آخر الأخبار

ياسين الحافظ: سيرورة الكائن وسيرة الأمكنة

صقر ابو فخر

إلى سلوى صادق الحموي:
انحنِ أيها الألم ([)

عاش ياسين الحافظ في قلب الصحراء وعلى ضفاف الفرات في آن واحد، فجاء إلى هذه الدنيا مكتنزاً برواء الماء وجفاف البادية معاً. لكن الحياة لم تمهله كثيراً، ولم تمنحه إلاّ القسوة، بينما ظل حتى آخر نسمة في صدره يحاول أن يصوغ صورة جديدة للحياة العربية فيها كثير من الألق والندى والجمال.
كانت الصحراء تمنحه نظاماً اجتماعياً من الحماية قائماً على قواعد القرابة وقيم البداوة، وكان هو يفتش عن نظام مختلفٍ، قوامه الحرية والديمقراطية والتقدم. هكذا نشأ في منطقة لا تعرف الأشجار، على الرغم من وجود نهر الفرات؛ فالأشجار القليلة هي التي كانت تنمو على ضفتَي النهر. إنه تناقض الطبيعة وثنائية المكان وتنافر القيم. فالقيم البدوية تحتقر الزراعة والحِرَف، والفلاح (الشاوي) أقل منزلة من الراعي، وأصحاب الحرف (أو المهن) هم في أدنى المراتب، لأن المهنة من المهانة.
ثمانية وأربعون عاماً أمضاها ياسين الحافظ في هذه الدنيا. إنها رحلة قصيرة في الزمن لكنها ثرية جداً في التجربة، ولا سيما في تجريب الأفكار. هي رحلة بدأت في دير الزور وانتهت في بيروت بعد محطات في فلسطين ودمشق وباريس.
ولا ريب في أن قضية الوحدة العربية والتقدم كانت أبرز ما شُغل به عقل ياسين الحافظ مع معرفته أن الوحدة وحدها ربما لا تقدم للعرب ما يتطلعون إليه في هذا الميدان، فهو يقول: «قد نتوحد من دون أن نتقدم، إلاّ إننا كي نتقدم حقاً ينبغي أن نتوحد.»([[) ورأى أن إسرائيل تشكل العامل الرئيسي في إعاقة هذه الوحدة، لأن التجزئة هي طوق النجاة لإسرائيل، ولذلك كان تحرير فلسطين جزءاً من حركة الثورة العربية القومية والديمقراطية معاً. وكان يشدد دائماً على أن التأخر التاريخي، أو ما سمّاه «الفوات التاريخي»، هو المسؤول الأول عن نكبة 1948 وهزيمة 1967. وفي سياق موازٍ فهم ياسين الحافظ الأمة العربية (المقبلة) على أنها عَلمانية وديمقراطية من بابها إلى محرابها، وبالتحديد علمانية الدولة وعلمانية المجتمع، لأن من دون العلمانية لا يمكن الانتقال من الطوائف والقبائل، ومن الأكثرية والأقلية، إلى ثلاثية الدولة والمجتمع والمواطن، فهي الأثافي المتينة التي لا يمكن أن يُعقَد أي عقد اجتماعي إلاّ بها، أو أن تقوم قائمة المجتمعات الحديثة في هذا العصر إلاّ عليها.

سيرة الأهل والقفار

ولد ياسين الحافظ في دير الزور في سنة 1930، ونشأ في مجتمع عشائري منقسم إلى ثلاث عشائر كبرى هي: الهنيدي والبوعبيد والبوكسّار. وياسين الحافظ من البوكسّار، وهم فرع من عشيرة البقّارة التي يعتقد أبناؤها أنهم حسينيون، أي أنهم من سلالة الحسين بن علي. لكن والده كان يرى أن هذا الاعتقاد مجرد زعم، وأنه للمفاخرة ليس أكثر. ويبدو أن هذا الوالد كثيراً ما كان يخرج على قبيلته، أو يتمرد على قيمها ونظامها، فهو، مع انتمائه إلى البقّارة، امتهن حرفة إصلاح الأسلحة، علاوة على حرفة السياقة (كان من أوائل الذين اقتنوا السيارات في دير الزور). وقد تطوع في الجيش التركي في أثناء الحرب العالمية الأولى، وقاتل في معركة «جنب قلعة»، وأقام ثلاثة أعوام في تركيا، ربما أتاحت له الاحتكاك بالأتراك المتنورين.
لم يتكلم ياسين الحافظ على والده كثيراً، أو على إخوته من والده، لكنه أفاض في الكلام على أمه. وفي الفقرات المتناثرة التي تحدث بها عن والده يظهر أن هذا الوالد كان مغامراً في حياته، وخارجاً على جماعته في أفكاره؛ فقد تأثر بأفكار صديقه الشيخ محمد سعيد العرفي (وهو شيخ من دير الزور درس في الأزهر)، الذي تأثر بدوره بأفكار محمد عبده، وكان يردد أن أضرحة الأولياء لا تنفع على الإطلاق ولا تشفي أحداً، ويسخر من كتابة «الحجابات» وتعليقها.

سيرة الغريبة

في أثناء المجازر التركية التي حلت بالأرمن في سنة 1915 وما بعدها، وصلت إلى دير الزور فتاة وحيدة في الثالثة عشرة قُتل والدها في المذابح، وفرّت عائلتها إلى حلب، وتشتت شملها، وما عادت تعرف شيئاً عمّا حل بها. وكانت الكنائس المسيحية في دير الزور تتولى رعاية هؤلاء الفارين والمشردين. وحين وقعت عينا والد ياسين الحافظ على هذه الفتاة طلبها للزواج، وكان في الخامسة والثلاثين ومتزوجاً. وهكذا دخلت امرأة أرمنية من خارج القوم وغريبة على دير الزور، إلى العائلة. وقد عانى ياسين الحافظ في طفولته مضايقات أترابه ونظراتهم إلى أمه المسيحية والغريبة، وكان بعض رفاقه يشتمه بالقول: «يا ابن النصرانية»، أو «يا ابن الأرمنية». وكانت دموعها التي تنهال من عينيها تحفر في قلبه خطوطاً من الألم. ومع ذلك لم تكن والدته كارهة للمسلمين أو للإسلام على الرغم مما وقع لها ولشعبها في تركيا، لكن جدته، الأرمنية أيضاً، والتي عاش معها في منزله الوالدي بعد أن عثرت على ابنتها والتمّ شمل عائلتها، كانت أول من فتح عينيه على المسألة القومية حين كانت تتحدث، بتعصب بالغ، عن قوميتها الأرمنية وعن شعبها الذي تعرض للمذابح. وقد حاولت جدته تعليمه الأرمنية، وكانت تأخذه معها إلى الكنيسة، وظلت تعيش في منزل والده حتى بعد وفاة والدته (أي ابنتها)، إلى أن جاء خاله من حلب واصطحب والدته معه. ولعل هذا الجانب من حياته ساهم في بلورة أفكاره التي خرج بها على المجتمع التقليدي، والتي انقلب بها على العشائرية أيضاً، وتبنّى قيم الديمقراطية وحرية المرأة. ومن المؤكد أن مأساة والدته هيّأته ليفهم فهماً عميقاً مسألة الأقليات في العالم العربي.

سيرة التعب

درس ياسين الحافظ في الكتاتيب أولاً، ثم نقله والده إلى مدرسة السريان الأورثوذكس التي كانت تبعد قرابة كيلومترين عن بيته. وفي مدرسة السريان كان يحضر قداس الصباح، ويتناول القربان أيضاً، لكنه لم يكن يقوم بطقس الاعتراف.
أبعدته الدراسة في مدرسة السريان عن معظم أبناء قريته، وكان لتعييره الدائم في مدرسة إبراهيم هنانو بديانة والدته الأرمنية شأن كبير في انطوائه الموقت، الأمر الذي أوهن علاقاته العشائرية بأبناء عمومته، وجعله يعيش بلا عزوة. وقد تقاطرت عليه البلايا فيما بعد، فتوفيت والدته في سنة 1946 وهي في الخامسة والثلاثين، ولم يلبث والده أن تزوج بعد عام أرملة بلا أولاد. ثم أصيب والده بالسل، فاضطر إلى ترك المدرسة، والانصراف إلى تأمين نفقاته، فعُين معلماً وكيلاً في إحدى قرى الريف الفراتي. ويروي ياسين الحافظ كيف أن نحو 90% من التلاميذ في ذلك الريف كانوا يتغيبون عن المدرسة في فصل الربيع لأنهم ينصرفون إلى رعي أغنامهم في البراري، فهو موسم اللبن والسمن واللحم، وفيه يتسنى لأهاليهم أن يبيعوا أغنامهم ويكسبوا بعض النقود التي تساعدهم في شراء بعض حاجاتهم البسيطة. ويصف ياسين الحافظ أحوال الفلاحين في تلك الحقبة بقوله إن الفلاح في بعض المناطق كان لا يملك إلاّ الثوب الذي يرتديه، فإن غسله، وهذا يحدث مرتين في السنة، لبس ثوب زوجته أو ثوب أمه. وكان مألوفاً منظر الفلاح وهو يسير في أزقة القرية مرتدياً ثوب زوجته أو ثوب أمه.

تباشير الحداثة والعَلمانية

يُدْرَج ياسين الحافظ في سلسلة المفكرين العرب العقلانيين والعَلمانيين (الماركسيين طبعاً). وقد اختط لنفسه طريقة في التفكير النقدي جعلته يتجنب الوقوع في المقالات الساذجة والتعميمية والنمطية في شأن الموقف من الغرب، فكان مقتنعاً تماماً بأن تمثّل مناهج المجتمعات العصرية وقيمها هو السبيل إلى المحافظة على الوجود القومي للعرب، وراح يميز بين غرب وغرب؛ غرب الفتوح الثقافية والعلمية والاقتصادية التي صنعت العالم المعاصر الذي ينهض على ثلاث ركائز: عصر الأنوار والثورة الفرنسية؛ المجتمع الصناعي؛ الحركة الاشتراكية؛ ثم غرب الاغتصاب الكولونيالي والهيمنة الإمبريالية. ولم تتسرب إلى سريرته نزعة كره الأجنبي، وإنما بقيت محصورة لديه في النطاق السياسي (أي كراهية الاستعمار والهيمنة)، وظل منفتحاً على الثقافة الغربية عامة، والثقافة الديمقراطية والاشتراكية خاصة.
التقى ياسين الحافظ الحداثة، أول مرة، حين سافر إلى حلب في سنة 1943 برفقة أخيه الأكبر، وقد دُهش كثيراً حين رأى المدينة، وهو الفتى الذي لم يكن يعرف من الحداثة إلاّ سيارة والده. وحين بدأ وعيه الفكري والسياسي يتفتح بالتدريج في أواخر أربعينيات القرن العشرين وأوائل خمسينياته، كان العامل الديني بدأ يذبل في رأسه. فوالده كان «لامبالياً» بالطقوس الدينية، وكانت قرى المنطقة الممتدة من جرابلس عند الحدود مع تركيا إلى مدينة البوكمال عند الحدود مع العراق خالية من المساجد. وكان الناس في هذه القرى غير مبالين دينياً، ومَن كان يصلّي يُعتبر مثقفاً لأنه يحفظ الفاتحة.

البعث وفلسطين

يوحد نهر الفرات أنماط الحياة اليومية وعلاقات القرابة لجميع الساكنين في مجراه، ولا سيما في المنطقة الممتدة من الرقة إلى دير الزور والبوكمال، فإلى عانة والحديثة في العراق. وعلى ضفتَي هذا النهر تتواصل طرائق العيش بين الجماعات البشرية المنتشرة في هذا الخلاء الصحراوي، والممتدة في البوادي الرعوية القاسية. وكانت دير الزور تتجاوب بقوة مع ما يحدث في العراق، فقد كان لمصرع الملك غازي، بالطريقة المأسوية التي حدث فيها في سنة 1939، وقع مؤلم على سكان الدير، كما أن كثيرين من أبناء الدير تطوعوا لنصرة العراق بعد قيام حركة رشيد عالي الكيلاني في سنة 1941. لكن كارثة فلسطين كانت الحدث الأكثر وقعاً الذي قاد ياسين الحافظ إلى السياسة، ثم التأثير الذي تركه عبد الكريم زهور (من حماة) على تلامذته في أثناء تدريسه الفلسفة. وعبد الكريم زهور تطوع مع أكرم الحوراني للقتال في فلسطين في صفوف جيش الإنقاذ، فما كان من تلميذه ياسين الحافظ إلاّ أن التحق به، فاشترى مسدساً وتبعه إلى صفد، وأمضى مع المتطوعين ثلاثة أسابيع، لكن عبد الكريم زهور صرفه لصغر سنه بعد أن شهد معركة المطلة من بنت جبيل.
المؤثر الحاسم الثاني الذي جعل ياسين الحافظ كائناً سياسياً هو الفكر القومي الذي بدأ ينتشر بقوة في صفوف الشبان في تلك الآونة. وكان النادي الثقافي في دير الزور (أُسس في سنة 1949) هو الميدان الجديد الذي نشط فيه ياسين الحافظ، وقد تحوّل هذا النادي لاحقاً، وعلى يدي جلال السيد، إلى مكتب لحزب البعث العربي. وفي هذه الفترة تأثر كثيراً بكتابات ساطع الحصري وقسطنطين زريق، لكن التأثير الأكبر كان لميشال عفلق ولا سيما محاضرته المشهورة «في ذكرى الرسول العربي» التي قرأها ياسين الحافظ في كراس مطبوع، ووصفها بأنها «بيان الحركة القومية العربية على غرار البيان الشيوعي للحركة العمالية الاشتراكية في الغرب الرأسمالي.» وفي هذا المناخ السياسي انضم إلى حزب البعث في بداياته، وأمضى في عضويته نحو عام، ثم التحق بالجامعة السورية.

من القومية إلى الماركسية

جاء ياسين الحافظ من دير الزور إلى دمشق ليدرس في جامعتها، وسكن لدى عائلة مسيحية في حي المزرعة حيث اكتشف الفوارق في الحياة اليومية بين أهل الشام وأهل دير الزور، ولا سيما اختلاط الجنسين. وفي دمشق توطدت علاقته بمجموعة من البعثيين أمثال شاكر مصطفى ومطاع صفدي وعبد الله عبد الدائم، علاوة على لقاءاته المتكررة بميشال عفلق وصلاح البيطار وجلال السيد ووهيب الغانم. وفي جامعة دمشق بدأ يتعرف إلى الماركسية، وحين نال منحة قيمتها خمس وعشرون ليرة شهرياً، على مدار تسعة أشهر، بقرار من رئيس الجامعة قسطنطين زريق، بادر إلى شراء مجموعة من الكتب الماركسية التي كان لها تأثير كبير في تفكيره. وبعد نحو سنة، أي في سنة 1950، انسل من حزب البعث وأدار ظهره للفكر القومي الرومانسي، وقد عانى في هذا الانسلال مشقات نفسية جمّة، إذ اتُّهم بالمروق من المعتقد القومي، تماماً مثلما عانى حين تحلل من عصبيته العشائرية.
انضم ياسين الحافظ إلى الحزب الشيوعي في سنة 1955، لكنه لم يلبث أن غادره في سنة 1956 غداة المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي. فقد لاحظ، حين عاد خالد بكداش من موسكو بعد انفضاض المؤتمر العشرين، أن وفوداً تقاطرت من مختلف أنحاء سورية ولبنان للسلام عليه، وأن أحد الوفود من الساحل السوري أخذ حفنة من تراب منزل خالد بكداش للتبرك به. وكان هذا المشهد، فضلاً عمّا أثاره المؤتمر العشرون من مجادلات سياسية وفكرية، سبباً في شعوره بأنه ضحية مخدوعة، فوقع في حيرة فكرية وسياسية وضميرية معاً، وصار واقفاً عند تخوم الفكر القومي، وعند حافة الفكر الماركسي؛ داخلهما وخارجهما في آن.

الناصرية والهزيمة والانتحار

هذه الحيرة التي استبدت به لم ينقذه منها إلاّ جمال عبد الناصر ومشروعه السياسي الكبير للتوحيد القومي ومقاومة الاستعمار وبناء الاشتراكية. ففي 22/9/1962 نشر في جريدة «البعث»، وكان جمال الأتاسي مشرفاً عليها، مقالة بعنوان «قضية فلسطين بين الواقعية الثورية والثرثرة الديماغوجية» دافع فيها عن عبد الناصر ضد أكرم الحوراني الذي كان يطالب عبد الناصر، بطريقة إحراجية، بأن ينتقل إلى اتباع استراتيجيات وتكتيكات هجومية على إسرائيل. وأثارت هذه المقالة صدى كبيراً، وكانت العتبة التي أعادته إلى الفكر القومي التقدمي من فضاء الشيوعية، بينما يممم عدد من المفكرين البعثيين وجوههم، جرّاء التصدعات الحزبية الداخلية، شطر الناصرية أو الشيوعية. وفي هذا السياق ساهم مساهمة مهمة في صوغ «المنطلقات النظرية» لحزب البعث التي أقرها المؤتمر القومي السادس للحزب في سنة 1963، والتي جاءت وثيقة ماركسية - قومية خالصة، وأثارت سجالات فكرية متشعبة لم يستطع المؤتمر القومي السابع في سنة 1965 أن يطوي صفحاتها، فخرج ياسين الحافظ وعلي صالح السعدي وحمدي عبد المجيد من الحزب، وأسسوا «حزب العمال الثوري العربي»، وانضم إليهم لاحقاً حمود الشوفي وآخرون. ومع تمادي الصراعات الداخلية في حزب البعث، والتي أفضت إلى انقلاب دموي في 23 شباط/فبراير 1966، غادر ياسين الحافظ إلى باريس حيث أقام سنة تقريباً. ولسوء طالعه، اندلعت حرب الخامس من حزيران/يونيو 1967 في أثناء وجوده في باريس، فلم يحتمل البقاء فيها، وغادرها بسرعة إلى بيروت. وفي ساحة البرج (ساحة الشهداء) استمع، والدموع تنهمر من عينيه، إلى جمال عبد الناصر وهو يعلن مسؤوليته عن الهزيمة في 9/6/1967 ويقرر الاستقالة.
لقد كشفت له هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 ما كان مستوراً في الحياة السياسية العربية، وخصوصاً في النظام الناصري. ولم يلبث، بعد إمعان النظر فيما آلت إليه الأحوال العربية بعد الهزيمة، أن شرع في نقد الناصرية بعقلانية واضحة، ولم يحمل الفأس، كما فعل كثيرون، لتحطيم المثال القومي، أي جمال عبد الناصر. والمعروف أن كثيرين من القوميين (بعث وقوميون عرب) بدأوا رحلة الانخراط في الماركسية عقب هزيمة 1967، لأنهم وجدوا فيها البديل المباشر من الناصرية والبعث اللذين حاقت بهما الهزيمة. فمن البعثيين الذين تحولوا إلى الماركسية فواز طرابلسي ووضاح شرارة على سبيل المثال، ومن القوميين العرب محسن إبراهيم ومحمد كشلي ونايف حواتمة، وكثيرون غيرهم من الطرفين. غير أن ياسين الحافظ يختلف عن هؤلاء وأولئك، فهو كان ماركسياً وقومياً معاً قبل الهزيمة، وكان بدأ نقد القومية العربية والناصرية نفسها عقب سقوط الوحدة السورية ـ المصرية في سنة 1961 حين رأى أن سبب نجاح الانفصال هو أن الوحدة كانت «ثورة من فوق»، وأنها لم تؤسس ديمقراطية حقيقية، وإنما استعاضت عنها بكاريزما عبد الناصر.

الديمقراطية ولبنان والنهايات

كانت التجربة اللبنانية لياسين الحافظ خصبة جداً، فتخلص من أيديولوجيا الحركة التقدمية العربية التي حجبت مشكلة الأقليات الطائفية والقومية، إمّا جرّاء المنظور الطبقي (الطبقاوي بحسب تعبيره)، وإمّا بسبب الرؤية الرومانسية اللاتاريخية للقومية العربية. وفي هذا الإطار رفض نقد الديمقراطية باسم اشتراكية في قيد التحقق. ثم سلط نقده على النخب العربية التي خانت الديمقراطية بعد استقلال بلادها مبررة ذلك بالاشتراكية تارة، أو بأولوية المعركة ضد الإمبريالية وإسرائيل تارة أُخرى. ورأى أن الحركة التقدمية العربية بفرعيها القومي والماركسي «المُسَفْيَت»، والصراع المر بين الناصرية والشيوعية في العراق بعد حركة 14 تموز/يوليو 1958 هما اللذان قبرا الديمقراطية في المشرق العربي، فعندما يغيب التسامح وتدان التعددية، ويعتبر كل فريق نفسه مالكاً الحقيقة، وعندما يمارس التقدميون السحل والسحل المضاد، وعندما يصبح السجن المكان الوحيد للخصوم، وعندما يوضع القانون على الرف أو يصبح غلافاً لشهوة الحاكم أو مصلحته، عند هذا كله أو بعضه، بحسب الحافظ، ماذا يبقى للمجتمع من قيم ووسائل يدافع بها عن الديمقراطية؟

[[[

لم تمهله الحياة كثيراً، وأخلف الزمان وعوده له بأن يرى الأمة العربية موحدة وديمقراطية ومزدهرة، وبأن يتحقق تحرير فلسطين، فدهمه السرطان، وأجرى عملية للخلاص منه في سنة 1977، لكنه أغمض عينيه على حلم جميل في سنة 1978 بعدما ترك لنا إرثاً باهراً من الكتابات النقدية المهمة.
([) سلوى صادق الحموي هي زوجة ياسين الحافظ الذي فقدته في سنة 1978، ثم فقدت ابنتها رغدة في سنة 2009، ثم لم تلبث أن فقدت ابنها الوحيد هيثم في سنة 2011، ولا تزال صابرة على الألم كطود إنساني نادر.
([[) جميع الاستشهادات الواردة في هذه المقالة منقولة من: ياسين الحافظ، «الأعمال الكاملة»، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005. وهذه المقالة تنشر بالاشتراك مع «مجلة الدراسات الفلسطينية» في عددها الذي سيصدر في نهاية أيلول الجاري.
(السفير)