كسر النظام في سوريا شوكة المعارضة المسلحة وأخضع مناطق نفوذ «الإسلاميين» لسلطته. في تقديره أنه يستكمل القضاء على الجيوب المسلحة قبل نهاية الشهر الجاري، كما أبلغ وزير خارجية تركيا، وعندها يبدأ بتنفيذ الإصلاحات. يعتقد النظام أنه بذلك قضى على الدور الخارجي في استخدام المعارضة المسلحة ذات الهوية السلفية «القتالية التكفيرية» ومنع التلاعب بمؤسسة الجيش لإنهاء أي تفكير بالبدائل، واحتوى المعارضة السلمية بأطيافها المختلفة من خلال القوانين التي أقرها للأحزاب والانتخابات والإعلام على طريق التعددية السياسية، وهو يفاوض الآخرين في الداخل والخارج من موقع القوة هذا. كل العائدين من لقاء المسؤولين السوريين يؤكدون انطباعاً واحداً هو أن النظام ليس قلقاً على نفسه. يتعامل أركان النظام مع سلسلة المواقف الخارجية الضاغطة كلها على أنها ردة فعل على فشل أصحابها في قيام مناطق متمردة انفصالية عن السلطة المركزية، وخصوصاً في حماه والحدود التركية العراقية ذات اللون المذهبي المعروف. في تقديره أن عناصر «المؤامرة» قد سقطت واحداً تلو الآخر وأن الحصار العربي والدولي تتم مواجهته لاحقاً لأن ما يطلبه الخارج ليس الإصلاح بل تغيير السياسة الخارجية. فقد واجه النظام أزمة العام 2005 بمزيج من التعاون والممانعة وهو لم يصدر أي موقف (برغم تكراره التشديد على المؤامرة الخارجية)، يحدد موقعه من أي قضية أو ملف بهذا الخصوص باستثناء مصادقته على الخيار الرسمي الفلسطيني، والموافقة على قيام دولة فلسطين في حدود العام 1967. ومن المعروف أنه لم يعد الطرف الفاعل في المسار العراقي الذي انكفأ عنه لمصلحة الدور الإيراني وتفاهماته مع الأميركيين. في حسابات دمشق أن الأميركيين لا يحسبون لها حساباً في صياغة النظام الإقليمي ويرغبون في إعطاء تركيا، ومن خلفها نظام الاعتدال العربي أو محور «الدول السنية»، الدور الأبرز والنفوذ المباشر في ما بقي من المشرق العربي. ففي هذا المشروع يبدو الصراع مفتوحاً على «هوية سوريا» وبالتالي على مكوّنات السلطة فيها. هكذا قاتل النظام من دون تردد ضد مكامن الخطر واستنفر كل ما يعتبره عناصر جذب للآخرين. حين انبرى الملك السعودي أو مجلس التعاون الخليجي أو تركيا أو مصر أو شيخ الأزهر للتحذير فهمت دمشق الرسالة على أنها لعب على وتر «جماعة السنة» وشراكتهم لا وتر الإصلاح.
استجابت دمشق لرسالة وزير الخارجية التركي، على حد ما أعلنه، بإخلاء المدن المقصودة من القوات المسلحة وتخفيف الضغط عليها. على هذا المستوى من اللعبة الإقليمية والدولية ربما لم يعد النظام قلقاً من بعض الاستهدافات. قاوم بشراسة دموية مشروع التغيير في مكوّنات النظام من حيث البنية الاجتماعية الطائفية كما فعل بعد 2005 بردة فعل «غريزية» على ما شاع ويشاع عن حكم «الأكثريات» أو «التعددية» باعتباره مشروع «التحديث» الفعلي لدى الأميركيين لا الديموقراطية الفعلية الشاملة. يدرك الأميركيون نتائج التغيير في العالم العربي ويشجعون المسارات كما عبّرت عن نفسها في العراق أو اليمن وليبيا ومصر، كذلك يعملون فعلاً على أخذ سوريا في هذا الطريق. ففي حصيلة المتغيّرات العربية الراهنة وعلى المدى المنظور يتغلّب العنصر الخارجي على صياغة النظام الإقليمي، ولو أن المستجد البارز والمهم جداً حضور الشعوب على المسرح السياسي.
لا نشارك الآخرين قطعاً في أسباب القلق أو عدم القلق على النظام في سوريا. هذه حسابات «سياسوية تكتيكية»، سواء من قبل المنتفعين والشركاء الصغار أو من الجادين والمرتبطين بتوازنات قوى إقليمية يخشون تغيّرها ويراهنون على موقع النظام السوري في «الممانعة».
اجتازت سوريا فصلاً صغيراً من أزمتها الكيانية تجاه التجاذبات الإقليمية والتجاذبات الطائفية. لكن الضغط الخارجي لن يتوقف ولن يسلّم أطرافه بالحصيلة الراهنة لهذا الصراع. هناك استثمار دولي على أزمة العلاقات في المكوّنات الإنسانية السورية، وخاصة على الملف المثقل بالعنف والنزف الدموي اللذين يحفران عميقاً في التوتر بين الجمهور والنظام وبين عناصرهما. فالنظام يحمل وزر هذه الأزمة تجاه الخارج والداخل وقد خسر هيبته المشهورة في الأمن ومناعته في الاستقرار ورصيده في جزء مهم من شعبه وفي أي دور إقليمي كان يتولاه على حدوده ومع جيرانه. وفي كل حال خسرت سوريا، المجتمع والدولة، ما لا يعوّض في سنوات طويلة من طاقاتها البشرية والاقتصادية ومن نموذج عيش أبنائها المشترك والثقة المتبادلة في ما بينهم. هنا تكمن مصادر القلق على سوريا لا على نظامها الذي أظهر فشله باعتراف أركانه وحقيقة الحاجة الحتمية إلى تغييره ولو اختلف الناس في شكل التغيير وحدوده وطبيعته.
موضوعياً سوريا أمام مهمة التغيّر أو التغيير إما بشراكة قوى وقطاعات من أهل النظام وإما من دونهم وعلى حسابهم. لم تخرج سوريا بعد من محنتها، ومن السابق لأوانه حذف كل المشاكل والتناقضات التي ولّدت هذه الأزمة وفي مقدمتها وأساسها استنفاد النظام للكثير من عناصر قوته وشرعيته على خلفية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والامتيازات والحرمانات ومسألة الحريات والمشاركة. هذه قضايا لا تفيد معها التصاريح «الحازمة» من أي جهة أتت، كما لا يفيد معها التفاوض مع الخارج لتجديد دور أو وظيفة إقليمية أو للبحث عن شكل من أشكال الاعتراف بنفوذ إقليمي هنا أو بمصالح جيوسياسية هناك أو بشرعية شكل من أشكال النظام أو السلطة. في واقع الأمر تلهج عامة الناس، كما خاصتهم، بوطأة التأثير الإيراني التركي على المجال العربي بعد إسرائيل والأطلسي، وكأننا أمام تقاسم نفوذ يخسر العرب فيه استقلال دولهم الوطنية بعد أن خسروا هويتهم الوحدوية.
فلم يطبع الإنكليز والفرنسيون من قبل الهوية العربية التي قسّموها، بينما نكاد ننطبع في هويات ثقافية فئوية أخطر من تقسيم الدول، فنصير مذاهب وطوائف وعشائر وإثنيات في دائرة الوصاية المتنوعة حتى لو بقيت لنا هياكل دول أو بالأحرى أنظمة موسومة بعناوين فئوية. إزاء هذه المخاطر المحدقة لا قيمة للحديث عن قوة نظام أو ضعفه هنا أو هناك، ولا أفق ولا معنى «للممانعة» أصلاً في ما صار واقعاً وهو انهيار النظام العربي القديم كله ومسألة إعادة تشكيله.
في هذه المرحلة الانتقالية لم تعد تفيد لغة الماضي ولا أدواته ولا منظومة التفكير كلها السائدة ولا سلّم المعايير السابقة ولا الأدوار والوظائف التي غيّرتها المعطيات الجديدة. فلا محل الآن لرهانات على النادي الضيق لزعماء العالم العربي في الخيارات أمام مقدمات التحول الديموقراطي الذي أخرج الجمهور إلى المسرح السياسي، سواء أكان هذا الجمهور من هذه العقيدة أو تلك، أو من هذا التيار أم ذاك. ولعله بات علينا الإقرار بأن مكوّنات مجتمعاتنا ما قبل الدولة الحديثة إما أن تلوذ بمشروع دولة مدنية ديموقراطية أو أنها ستعاند تيار التقدم التاريخي، فتذهب في اختبار الحروب الأهلية قبل أن تدرك مستوى المواطنة.
ما هو مقلق في سوريا هو وهم تجديد قوة النظام الأمني في مجتمع دفع كلفة عالية في الاستقرار وفي الفوضى، وهو يبحث عن عقد وطني اجتماعي لا عن سلطة أمنية.
(السفير)