في «القدس ليست أورشليم» (دار الريّس) يفكّك فاضل الربيعي أسس الرواية التاريخيّة اليهوديّة. يقارن المفكر والكاتب العراقي بين التوراة والترجمات القديمة والمعاصرة التي واكبت الطموح الاستعماري للمنطقة. كتاب يندرج ضمن مشروعه الأثير في تحليل التاريخ والأسطورة والنص الديني، كما فعل في إصدارات سابقة مثل «فلسطين المتخيّلة ـــــ أرض التوراة في اليمن القديم» (دار الفكر).
في «القدس ليست أورشليم» يغوص في الجذر اللغوي للنص العبري، وفي مرويّات الإخباريين والشعراء العرب عن البلاد العربية، تاريخها وجغرافيتها، دياناتها وقبائلها. يبني الكتاب أطروحته الرئيسيّة على أنّ القراءات الاستشراقية للتاريخ، طابقت تعسّفاً بين تاريخ فلسطين وأحداث التوراة. إذ يرى أنّ التوراة كمصدر تأريخي، أُوّلت تأويلاً يهدف إلى صناعة مادّة تاريخية مزوّرة، تجعل فلسطين مسرحاً للتاريخ اليهودي... وبالتالي أرض إسرائيل الموعودة.
فهل أورشليم هي القدس فعلاً؟ ليس في الرواية التوراتية ما يدعم هذا الاعتقاد بحسب الربيعي. النص العبري يتحدث صراحة عن وجود مدينة تدعى أورشليم (دار السلام) دخلها النبي داود إثر احتلاله مدينة بيت بوس بعد معركة كبرى. وبحسب الكاتب، فإنّ بيت بوس المدينة المحاذية لأورشليم ليست القدس بل «هي مكان جبلي يمني في منطقة الجوف، على الطريق المؤدي إلى صنعاء». ويشير الباحث إلى أنّ أبو محمد الهمداني (893 ــــ 947) أعظم جغرافيي جزيرة العرب في عصره، أسهب في وصف هذه التفاصيل، وإذا بها تطابق تماماً ما ورد في النص التوراتي. ففي كتابه «صفة جزيرة العرب»، يكتب الهمداني: «ثم الجوف وهو منفهق من الأرض بين جبلين... إلى الحقلين والسهلين... فبيت بوس وجبل نقم وما بينهما من حقل صنعاء».
أمّا القدس فيشير الربيعي إلى أنّه يستحيل وقوعها جغرافياً قرب جبل صهيون حيث مدينة أورشليم. فالقدس المزعومة استناداً إلى تأويل خاطئ ليست ذاتها قدش ــــ قَدَس تعني المكان المقدس وأطلقها اليهود على أماكن عدة صفة للتبريك. فقدش ـــــ قدس الواردة في التوراة تقع قرب جبل برنيع وجبل الأموريين في اليمن وليس في فلسطين!
يشير الربيعي إلى أنّ التأريخ لفلسطين يخضع لقراءة اسشراقيّة مزيّفة، احتضنتها كتب التاريخ العربيّة من دون تدقيق أو تمحيص. وهو الرأي الذي قال به المؤرخ اللبناني كمال الصليبي في كتابه «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل»، إذ أشار إلى أنّ «مضمون التوراة لا يستقيم إلا إذا أعيد النظر فيه جغرافياً. فالأكثرية الساحقة من أسماء الأماكن التوراتية لاوجود لها في فلسطين، والأقلية الموجودة منها هناك لا تتطابق من ناحية الحدث مع تلك المذكورة بالأسماء ذاتها في التوراة». يستطرد الربيعي في تجريد الرواية الصهيونية من مقوماتها، مركزاً على حدث السبي البابلي. ويشير في هذا الصدد إلى أنّ القبائل اليهودية التي دوّن أسماءها النبي عزرا بعد عودتها من السبي، لم يعرفها التاريخ، لا لغوياً، ولا حتى في النقوشات البابلية والآشورية والفارسية. كما لم تعرف المواضع والأماكن المذكورة التي تنسب إليها هذه الجماعات. حتّى أنّ الباحث يؤكد أنّها أسماء لقبائل عربيّة ــــ يمنيّة كبني شعرائيم وشلمه في العبرية، أو الشعراء وسلمه في العربية.
ويلفت الكتاب إلى أنّ اليهود واجهوا إثر تحريرهم من السبي على يد الفرس عائقاً صعَّب عليهم إعادة ترميم ما تهدّم من أورشليم في بلاد اليمن. وتمثل هذا العائق في قبيلة كانت تتعبّد ـــــ مثل قبائل بلاد طيّ الوثنية ـــــ للإله فلس، فنسبت إليه وسمي بنوها بـ«الفلستيين». وقد نشب بينها وبين اليهود قبل السبي وبعده معارك طاحنة، وتصفها التوراة «بالمجرمين وآكلي السحت». فكيف توصَّل المستشرقون إلى اعتبار الفلستيين في النص العبري هم أنفسهم الفلسطينيون؟ علماً بأن العبرية تعرف حرف الطاء، وليس هناك من داع للاستعاضة عنه بالتاء. كما أنّه لا مبرر ليتجاهل الجغرافيون اليونانيون، في دراستهم للجزيرة العربيّة، شعباً اسمه «فلسطينيون» إذا كان موجوداً فعلاً. لكنّ الأمر برمته، بحسب الربيعي، لا يعدو كونه «بناء الصهونية روايتها التاريخية حول حرب خيالية ضد الفلسطينيين في عصر شاوول، وذلك للبرهنة على أنّ مملكة إسرائيل واجهت لحظة ولادتها الجديدة في العصر الاستعماري، العدو القديم نفسه».
الأخبار.