تشهد البشرية الآن "نهضة" تجارة الرق والعبودية بعد قرنين من إلغائها. وتقدر منظمة العمل الدولية أن 12.3 مليون شخصا يقعون، سنويا، فريسة شبكات مرتبطة بالجريمة الدولية المنظمة، وُيستخدمون في أعمال السخرة.
وفي حالة النساء، تتعرض ضحايا السخرة للاستغلال الجنسي في معظم الأحيان، بينما تُستغل الاخريات كخادمات في المنازل، ناهيك عن الشابات اللائي يتم أسرهن، خلال عمليات الاحتيال، لبيع أجزاء من أجسامهن في تجارة الاعضاء البشرية الدولية.
هذه الممارسات تسجل إرتفاعا كبيرا بغية تلبية الطلب المتزايد على اليد العاملة الرخيصة في عدة قطاعات مثل الفنادق والمطاعم والزراعة والبناء.
هذا ولقد كرست منظمة الأمن والتعاون الإقتصادي يومين كاملين لهذه القضية في مؤتمرها الدولي الاخير في فيينا في أواخر يونيو. وعلى الرغم من أن الأمر يتعلق بظاهرة عالمية، فقد أكد مختلف المتخصصين أن وباء السخرة ينمو بسرعة في الاتحاد الأوروبي. وتقدر النقابات العمالية في أوروبا أن هناك مئات الآلاف من العمال المعرضين لظاهرة العبودية المتفشية.
وفي ايطاليا وأسبانيا وفرنسا وهولندا والمملكة المتحدة وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي، يقع العمال المهاجرين الأجانب في حبال شبكات المافيا المختلفة التي تسخرهم للعمل في أحوال تماثل العبودية.
وعلي سبيل المثال، كشف تقرير لمنظمة العمل الدولية أن ثمة 1200 مزارع مشرد في جنوب نابولي، يعملون طيلة اثنتي عشرة ساعة يوميا في الدفيئات الزراعية، دون عقود وبأجور هزيلة بائسة وتحت حراسة ميليشيات خاصة، ويقيمون في ما يشبه معسكرات الاعتقال.
لكن "معسكر العمل والإعتقال" هذا ليس الوحيد من نوعه في أوروبا، فهناك الآلاف والآلاف من المهاجرين غير الشرعيين الذين يلقون مصيرا مماثلا ويقعون ضحايا تجارة الرقيق الحديث المزدهرة في البلدان الأوروبية.
وتكفي الإشارة إلي أن مختلف النقابات العمالية قد قدرت أن هذا الشكل من أشكال العمل القسري يمثل ما يقرب من 20 في المئة من الإنتاج الزراعي.
هذا وتقع المسؤولية عن هذا التوسع في الاتجار في البشر، إلى حد كبير، علي النموذج الاقتصادي المهيمن حاليا. فقد تم فرض مختلف أشكال العولمة النيوليبرالية، علي مدي العقود الثلاثة الماضية، من خلال أسلوب العلاج بالصدمة الاقتصادية الذي دمر الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، وفرض كلفة اجتماعية باهظة.
فما كان لذلك إلا أن خلق منافسة شرسة بين العمل ورأس المال. فبإسم حرية التجارة، تعمد الشركات المتعددة الجنسيات الكبرى إلي تصنيع وبيع بضائعها في جميع أنحاء العالم حيث العمالة الأرخص (للإنتاج) والبيع الأكثر (حيث تكاليف المعيشة مرتفعة).
وبهذا، جعلت الرأسمالية الجديدة من التنافسية محركها الأساسي، بما يشمل تسليع العمل والعمال.
لقد فرضت العولمة -التي أتاحت فرصا رائعة لعدد قليل من "المحظوظين"- تنافسية قاسية ومباشرة بين أجور العاملين في الإتحاد الأوروبي والشركات الصغيرة وصغار المزارعين، ونظائرهم الُمستغلين على الجانب الآخر من العالم. والنتيجة التي نراها الآن أمامنا بوضوح هي هذا الإغراق الاجتماعي على نطاق الكوكب.
هذا ولقد جاء ذلك بنتائج كارثية للعمالة. وعلى سبيل المثال، تسبب في فرنسا في السنوات العشرين الماضية، في القضاء على أكثر من مليوني وظيفة في القطاع الصناعي وحده.
وهنا يجدر التذكير بأن عددا من القطاعات الأوروبية تعاني من نقص مزمن في الأيدي العاملة وتعمد بالتالي إلي إستخدام عمال غير الشرعيين، وهو ما يؤدي بدوره إلي تنشيط الاتجار فيهم عبر شبكات سرية تجبرهم في كثير من الحالات على السخرة، علما بأن العديد من التقارير تقدم أدلة واضحة على عمليات "بيع" عمال المزارع المهاجرين.
هذا وعلى الرغم من العديد من أدوات القانون الدولي المتوفرة لمكافحة هذه الجرائم، وعلى الرغم من انتشار التصريحات العلنية من قبل المسؤولين الحكوميين بإدانتها، إلا أن الإرادة العامة لإنهاء هذه الممارسة تعتبر ضعيفة جدا.
ففي الواقع، تمارس إدارة الصناعة والبناء والتصدير الزراعي ضغوطا مستمرة على الحكومات كي تغض الطرف عن تهريب المهاجرين غير الشرعيين والإتجار بهم.
كذلك فمن المعروف أن قطاع الصناعة قد أيد دائما الهجرة الجماعية لأنها تخفض سعر اليد العاملة. وكمثال، دعت التقارير التي أعدتها المفوضية الأوروبية بالإشتراك مع "بزنس-يوروب" (جمعية الصناعات والأعمال الأوروبية)، وعلي مدي عقود طويلة، إلي مزيد من الهجرة الأجنبية.
هذا ولا يعتبر تجار البشر الطرف الوحيد الذي يمارس عمليات استغلال العاملين العبودي، فالآن يجري تطوير شكل من أشكال "العبودية القانونية".
وعلى سبيل المثال، وجهت شركة "فيات" الإيطالية في شهر فبراير الماضي انذارا قاسيا للعاملين فيها، مفاده: إما توافقون على أداء قدر أكبر من العمل، بقدر أقل من الأجر، وفي ظروق أسوأ، أو ستحول الشركة عملياتها إلي أوروبا الشرقية.
والنتيجة هي أن صوّت 63 في المئة من عمال شركة "فيات" لصالح التمادي في إستغلالهم، جراء الخوف من ظروف العمل السائدة في أوروبا الشرقية ومن بينها الأجور المنهارة إلي الحضيض والعمل خلال عطلة نهاية الأسبوع.
وإنطلاقا من ذلك، يسعي الكثير من أرباب العمل في أوروبا للاستفادة من الأزمة والإلتفاف حول سياسات التكيف المالي الشديدة، من خلال اللجوء إلي أشكال مماثلة من "العبودية القانونية".
ومن ثم عمدوا إلي تهديد العاملين بالإستعاضة عنهم باليد العاملة الرخيصة الوافدة من بلدان نائية، كل ذلك بفضل الأدوات التي تتيحها العولمة النيو ليبرالية القائمة علي مبدأ التنافسية الوحشية.
بقلم ايغناسيو رامونيه
مدير لومند دبلوماتيك-أسبانيا