آخر الأخبار

أبعد من النظام، وأوسع من السياسة

 

أدونيس

 

 

 

(رسالة مفتوحة إلى المعارضة حول التغيير في سوريا، وبخاصة تغيير الدستور)

ـ 1 ـ
لماذا لم ننجح نحن العرب، حتى اليوم في بناء مجتمع مدني، تكون فيه المواطنة أساس الانتماء، بديلاً من الدين (أو المذهب) ومن القبيلة (أو العشيرة والعائلة)؟ فالحق أن ما نطلق عليه اسم «مجتمع»، ليس إلا «تجمعات» من عناصر متناقضة تتعايش في مكان واحد، يُطلق عليه اسم «وطن». وليست السلطة هنا إلا «نظاماً» للغلبة والتسلط في حلف «يجمع» بين مصالح المتسلطين. والصراع السياسي هنا، هو أيضاً، صراع لتغيير السلطة، وليس صراعاً لبناء مجتمع جديد. وهكذا كانت السلطة في المجتمعات العربية عنفاً مركباً في بنيتها ذاتها، وكانت ممارستها نوعاً من التأرجح بين العنف «الطبيعي»، والعنف الآخر المموّه، ثقافياً، والذي يسمى «التسامح».
من الحاكم؟ تلك هي المسألة الأولى، عند العرب. وهي ترتبط، على نحو عميق، بالمسألة الدينية. مسألة «تطبيق للإسلام» أو «لمبادئ الإسلام الصحيحة»، إشارة إلى أن هناك «إسلاماً» غير صحيح، أو «مبادئ إسلامية غير صحيحة». وهذه طامة دينية ـ سياسية كبرى نرزح في سلاسلها، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً. واليوم نمارس التنويع الحديث على الأسئلة القديمة: هل الإسلام الصحيح هو كما يراه عليّ، أم كما يراه معاوية؟ هل هو في القول بأن «القرآن مخلوق»، أم «غير مخلوق»؟ هل هو في الإيمان بالجنة والنار، حرفياً أم رمزياً؟ هل هو في العقل أم في النقل؟ هل هو في المساواة الكاملة، حقوقاً وواجبات، بين الرجل والمرأة، أم هو على العكس، في أفضلية الرجل وأوليته؟ هل هو في التسنّن، أم في التشيّع؟... إلخ، إلخ.
ومنذ ما سميناه بـ«عصر النهضة» نمارس التنويع على هذه الأسئلة.
واندرجت في آلية هذا التنويع جميع «الثورات» العربية الحديثة، ومن ضمنها «ثورة» عبد الناصر. وتبيّن أنها كانت «ثورات» من أجل السلطة، لا من أجل «المجتمع». وقد وصل هذا «التنويع» إلى ذروته اليوم، بتسمية الأشياء، جرياً على عاداتنا وتقاليدنا، بغير أسمائها: نقول عن الدولة التي يوجهها الدين بأنها «مدنيّة»، ونسمي الصراع على السلطة «ثورة». ونقول عن عبودية المرأة إنها «حرية». وهكذا وهكذا.
والحق أن كثيرين من الكتّاب العرب المهمين مأخوذون بالتعجل: وهم لذلك يعزفون عن المناظرة إلى المهاترة. وتبعاً لذلك يسارعون فيضفون على الأحداث والأشياء رغباتهم وأحلامهم. ويسمونها بأسماء لا تنطبق عليها.
نحن مدعوون، إذاً، إن كنا نعمل حقاً على الذهاب إلى أبعد من تغيير السلطة والسياسة، إلى بناء مجتمع جديد، ـ مدعوون إلى معرفة أنفسنا، وتاريخنا. ولماذا، مثلاً لا يزال انتماؤنا دينياً، يحمل أربعة عشر قرناً أو أكثر من «التمردات» و«الانشقاقات» و«الأهوال» و«المذابح»؟ ولماذا، تبعاً لذلك، لا يزال انتماؤنا العميق قبلياً عشائرياً؟
نحن كذلك مدعوون إلى اكتشاف هذه البداهة وهذه البساطة:
ليس غريباً أن تكون جميع الأنظمة العربية، اليوم، دون استثناء، أنظمة طغيانية. إذ متى كانت لدينا أنظمة حرة وديموقراطية وعادلة، وتؤمن بالإنسان وحقوقه؟ وعلى هذا المستوى، يصح القول إن «الربيع العربي» ظاهرة يصح وصفها بأنها فريدة، وعظيمة. وبأن الذين قدّموا حياتهم من أجلها، قصداً أو عفواً، هم طليعة نضال ضروري مشرّف، بنّاء، وإنساني. لكن علينا في الوقت نفسه أن نتذكر أولئك الذين قدموا حياتهم أيضاً، بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، فرادى وجماعات، من أجل بناء مجتمعات عربية، حرة وديموقراطية. وعلينا تبعاً لذلك، وفي ضوء «الربيع العربي» نفسه، أن نتساءل، لماذا قامت الأنظمة العربية، منذ تلك الفترة، باسم الحرية والديموقراطية، لكنها لم تنتج إلا العبودية والطغيان، ولم تكن إلا هوساً بالسلطة وامتيازاتها، ولم يكن الإنسان الذي وقف إلى جانبها أو ضحّى من أجلها إلا مجرد سلّم، ومجرد أداة؟
كلا لا يتم تقدم المجتمع اعتماداً على ما مضى، أو انطلاقاً منه.
التقدم نوع من ولادة ثانية. فلا يمكن بناء الغد بما صار ماضياً، أو بما رفضه، أو وضعه موضع النقد والتساؤل مفكرون وكتاب كثيرون في الماضي، نُبذوا، او سفِّهوا، أو قُتلوا.
أن يكون الإنسان دائماً مع الحرية والعدالة وإلى جانب المضطهدين، المستضعفين، الفقراء، الضحايا، أمر لا يحتاج إلى وصايا وخطب واتهامات وبطولات. يحتاج إلى الوعي بأننا لا نستطيع أن نكون حقاً معهم إلا إذا كنا، بدئياً، نعمل على تخليصهم من الشروط التي تكمن وراء اضطهادهم وفقرهم واستضعافهم. وهي شروط كامنة في هذا الحاضر السياسي ـ الاقتصادي الذي ليس إلا ماضياً متواصلاً: تسييس الدين وتديين السياسة. فهذان هما نواة الحلف السلطوي الذي يحوّل «المجتمع» إلى شركة ترئسها السلطة، ويحوّل «الوطن» إلى «متجر» يقوده أهل السلطة وأتباعهم.
ولماذا إذاً، في ضوء هذا كله، لا نجهر قائلين: تكون الثورة قطيعة كاملة مع هذا الحاضر ـ الماضي المتواصل، في مختلف المجالات، وعلى جميع الصعد، أو لا تكون إلا تحركاً باسمها وإلا استمراراً قد يكون أشد ظلاماً من جميع أنواع الظلام التي «تفضل» بها علينا الصراع القديم على السلطة؟
ـ 2 ـ
استناداً إلى ما تقدم، أوجز الأطروحة التي أنطلق منها في ثلاث نقاط:
1 ـ المجتمع العربي ـ الإسلامي مؤسس، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، على الدين في ارتباطه الوثيق ببنيته القبلية ـ الإتنية، وبالسلطة والصراع التاريخي، العنفي، الدموي غالباً، حولها وعليها. وهو أمر لا يزال قائماً حتى الآن.
2 ـ كل تغيّر في أي ميدان لا يمكن التعويل عليه، إذا لم يكن صادراً عن إعادة نظر جذرية، وعلى نحو شامل، في هذا الأساس. هذا، إذا كانت الغاية من التغيير بناء مجتمع جديد، لا مجرد اختزال يتمثل، على الطريقة التقليدية السياسية في «الإطاحة بالنظام سريعاً وبأي ثمن».
3 ـ المعارضة، خصوصاً في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ العرب، إما أن تكون على مستوى التاريخ والمستقبل: عملاً لبناء مجتمع مدني إنساني جديد، وإما أن تندرج في سياق المعارضات التقليدية: الاكتفاء بتغيير النظام القائم، سياسياً.
وفي هذا تكون موجة قامت باسم التحرر، لكنها ظلت كغيرها من الموجات السابقة، بدءاً من الانقلابات العسكرية السورية المتوالية إلى الموجة الكبرى ـ عبد الناصر، تنويعاً آخر على تعطيل الحياة العربية، وتعطيل الحريات والحقوق التي قامت باسمها.
ـ 3 ـ
يقوم البيان الختامي لاجتماع المعارضة، الأول، في دمشق على شقين:
مبدئي، وعملي. المبدئي هو، كما جاء في البيان: «الانتقال إلى دولة ديموقراطية مدنية، تعددية، تضمن الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية، وحريات جميع المواطنين السوريين، كما تضمن العدالة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن العرق والدين والجنس».
والعملي هو: «إنهاء الخيار الأمني، والتحقيق في جرائم القتل (الموالية والمعارضة)، وضمان حرية التظاهر، وإطلاق سراح المعتقلين دون استثناء، وحرية الإعلام وموضوعيته، وإدانة التحريض الطائفي، وإعادة المهجرين إلى قراهم وبلدانهم، والتعويض عليهم، ورفض التدخل الأجنبي، والسماح للإعلام العربي والدولي بمتابعة ما يجري في سوريا بكل حرية».
ـ 4 ـ
ليس عندي إلا التأييد الكامل للجانب الثاني العملي، بمرتكزاته وتفاصيلها، مضيفاً إليها التحقيق أيضاً في جرائم التحريض الطائفي من أية جهة جاءت. فلئن كانت جرائم القتل العادي ـ المادي «عمياء»، فإن جرائم التحريض الطائفي «بصيرة»، وهي إذاً، أشد هولاً وفتكاً.
لكن بالمقابل، أود أن أناقش الجانب المبدئي، مع أنني نظرياً أوافق عليه كلياً. غير أن «النظري» هنا «تجريدي» ولا يعني شيئاً على المستوى العملي، إلا إذا كان مرتبطاً عضوياً بالأسس التي تتيح له أن يصبح عملياً، أو أن يتحقق في الحياة، وفي المؤسسة، وفي النظام. خصوصاً أن هذا الجانب المبدئي ينهض على كلام عام قيل كثيراً في الموجات التي أشرت إليها، غير أن التجربة أكدت أن قادة هذه الموجات، أنظمة وأفراداً، وفي طليعتها حزب البعث العربي نفسه في دمشق وبغداد، أفرغوا تلك المبادئ من معانيها، وامتهنوها. هكذا أصبح هؤلاء القادة، وهذه الأنظمة جزءاً من «الفساد» القديم.
الأخطر من ذلك: هذا الكلام المبدئي العام تحوّل في الثقافة السائدة إلى غطاء معقد وكثيف لتمويه الاستبداد في جذوره الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية.
النظام السوري، كمثل الأنظمة العربية، إنما هو نتيجة لأسباب وعوامل. مجرد تغييره، مع بقاء هذه الأسباب والعوامل، لن يعني في أفضل الحالات، أكثر من تغيير نظام سيئ بآخر أقل سوءاً. هل سيعني مثلاً تغيير الملك المغربي، اليوم، أو الأردني، أو السعودي، أكثر من ذلك ـ إن لم يكن أقل من ذلك ما دامت «إمارة المؤمنين» والملكية الوراثية، والملكية العائلية، باقية؟
والمهم إذاً هو تغيير الأسباب والعوامل. فهذه بالنسبة إلى النظام السوري قائمة على ثقافة قروسطية، يلعب فيها الدين، مقترناً بالعصبية المذهبية ـ القبلية، الدور الحاسم الأول. يستحيل في هذه الثقافة، مثلاً، التصور بأن يكون رئيس مصر قبطياً، مهما كان الأقباط عظماء، ومهما كان هو عظيماً بشخصه. أو أن يكون رئيس سوريا آشورياً أو كلدانياً أو سريانياً، أو مارونياً، أو أرثوذكسياً أو بروتستانتياً. لكن، بأي حق يستحيل هذا التصور؟ وكيف نقبل بهذه الاستحالة، إذا كنا حقاً «مجتمعاً مدنياً»، وبشراً متساوين؟
إن «أهل الذمة» في سوريا، وهم سكانها الأصليون، لا يزالون يدفعون الجزية، سلبياً: حرمانهم من أن يكون لهم الحق في رئاسة وطنهم الأصلي، (لا بوصفهم الأقلوي أو لانتمائهم الديني)، الذي لا تزال تهيمن عليه ثقافة الفتح والغلبة. فمنطق الفتح والغلبة والصراع الديني الذي ينتمي إلى تاريخ البدايات الإسلامية هو ما يستمر وهو الذي يحكم، لا منطق التآزر ووحدة الانتماء والمساواة في المواطنة، فضلاً عن منطق الكفاءات الفردية.
الخلاص من هذه الثقافة التي تصبح في الوضع الحالي لا إنسانية، والتأسيس للمواطنية وثقافتها الإنسانية، هو ما يجب أن يكون الهاجس الأول الموجّه في أفكار المعارضة وأعمالها. وهو ما لم يعمل له حزب البعث العربي، رغم ادعائه العلمانية، وتلك هي، في رأيي، خطيئته المميتة الأولى.
كيف يمكن إذاً أن تنشأ في سوريا «دولة ديموقراطية، مدنية، متعددة»، إذا كان مستحيلاً أن يُسنّ أي قانون أو تشريع لا يتفق مع «المفهوم الإسلامي الصحيح» وفقاً لعبارة الجامع الأزهر في وثيقته الأخيرة، أو «الرؤية الإسلامية الصحيحة»، وفقاً لما جاء فيها؟
ومن غير المفيد أن نسأل: ما هذا «المفهوم»؟ وما هذه «الرؤية»، وما معاييرهما، ومَن يقرّر ذلك، وباسم أي سلطة؟ وبموجب أي اجتهاد؟ من غير المفيد أن نسأل لأن الجواب جاهز: تلك هي الأكثرية، وتلك هي إرادتها، وذلك هو «مفهومها» وتلك هي «رؤيتها». لكن السؤال الآخر الذي لا يُطرح ولا يُجاب عنه، هو: لماذا تكون الأكثرية السياسية من الدين الأكثري عندما لا يتصل الأمر بالشؤون الدينية، بل بالأمور التي تهم الجميع بلا تمييز؟ ولماذا لا يُبنى الاختيار هنا على أساس الحاجات والمطالب الوطنية وليس على أساس الدين أو الانتماءات العقائدية الخاصة بكل دين؟
ومن أين لسوريا، إذاً، أن تكون مدنية وتعددية؟
والجواب أيضاً يجيء من وثيقة الأزهر: «تطبيق الشريعة الإسلامية هو ضمان للتعددية، وحرية الاعتقاد، وممارسة العبادات لأصحاب الديانات السماوية الأخرى الذين تكفل لهم الشريعة الإسلامية أيضاً الاحتكام إلى شريعتهم في ما يتعلق بشؤونهم وبالأخص في الأحوال الشخصية».
وهو جواب يُحل الشريعة الإسلامية محل الدولة، ويلغي بشكل قاطع «هوية» غير المسلمين بحيث يجعلهم، هم أيضاً، تابعين لهذه الشريعة.
الدولة، إن كانت مدنية، تكون هي نفسها الضمان. ولا يكون لأي دين كثُر أتباعه أو قلّوا، أي سلطان عليها، في أي ميدان. إن سلطة التشريع هي للمدينة، للمدنية، للإنسان المدني، وليست للدين. يجب أن تنتهي ثقافة القرون الوسطى التي كانت تعلّم أن الإنسان خُلق من أجل الدين. نعم يجب أن تنتهي. فالدين هو الذي خُلق من أجل الإنسان.
هكذا لا تعني عبارة «الدولة المدنية التعددية» شيئاً، إلا إذا عنت أن انتماء الإنسان، هو، أولاً، انتماء للأرض، للوطن، للمجتمع، وليس للدين أو القبيلة أو الطائفة أو العشيرة أو العرق، كما هو قائم، فعلياً، في سوريا.
وهكذا يكون للسوري غير المسلم الحقوق نفسها التي يتمتع بها السوري المسلم. المجتمع حقوق وواجبات وحريات، وليس كنائس وجوامع وخلوات. هذه للأفراد. ولكل فرد حقه الخاص فيها. وهو حق يجب أن يُحترم ويُصان. كذلك لكل فرد الحق في أن يرفضها أو «يعتزلها»، وفي أن لا يتديّن. فحق اللاتديّن يجب أن يُحترم ويُصان كحق التديّن. كذلك لا تعني الحرية والديموقراطية شيئاً إلا إذا عنت أولاً، هذا الانتماء. وها هو لبنان مثال حي.
لا أحد يقدر أن ينكر وجود الحرية في لبنان، السياسية والفكرية والاقتصادية والتنظيمية. أو ينكر فيه الممارسة الديموقراطية التي مهما قيل فيها تظل أفضل بكثير من الممارسات التي توصف بها الديموقراطية في البلدان العربية. لكن السؤال هو التالي: ماذا فعلت هذه الحرية وهذه الديموقراطية على الصعيد المدني ـ التعددي، بالمعنى الثقافي الحضاري والإنساني، في لبنان: لبنان ـ الدولة والمجتمع؟
ثم، أليس الدور النبذي ـ الإقصائي الذي يلعبه الانتماء الديني ـ الطائفي العامل الأساس في تعطيل الحرية والديموقراطية في لبنان؟
ـ 5 ـ
ليس النظام في سوريا مجرد شأن سياسي. إنه نظام مركّب سياسي ـ ثقافي، وديني ـ اجتماعي. له «تراثه» وله «أجهزته» الإيديولوجية، وله مؤسساته.
المعارضة التي تعمل على إسقاطه، سياسياً، يجب في الوقت نفسه، أن تعمل على الخلاص من مرتكزاته الثقافية والتاريخية التي تكمن وراء أسباب نشوئه. دون ذلك تكون المعارضة مجرد عمل سياسي يطرد حكاماً ليُحل مكانهم حكاماً آخرين. معارضة لا تهتم بالأسس، وإنما تهتم بالسلطة والهيمنة. وليس لها أي عمق أو بُعدٍ تغييري جذري: ليس هاجسها تغيير المجتمع، بل تغيير الحكم.
وفي مجتمع مركّب كالمجتمع السوري، متعدد الأديان والمذاهب، الإتنيات، ومتعدد الثقافات، لا تكون المعارضة التي تكتفي بإسقاط نظامه إلا تنويعاً آخر على هذا النظام نفسه، لأنها تتكوّن من الطينة ذاتها التي يتكوّن هو نفسه منها. وهي، على هذا المستوى، لا تعني أكثر من كونها صراعاً سياسياً على المصالح. ومن هنا نفهم غياب «الأقليات» عن جسم المعارضة، إلا شكلياً ورمزياً، تماماً كما هو الشأن بالنسبة إلى النظام. المسيحيون، تحديداً، بمختلف فئاتهم، وهم كنز بشري وثقافي فريد، لا مثيل له في العالم، غير «موجودين» في المعارضة، وغير «موجودين» في النظام ـ إلا بوصفهم «ديكوراً»، في بعض الأحيان. وهكذا يُنظر إليهم، موضوعياً، كأنهم «لاجئون أو تحت «الحماية» أو «الوصاية». و«إضاعة» النظام والمعارضة إياهم، تشعرهم أنهم هم أنفسهم «ضائعون». لا «وطن» لهم في وطنهم الأصلي الأول. يعبّر عن هذه المسألة حبيب أفرام رئيس الرابطة السريانية، بعمق صامت ضائع قلق وحزين («النهار»، 3 تموز 2011).
ولا نتحدث عن «الأقلّيّات» الأخرى داخل الإسلام، والتي تعدها الأكثرية الإسلامية، «غير مسلمة»، وهي إذاً، مرشحة لمصائر سوداء ـ استمراراً للسواد الكارثي في تاريخها.
لهذا أقول وأكرر: ليس النظام في سوريا مجرد شأن سياسي، أو مجرد أجهزة قمعية، يصلح كل شيء إذا تم القضاء عليه.
هكذا، أكرر أيضاً: تأخذ المعارضة في سوريا قيمتها وأهميتها، بقدر ما تقرن معارضتها السياسية بمعارضة ثقافية، بالمعنى الواسع الشامل، والجذري. وإذاً، لا بدّ لها، من أن تؤسس اعتراضاتها على الخلاص من الأسس الثقافية للنظام الذي تعارضه، وفي مقدمتها الفصل الكامل بين الدين والدولة، وبين القبيلة والمجتمع، على جميع الصعد، وفي مختلف المستويات.
ـ 6 ـ
أسوأ ما يشوّه المعارضة، هو أن تبدو كأنها منساقة، باسم تصفية حسابات معينة، مع نظام استبدادي يجب أن ينتهي، ـ منساقةً في تيار «أكثري»، تيار عقول ذكورية بطركية، لا تزال تؤمن أنها «الأب»، وأن المرأة لا عقل لها. عقول قدِر أصحابها تاريخياً ويقدرون الآن، استناداً إلى أسباب وعوامل كثيرة، أن يخلقوا نساء يقنعونهن حتى بالدفاع عن استحسان عبوديتهن، واختيارها، والبقاء فيها، وصيانتها. وهي ظاهرة لا وجود لها إلا في العالم الإسلامي: هذا العالم العظيم بإمكاناته وطاقاته وعبقرياته، لكن الصغير بأنظمته وخططه وسياساته. وفي مثل هذا المجتمع يستحيل أن تكون الحرية والديموقراطية إلا كلمات جوفاء وأقنعة.
وقبول المعارضة بهذا الانسياق يموّه جذور الطغيان، ويختزلها في السياسة ـ النظام. وهي نظرة جزئية، وغير كافية. بل تبدو المعارضة هنا، كأنها هي نفسها تعِدّ نفسها لكي تكون النظام اللاحق لخلافة النظام السابق.
هكذا لا يجوز أن تكون المعارضة السورية مجرّد تصفية لحسابات متنوّعة مع نظام مستبد، قلت, اكرر أنه يجب أن يتغيّر. المعارضة هي أولاً، العمل على إزالة العقبات التي تحول دون نشوء مجتمع ديموقراطي حر وعادل. والقضاء على النظام الاستبدادي جزء ضروري، لكنه لا يختزل المشكلة كلها.
لدينا أمثلة: ماذا أفادت إيران من القضاء على نظام الشاه الاستبدادي، باسم الليبرالية، وإحلال نظام آخر محله، استبدادي هو أيضاً، لكن باسم الدين؟
الاستبداد باسم الدين، أشد خطراً لأنه شامل: جسمي وروحي. ولعلنا أخطأنا جميعنا نحن الذين وقفنا إلى جانب الثورة الإيرانية ظناً منا أنها ستعمل من أجل الحريات حقاً. لكن، كان هذا الظن، في المحصّلة، إثماً.
وما يُقال عن إيران يُقال عن الأنظمة العربية كلها.
أكرر هنا للتوكيد، متسائلاً:
ما جدوى المعارضة السورية على سبيل المثال، إذا كان لا يحق للسوري، امرأة أو رجلاً، المسيحي أو الكردي أو الآشوري، أو الكلداني، أو غير السني أن يترشح لمنصب الرئاسة السورية؟ أو لا يُعترف بالحقوق اللغوية والثقافية لجميع من يندرجون تحت اسم الأقلية؟ ألن تكون المعارضة هي هنا كذلك عنصرية كمثل النظام الذي تثور عليه؟
ـ 7 ـ
هكذا تواجه المعارضة عملياً مهمة التأسيس للمواطنية، حيث يزول مفهوما «الأكثرية» و«الأقلية»، إلا بالمعنى السياسي الانتخابي. وهذا يعني النظر إلى سوريا بوصفها مجتمعاً واحداً تنصهر فيه جميع الانتماءات المذهبية والإتنية والثقافية، في «سلالة تاريخية» واحدة، في ما وراء الإتنيات والأديان.
وصولاً إلى هذه الغاية، ولأوضاع تاريخية واجتماعية معينة، ينبغي البدء بالتأسيس لمرحلة انتقالية يُنص فيها صراحة، بوثيقة تاريخية على حقوق الأقليات الإتنية واللغوية والمذهبية، وهي كثيرة في سوريا: إسلامياً، ومسيحياً، عرباً وأكراداً وشراكس وتركماناً... إلخ. ويجب الحرص بخاصة على حقوق الجماعات التي تمثل الجسر الحضاري بين حديث سوريا وقديمها: الصابئة، الكلدان، الآشوريين، السريان... إلخ.
هكذا تنهض المعارضة على مبادئ إعادة تأسيس المجتمع. وتقوم هذه الإعادة على الأسس التالية:
أ ـ احترام الدين في ذاته. غير أن الدين للفرد، وليس للمجتمع.
ب ـ حق اللاتديّن مصون كحق التديّن.
ج ـ المجتمع مدني، يتساوى فيه أفراده جميعاً، واجباتٍ وحقوقاً. ولا أولية في ذلك للدين، بل للعقل والحرية والكرامة البشرية وحقوق الإنسان.
د ـ الديموقراطية، حرية وسياسةً وعدالةً، نظراً وعملاً.
هـ ـ مدنية الثقافة، في معزل كامل عن التحليل والتحريم الدينيين.
و ـ لا فكر، لا إنسان إلا بالحرية الكاملة، دون أي قيد.
ز ـ مدنياً وإنسانياً، لا يجوز أن ينص الدستور على دين الدولة أو دين رئيسها.
ليست المسألة، إذاً، أن نصلح الدين، أو أن نعيد تأويله، بحيث يتلاءم مع الحياة الاجتماعية. المسألة هي أن نعيد الدين إلى طبيعته الفردية، بوصفه تجربة خاصة. تكون الحياة الاجتماعية مشتركة ومدنية، ويكون الدين شأناً فردياً خاصاً لا يُلزم إلا صاحبه. الدين للفرد، وحده، وليس للمجتمع بوصفه كلاًّ. لا يُفرض الدين وراثياً، أو سياسياً وإنما يكون اختياراً حراً بوصفه حقاً فردياً. ولا يفرض بالأكثرية العددية في المجتمع. ومن حق الفرد ألا يتديّن، وأن يختار الدين الذي يشاء، دون أي إكراه. الدين حرية فردية. والمجتمع حرية مدنية. لكن ليس للدولة أو المجتمع أن يدين إلا بالإنسان وحقوقه.
في القرنين الماضيين (التاسع عشر والعشرين)، عشنا ما سميناه «نهضة». وكانت سِمتُها الأساسية: الإصلاح وبخاصة الديني. وسواء اتخذ هذا الإصلاح منحى اجتماعياً أو سياسياً أو دينياً، فقد أدى في النتيجة إلى تجزئة الفكر، وحتى إلى منعه. وصارت الحركة الفكرية العربية حشداً من المتوازيات، كل منها ينبذ الآخر. متوازيات لا تتلاقى. وكان الدين في هذا كله المعيار، والحكَم، والفصل.
والنتيجة أننا وصلنا إلى نتائج كارثية، على جميع المستويات. لقد انتهى عصر الإصلاح. ذلك أنه انطلق من إيمان كامل بالمسبّق الديني. والتغيّر يحتاج بدئياً إلى نقد هذا المسبّق والى نقد المسبّقات كلها، والى الخروج منها.
كل مساومة أو مسايرة للإيديولوجيا الدينية، بحجة أو بأخرى، ولو كانت التحرر من الخارج، إنما هي مساومة على مصير الإنسان في هذه المنطقة من العالم. فالعودة إلى الدين ـ سياسياً واجتماعياً هي، في أقل ما توصف به، في إطار الثقافة الإسلامية ـ المؤسسية، عودة إلى سلاسل أخرى وسجون أخرى.
الأصولية الدينية، إنما هي إخضاع للآخر أو استتباع، أو إلغاء. هي أمور لا تخرج من «المادة» وحدها، وإنما تخرج كذلك من «الروح». الكتاب هنا يصبح أخاً للقنبلة، وتصير الكلمة أختاً للرصاصة. على هذا المستوى، تحديداً، يمكن القول إن القتل لا يجيء من الرصاص وحده، وإنما قد يجيء كذلك من الكلمات.
(السفير)