آخر الأخبار

التعليق مقدس والخبر حر

، ولما تخرجنا وجدنا الأقفال قد تغيرت، وأن التعليق مقدس والخبر حر، وأصبح لا يفتح قِفل الخبر إلا تعليق، ولا يُفتتح إلا برأي، ولا يبرر حدوثه ويفسر كنهه إلا خلفية ثقافية معينة.

هذه القاعدة، التي باتت بالية في عصرنا الحالي، هي تماماً بمثابة نظرية "الرصاصة السحرية" التي طُورت في ثلاثينات القرن الماضي، وكانت تُشبّه الرسالة الإعلامية بالطلق الذي يخترق عقل المتلقي دون أن يُبدي أي ردة فعل لتجنبه. وهي ومعها نظرية "الخبر مقدس.." عفا عليهما الزمن.

اليوم، كل الأخبار تحمل رأياً، أقله في زاوية التناول. خذ موضوعاً واحداً ووسيلتي إعلام، وراقب كيف تعالج كل منهما الحدث. سترى كم أن الاختلاف في الطرح يستبطن رأياً يَسوسُ الخبر وفق وجهة نظر المؤسسة وسياستها. وهذه الزاوية ما هي إلا الرأي الذي يُؤسس لطريقة العرض، والتي عادة ما تتماشى مع رأي جمهور الوسيلة الإعلامية أيضاً.

انظر إلى عناوين نشرات الأخبار الرئيسة في حصاد "الجزيرة" أو بانوراما "العربية"، مثال للأول: "وفد إسرائيلي يزور جنوب السودان.. أول الرقص حنجلة". ومثال للثاني: "الوهم السوري بالحسم.. وإيران وسوريا وحدود التحالف". الآن اكتشف بنفسك الخبر والرأي.

وللحقيقة، فإن وسائل الإعلام معذورة في الذهاب إلى ذلك، لأنها إن لم تفعل فلن تجد من يقرأ عناوينها أو يتابعها، ولو قامت بغير ذلك لبدت باهتة، ومجردة من أي معنى. ولو أنها لا تُضمن الرسائل الإعلامية آراءها، لما اختلفت وسيلتان إعلاميتان على عنوان لحدث واحد.

وبرأيي، فإن الخبر الذي لا يحمل رأياً، سواء اختلفنا معه أم اتفقنا، هو مثل الجسم بلا روح. فأي وسيلة إعلامية لا تقدم للجمهور معلومات مجردة فقط، بل تحتاج إلى لغة قوية، وكنايات، وخلفيات ربط للأحداث، وتحريك للأشياء. وهذه كلها مجتمعة تُجبر صائغي الرسالة الإعلامية، تضمينها آراءهم، والتي تعكس رؤية المؤسسة للأحداث، ويتم ذلك في منطقة اللاشعور، التي يسميها ممارسو الإعلام "إمتاع القارئ".

أما الجمهور فهو أيضاً غير محايد، تماماً كما وسائل الإعلام، فهو يُعرّض نفسه للرسائل التي تدعم ميوله، وتتفق مع توجهاته. إذاً علينا التوقف عن مطالبة المؤسسات الإعلامية أن تكون محايدة طالما أن الجمهور منقسم. أكثر من ذلك، أي وسيلة إعلام تعمل بمبدأ الحياد لن تجد من يشتري بضاعتها في سوق جمهوره متحيز أصلاً، في آرائه، أيديولوجياته، توجهاته الفكرية، وخلفياته الثقافية.

فلا تتوقع من فلسطيني مثلاً أن يتابع القناة العاشرة أو الثانية الإسرائيلية وسط قصف إسرائيلي على غزة، ولا تتوقع أيضاً أن يترك مواطن أمريكي قناتي "سي إن إن" و"فوكس نيوز" ويلجأ إلى الجزيرة الإنجليزية لمتابعة شؤون بلاده. ولو فعل الجمهور عكس ذلك، وتعرض لوسائل إعلام "معادية لفكره"، فهو يفعل من أجل التسلح بمعرفة تفيده في الدفاع عن أفكاره ضد خصمه.

إن تخلي الخبر عن قدسيته لصالح الرأي في عصر الفضائيات والإعلام الجديد، يتضح جلياً عبر استضافة أشخاص، يُعلقون، يُحللون، يَستشرفون، وفي كثير من الأحيان ينفون صحته. وهؤلاء المُنظّرون، وهم ضيوف دائمون على الشاشات، يُعطون مساحة ووقتاً أكبر بكثير من مساحة ووقت عرض الخبر، وبالتالي يطغى الرأي على الخبر، وتغرق المعلومة بين أمواج التحليل. وإذ ترى الفضائيات تحديداً في آرائهم ملجأ تعكس من خلاله وجهة نظرها في الحدث، فإنها تلبي أيضاً رغبة جمهور عريض يؤيد ما يذهبون إليه.

فلو عَلّق ضيفان مثلاً على خبر واحد، فستجد كل منهما يتكلم عن نقطة واحدة وردت فيه، مُدعِماً قوله بخلفيته الثقافية والأيديولوجية، وهي بالطبع، من وجهة نظريهما، أقوى مما يرد في أقدس خبر، فيبدو الأخير مقدساً مناصفة بينهما، "فيفتي فيفتي"، والحكمة تقول إن الأشياء المقدسة لا يأتيها الباطل أبداً.

الشاهد هنا، أن أساتذتنا في كليات الإعلام، خصوصاً في مرحلة البكالوريوس، لم يقولوا لنا إن الإعلام نصفه بزنس، ونصفه الآخر سياسية، ومن ثم يُحشر بين جداريهما السميكين ما يسمى مُشاهد، أو قارئ أو مستمع، ولا يناله حظ من المعلومة إلا ما يتركه البزنس والسياسة من وقت أو مساحة. كما لم يقولوا لنا أن آخر ما يهم مالك الوسيلة الإعلامية أو ممولها هو الجمهور، وأن أولوياتهما ترتكز بالأساس على مبادئ سياسية، وأخرى مالية، ثم يأتي الجمهور في مرتبة ثالثة غالباً.

أكثر من ذلك، فإن تأثر الناس بأي رسالة إعلامية يُبنى بالأساس على مقارنتهم مضمون الرسالة بما لديهم من خلفيات ثقافية، ويتم ذلك عبر فلترة ذهنية للمعلومة بمجرد تلقيها، فإن كان هناك تطابق بين الخلفية والمعلومة يقولون مثلاً "كلام صحيح، ونحن نؤيد ذلك"، وإن كان بينهما تنافر يسارعون بالقول "هذا كلام فارغ".

إن المدخل الصحيح لدراسة الإعلام في عصرنا الحاضر لا بد أن ينبني على سؤالين اثنين: من يملك؟ من يمول؟، ومن ثم تأتي الأشياء الأخرى، كيف تكتب؟ كيف تؤثر؟ وكيف تقنع؟ فالخبر بزنس، والتعليق لمن يدفع أكثر، مالاً أو سياسة. مع الاعتذار لأساتذتنا في كليات الإعلام.

دبي

1 سبتمبر 2011