وسط القاهرة يقف متحديا تقلبات الزمن وهو يروي ذاكرة أجيال عاشت وأبدعت في هذا البلد فهو أحد خلايا الذاكرة الحية وهو يروي لنا قصة تاريخ أدبي وسياسي وثقافي ونضالي إنه مقهى الريش .....
بدأ "ريش" نشاطه الفعلي في عام 1916 م ، مع وجود وثائق تشير إلى تاريخ يعود إلى عام 1863م وهو تاريخ يحرص أصحاب المقهى على الإشارة إليه كلما اقتضت الضرورة، لتأكيد عراقة المقهى وصموده في مواجهة رياح التغيير ومعاول الهدم التي طالت الكثير من المقاهي الأخرى التي لعبت دوراً مماثلا، وسوف تجد واجهة المقهى المطلة على شارع طلعت حرب ، ، وكذلك الواجهة الجانبية المطلة على الممر الذي يؤدي إلى "زهرة البستان" ، معدة كفاترينة عرض زجاجية معلق داخلها قصاصات من جرائد ومجلات قديمة، وكذلك صور لكثير من الأدباء والفنانين الذين ارتادوا المقهى فيما مضى، وكأنه معرض دائم لمطبوعات وصور الزمن القديم، وإلى جوارها بوسترات ولوحات إعلانية عن معارض الفن التشكيلي في القاعات المختلفة، وعن بعض الكتب الصادرة حديثا، وفي الداخل يحتفظ أصحاب المقهى بمئات الأوراق والوثائق والقصاصات الصحفية الدالة على هذه العراقة ، ومنها مجموعة الخطابات المتبادلة بين السلطات المحلية المصرية وصاحب مقهى "ريش" في ذلك الوقت وهو فرنسي الأصل ، وتؤكد الوثائق أنه أنشئ في نهاية القرن التاسع عشر ، ولكن ورثة المقهى وأصحابه الحاليين يقولون إن النشاط الفعلي بدأ في عام 1916م ، وكان للمقهى حديقة واسعة تمتد إلى ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليا). وفي الحديقة ذاتها قدمت أم كلثوم أول حفل لها في القاهرة . كما قدمت الممثلة الكبيرة فاطمة اليوسف "زور اليوسف" مسرحيتها "هل تحبين إميلي" على هذا المسرح.
كان أول من أسس المقهى رجل أعمال نمساوي هو بيرنارد ستينبرج ، وكان ذلك في 26 أكتوبر عام 1908 ، ثم باعه بعد عام تقريبا لرجل أعمال فرنسي هو هنري ريسن ، الذي أطلق عليه اسم "ريش" وكان على ما يبدو تسهيلا وتبسيطا لاسم عائلته "ريسن" ولكنه قرر السفر إلى فرنسا بعد أن استدعي للخدمة العسكرية أثناء الحرب العالمية الأولى ، فكان أن باع المقهى لخواجه يوناني كان مديرا لكازينو في الأزبكية هو ميشيل بوليتس. وكان ذلك في مايو عام 1916م ، وظل بوليتس مالكا لريش حتى عام 1932 م عندما اشتراه يوناني آخر هو مانولاكس ، وبعد 10 سنوات وفي عام 1942 م انتقلت ملكية المكان إلى يوناني ثالث هو جورج إيفتانوس وسيلي ، وفي عام 1960م انتقلت الملكية إلى عبد الملاك خليل ، وهو صعيدي مصري عرف قيمة المكان وحافظ عليه، إلى أن ورثه عنه أبناؤه .. أصحاب المقهى الحاليين.
وفي العشرينيات من هذا القرن عرف "مقهى ريش" أهمية استثنائية ربطته بالعمل السياسي وظلت مرافقة له حين كان محط اهتمام النخبة المصرية التي تشكلت حول قيادة الزعيم سعد زغلول وعملت على مقاومة الاحتلال ، ويحرص مجدي عبد الملاك صاحب المقهى على تأكيد الدور الذي لعبه المقهى في ثورة 1919 م بوصفه أحد مقار رجال الثورة.
بل ويؤكد أنه في أثناء عمليات ترميم المقهى التي جرت في التسعينيات جرى اكتشاف المطبعة التي كان يستخدمها الثوار لطبع منشوراتهم السرية المناهضة للاحتلال ، كما جرى اكتشاف ممرات سرية في بدروم المقهى استخدمها الثوار لتضليل البوليس . ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "تاريخ مصر القومي .. 1914 -1922" : إن المقهى كان مكان تجمع الأفندية.. أي الطبعة الوسطى التي بدأت في الظهور، وكانت خطة الثورة .. بل وبعض التحركات السياسية تتردد بين روادها.
وفي المقهى ذاته جلس جمال عبد الناصر يعد لدوره في ثورة يوليو، كما كان "ريش" جزءا من حياة شاب عراقي جاء يدرس في القاهرة وهو الرئيس صدام حسين . وكان يرأس الجلسة الذي يتجمع فيها اللاجئون السياسيون مثل الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي ،والشاعر السوداني محمد الفيتوري ، وعبد الفتاح إسماعيل رئيس جمهورية اليمن الشعبية السابق.
ورغم كل هذه الحكايات فإن المقهى أصبح في الذاكرة الإبداعية المصرية أقرب ما يكون إلى مرآة تظهر فيها رموز ثقافية ، جعلت من "ريش" محطة أساسية لمواهب مصر الإبداعية منذ منتصف الأربعينيات وحتى منتصف السبعينيات ، وهي حقيقة يتأكد منها زائر ريش وهو يرى على جدرانها صورا للرموز التي ارتادت المقهى، الذي كان أيضا مكانا لتفريخ العديد من المشروعات الأدبية والفكرية ، ففيها ولدت فكرة إصدار مجلة "الكاتب المصري" التي تولى رئاسة تحريرها الدكتور طه حسين، ومجلة "الثقافة الجديدة" التي رأس تحريرها رمسيس يونان، ومجلة "جاليري 68" التي كانت الخطوة الأهم في إطلاق مواهب جيل الستينيات.
نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم في ضيافة ريش
وابتداء من عام 1963م كان نجيب محفوظ يعقد ندوة أسبوعية صباح كل يوم جمعة في "مقهى ريش". ومنذ ذلك الوقت أصبح المقهى مقصدا لجيل جديد من الأدباء والمثقفين منهم: صلاح جاهين ، وعبد الرحمن الأبنودي ، ورشدي أباظة ، وأحمد رمزي، وعباس الأسواني ، ونجيب سرور الذي كتب عنها ديوانا كاملا يحمل عنوان "بروتوكلات حكماء ريش ، كما كتب أحمد فؤاد نجم هجائية شهيرة في أنماط المثقفين الذين كانوا يرتادون ريش في السبعينيات قائلا: يعيش المثقف على مقهى ريش / محفلط مزفلط كثير الكلام ، ورغم هجائية نجم فإن التاريخ يقول إن مثقفي ريش هم الذين بادروا بصياغة بيان الأدباء المتضامين مع الحركة الطلابية عام 1972م ، والذي دعا لإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم واشتهر باسم "بيان الحكيم" وهم أيضا الذين ثاروا وتظاهروا احتجاجا على اغتيال غسان كنفاني.
ومن ريش أيضا بدأت ظاهرة مجلات "الماستر" التي عبرت عن رفض أدباء السبعينيات للسياسة الثقافية الرسمية في ذلك الوقت ، وبفضل هذه المجلات ظهرت ونضجت مواهب كثيرة احتلت صدارة المشهد الأدبي لسنوات طويلة ، ولأن الزمن يدور سريعا.. فإنك اليوم إذا مررت بهذا المقهى العريق في أي صباح ستجد مقاعده خاوية إلا من أحد أصحاب المقهى وإلى جواره صديق يتسامران ، ورجل أسمر بجلباب بلدي يقف على باب المقهى في انتظار من يجيء، وفي المساء ستجد بعض الطاولات مشغولة لكن أغلب روادها من الأجانب الذين يتنسمون في هذا المكان رائحة القاهرة القديمة، أما الندوات الأدبية فقد مضى زمانها واقتصر الأمر على بعض حفلات التوقيع التي تقيمها الجامعة الأمريكية إصدارات قسم النشر بها.