشر بها نُخب الأمة السورية ولا يتقنون طبخها لعدم توفر عناصرها في مطابخهم ..
ملاحظة 1: لم يوجه أحد من المجتمعين في لقاء دمشق أي نقد لشخص رئيس الجمهورية أو لشرعيته، وكذا حصل في لقاء حلب التشاوري، وهذا يعني ضمنياً اتفاق الغالبية على أن الرئيس هو الضامن الأساسي لنجاح الحوار ونقطة الالتقاء بين الأطراف المتحاورة على شكل الدولة الجديد .
ملاحظة 2: حتى الآن ما زال المعارضون يتجاهلون وجود المسلحين، كما يغمضون أعينهم عن شهداء الجيش والشرطة، ويرفضون الإعتراف بصدقية الجماهير المؤيدة للنظام، وهذا ماقد يؤخر المصالحة الوطنية التي نسعى إليها..
تنويه حول لقاء المعارضة في فندق سميراميس: وكنا مجموعة من المعتدلين قد افتتحنا اجتماعاتنا قبل شهرين بالتشاور مع صاحبنا ميشيل كيلو لوضع خطوط عامة تمهد لحوار وطني، وكان الأستاذ ميشيل يجتمع مع مجموعات أخرى لديها الهم نفسه على اختلاف المشارب والرؤى.. وقد قام مؤخرا بدعوة عباس النوري وبسام كوسا وأنا إلى الاجتماع الذي كان تقرر عقده في الشيراتون، ثم عاد واتصل بنا ليخبرنا بانتقال الاجتماع إلى السميراميس.. ولم يلبِّ بسام الدعوة بينما فوجئت أنا وعباس بأن اللقاء ليس للحوار والنقاش حول الإصلاح المطلوب وإنما للمشاركة بالمداخلات بعد تلاوة بيان طُرحت فيه شروط المعارضة لبدء الحوار مع السلطة ومن دون التصويت على بنوده من قبل المجموعات المشاركة في اللقاء، وهذا أول الوهن الديمقراطي.. وفي الزاوية القادمة أعرض الخطوط العامة لمناقشاتنا في أربعة اجتماعات بعد زيارتنا للأستاذ ميشيل، اثنان منهما في بيتي ورابعها في بيت عباس وآخرها في بيت بسام قبل أسبوعين من تاريخه، وسنطرحها للنقاش مع الأخوة القراء لاحقا لإغنائها بآرائهم ورؤاهم التي ستعطيها مشروعيتها كمطالب للأكثرية الوطنية المعتدلة المتحررة من إرث سقيفة بني ساعدة ..
هامش: وقد رأيت أبا الأسود الدؤلي في منامي فقلت: يا مولانا أريد أن أسألك عن معنى لفظة «الواغش» الواردة في جملة الثائر الشهير بأبي نظير في حديثه التلفزيوني الأخير عندما قال (غَيّرنا الواغش)؟ فقال لي أن الواغش هو صناعة البلبلة التي تغشي الأبصار عما يجري في الأمصار بهدف شق الصفوف، ومثال ذلك ما اتهمك به بعض راكبي موجة المعارضة خلال الـ24 ساعة الأخيرة بالقول: نبيل صالح شق الصفوف.. نبيل صالح ليس معارضاً.. عميل للنظام.. مندس .. شبيح، بحسب ما سمعتهم يرددونه عبر "الجزيرة" و"العربية" و"الأورينت" .. فهل هذا صحيح؟
قلت: يا مولانا، منذ عقدين وجماعة اليسار المعارض تحملني على أكتافها وتقول "أنت منا آل البيت" وأنا أقول وأكرر بأني لست معارضاً ولا مؤيداً، وإنما مجرد كاتب يدافع عن حقوق المظلومين ويجتهد في نقد الفساد وتفكيك بنية الاستبداد.. وهكذا خسرت "عطاءات" النظام بالأمس "وأوسمة" المعارضة اليوم، وربحت قلمي وما خطّه محفوظ في كتبي وعلى لوائح "غوغل" لمن يريد التأكد مما أقول..
(الجمل)