آخر الأخبار

في «لبننة» المعارضة السورية

فواز طرابلسي
بشّرنا البيان المشترك الصادر عن مجموعة من المثقفين السوريين واللبنانيين بأن الانتفاضة السورية «تصنع التاريخ لبلدينا وشعبينا». الشيء الاكيد ان البيان نفسه لا يصنع التاريخ. انه يلبس المعارضة السورية عددا من المقولات المتداولة لدى الوسط السياسي والثقافي العريض لتيار ١٤ آذار اللبناني، ويضيف إليه تدليس أفكار ومفاهيم صادرة عن مراجعة يجريها معارضون سوريون لهوية سوريا وموقعها ودورها الخارجي.
يعرّف البيان الانتفاضة الشعبية على أنها ثورة وطنية ـ كيانية ـ داخلية مستدركا ان هذه التعيينات لا تحتّم «ان تنعزل سوريا عن محيط عربي ومشرقي يُمتنع الانعزال عنه». لا افتراء على البيان ان يقال ان التعريف المستجد يطمح للحلول محل تعيين سوريا بهويتها العربية، وفق التسمية الرسمية - «الجمهورية العربية السورية» - وبديلا عن التعريف الدستوري لها بما هي «جزء من الامة العربية».
تنطوي هذه المراجعة على نمط من المراجعات تستسهل تصحيح الخطأ بافتراض ان نقيضه دوما هو الصح. يصعب عدم تذكّر ورود مصطلحي «المشرقية» و«المحيط العربي» في الصيغة التي طرحها بشير الجميل الصاعد الى سدّة الحكم في لبنان بديلا عن صيغة «الوجه العربي» الميثاقية. حينها عرّف الجميل لبنان بلبنانيته ومشرقيته ومحيطه العربي. والادهى ان هذه المراجعة لم تتعظ ايضا من المطبّ الذي وقعت فيها المعارضة العراقية حين تبنّت مقولة «العراق اللاعربي» استجابة للتعريف الاثني ـ المذهبي (كرد، شيعة، سنّة) الذي فرضته الادارة الاميركية على العراق منذ العام ١٩٩١ وبالنتائج الكارثية المعروفة.
يتصوّر «المراجعون» ان التخلي عن الانتماء العربي لسوريا هو الجواب الشافي على نهج حزب سلطوي استخدم إيديولوجية قومية عربية لاغراض السيطرة والتمييز الداخليين. او أن ادانة استخدام النظام موقعه وأدواره الخارجية من اجل طمس المشكلات الداخلية، يعفي المعارضة من تعيين مبادئ سياسة خارجية جديدة ومن رسم دور بديل لسوريا في الصراع العربي الاسرائيلي، وبيان طريق ـ آخر؟ ـ لتحرير الجولان المحتل.
وينسحب هذا التهويم الرمزي على الجواب على مسألة الاقليات داخل سوريا. والدرس العراقي حاسم الاهمية هنا حيث التخلي عن تعريف العراق بأنه عربي، او بأنه شراكة بين عرب واكراد، فتح الباب واسعا امام تكريس كل الانتماءات الجمعية ومنحها حصصا سياسية سلطوية وقواعد جغرافية. فهل ان اعادة تعريف بأنها «لاعربية» هو الشرط الحكمي الاوحد لكي بدونه لا يمكن الاعتراف بحقوق متساوية للمواطنين وتصحيح المظالم التاريخية بحق جماعات مضطهدة او محرومة، بالاعتراف بحقوقها اللغوية والثقافية وصولا الى حقوقها في الحكم الذاتي وتقرير المصير؟
يعتبر البيان انه استمرار في ظرف مختلف لما حاوله «اعلان دمشق ـ بيروت، بيروت ـ دمشق» الذي صدر في 6 نيسان من العام ٢٠٠٦. حقيقة الامر ان التحدي الذي واجهه الاعلان الاول كان اعادة الوصل وتنمية العلاقات بين الشعبين فيما البيان الحالي يهجس بمشكلات التمايز والفصل.
ان الإعلان عن احترام التباين بين النظامين الاقتصاديين - على افتراض ان واحدهما اقتصاد «حر» والثاني دولتي - ينوب عن الدعوة ـ ولو مجرد الدعوة! ـ الى التكامل الاقتصادي على قاعدة المصالح المشتركة بينهما، اضف الى حجبه حقيقة ان الاختلاف الاقتصادي بين النظامين الاقتصاديين يتلاشى بسرعة لصالح هيمنة نيوليبرالية وريعية احتكارية ومافياوية مشتركة عليهما معا.
سياسيا، يستمرئ البيان اللعب على معادلات متفاوتة مثل الديمقراطية لسوريا والاستقلال للبنان. او «كيف التحرر من الاستبداد في سوريا من دون الوقوع في الطائفية، وكيف التخلّص من الطائفية في لبنان من دون السقوط في الاستبداد». وهذه ترجع صدى معادلة معروفة في قاموس اليمين اللبناني الجديد في مديح مميزات النظام الطائفي لانه يعصم لبنان من الدكتاتورية والاستبداد. هذا على اعتبار ان دور النظام الطائفي في تفجير الاحتراب الاهلي وفي استدعاء الوصايات والهيمنات والاحتلالات الاجنبية يدخل في باب الهنات الهينات في حياة الشعوب.
ليس من لبس في ان البيان يرى الى ان استقلال لبنان وسيادته يتحققان في وجه سوريا. يقول ان الانتفاضة سوف تؤول الى تكريس «الاعتراف السوري النهائي باستقلال لبنان» النابع من «قناعة تامة عند الشعب السوري»، على ان يتم ذلك اساسا «بترسيم الحدود المشتركة بين البلدين ... بهدف ازالة اللبس عنها». ليس ينوّرنا البيان «اللبس» الذي يغشى الحدود اللبنانية ـ السورية. ولا هو يفيدنا كثيرا في التعرّف الى الكيفية التي بها نربّي «الشعب السوري» - الاثنين والعشرين مليون نسمة منه - لتوليد تلك «القناعة التامة» عنده. ومع التذكير بأن الانظمة السورية المتعاقبة قد اعترفت مرارا وتكرارا باستقلال لبنان وسيادته منذ العام ١٩٣٦ لا بد من الاستدراك بأن الاعتراف السوري الاخير بلبنان المستقل في اتفاق الطائف، وتوابعه، لم يتعارض على الاطلاق مع ممارسة النظام السوري لفترة من الوصاية الانتدابية على بلاد الارز ـ مكرسة عربيا ودوليا ـ لعقد ونصف من الزمن. اما التبادل الدبلوماسي ـ الذي يفاخر البيان المشترك بأن لبنان قد انتزعه انتزاعا ـ فهو يتم في ظل وصاية غير مباشرة للنظام السوري على البلد اضيف اليها وجود حكومة من حلفائه. ولعل هذا يفيد في الاستنتاج اقلا ان تحقيق التوازن بين البلدين يحتاج الى التخييط بغير مسلّة الاعتراف والترسيم والسفارات.
في الشأن الوطني والقومي، يعلن البيان ان سوريا الديمقراطية ولبنان الحرية هما السند الحقيقي لطموحات الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. عدا عن تكرار هذه الصيغة المألوفة، لن يتورط البيان في اي مصطلح يحوم عليه «لبس» المصطلحات الوطنية والقومية والتحررية. اسرائيل تمارس «التمدد» و«الغطرسة» فلا يتلوث الحديث عنها بمفردات من مثل الاحتلال والاستيطان والتوسع والهيمنة. ويحل «الصمت العالمي» حيال اسرائيل محل الضجيج العالمي الذي يدوي الآن مطالبا الامم المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطينية ينتظرها ساطور النقض الاميركي والاوروبي. ويجري تصوير النزاع العربي الاسرائيلي بما هو صراع نماذج ديمقراطية ـ حضارية ناهيك عن الاضافة المعرفية الكبرى للبيان في تشخيصه الكيماوي ـ السوسيولوجي للعالم العربي بأنه «عفِن».
يؤيد البيان مطلب كل من البلدين «في استعادة اراضيه المحتلة بالطريقة التي يرتئيها شعباهما» الا ان كثيرين تساءلوا لماذا اغفل تسمية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا (25 كيلومترا مربعا) وهضبة الجولان المحتلة والمضمومة (الفا كيلومتر مربع) وخلط بينهما. لعله الخوف اياه من التلوّث الثقافي ـ المصطلحي ـ المفهومي. إذ يستعصي على هذا المنطق الثنائي ـ الاطلاقي (رغم ادعائه الليبرالية) ان يتصوّر ان تلتقي معارضة مع سلطات حاكمة او مع خصم سياسي على الدعوة لقضية وطنية تحررية مشتركة، وإن تباينت بينهما، او حتى تناقضت، التفسيرات والاغراض وسبل تحقيق الاهداف والقدرة على الانجاز والفعل.
تبتكر الثورات لغتها وخطابها ومفرداتها. لم نعثر في هذا البيان على اكثر من رمي الرضيع مع مياه الغسيل الآسنة.
(السفير)