آخر الأخبار

صناعة سورية...جوزيف والمسجد

كنا في أواخر شهر رمضان المبارك، وكنت انتظر سماحة مفتي سورية  أمام منزله في حلب، ثم انطلقنا إلى وجهتنا.

قبل ذلك بعدة أسابيع، اتصل بي الصديق المهندس جوزيف حلب، وطلب مني نقل رغبة القائمين على تنفيذ جامع أم القرى الواقع في ريف المهندسين الأول بحلب، بأن يقوم سماحته بافتتاحه.

اعتقدت للوهلة الأولى أن كون المهندس جوزيف مسيحياً، فقد أراد القائمون على بناء الجامع أن يكلفوه بالكلام معي، لأني مسيحي، كما أن هناك معرفة وثيقة به، ولكم اندهشت أن المهندس جوزيف هو رئيس لجنة الإشراف والمتابعة لجامع أم القرى، والذي تم وضع حجر الأساس له في 11 أيار 2000.

أجل أنا المسيحي في عقيدتي، والذي يستغرب الكثير من الناس كوني مستشارا لمفتي سورية، اندهشت أن يكون جوزيف هو رئيس لجنة متابعة على بناء مسجد, ومتى؟؟؟؟؟ في العام 2000 أي قبل أن أكون مستشارا بستة أعوام.

كنا ثلاثة أشخاص فقط، سماحة المفتي وأنا والسائق، وذلك في السيارة التي أقلتنا إلى مكان الجامع، حيث يقع ريف المهندسين الأول على مسافة خمسة عشر كيلومتراً من مدينة حلب ويضم إضافة إلى مساحات مخصصة للسكن، ناديا لعائلات المهندسين وغيرها من المساحات المخصصة لأبنية إدارية والجامع.

لدى وصولنا، استقبلنا الإخوة المهندسون وبعد جلسة قصيرة انتقلنا إلى مكان مجاور حيث يقع الجامع وأزاح مفتي سورية والمهندس جوزيف الستار عن اللوحة التذكارية التي تؤرخ لافتتاح الجامع، كما قام سماحته بإهداء الجامع مصاحف تم وضعها فيه، ثم قام الجميع بالصلاة، وعندما أقول الجميع فانا اعني ذلك تماما، حيث وقف المسيحيون بوقار مطأطئي الرأس احتراما حتى انتهاء الصلاة، ثم انتقلنا إلى مكان مجاور حيث تم إلقاء كلمة نقابة المهندسين وكلمة لجنة الإشراف وكلمة سماحة المفتي، وبعدها كان موعد الإفطار قد حل، فانتقلنا إلى مائدة معدة حيث افطر الجميع.

كنت أفكر في هذا الوطن، وكم أن شعبه يعمل بالمواطنة قبل أن يتكلم بها الكثير، فلدى التفكير ببناء الجامع، لم يقف الجميع في نقابة المهندسين عند كون المهندس جوزيف مسيحياً، ولدى وضع حجر الأساس عام 2000 لم تقف مديرية الأوقاف التي تتبع لها الجوامع، أمام هذه النقطة وجاء مديرها آنذاك فضيلة الشيخ د. محمد صهيب الشامي ليضع حجر الأساس لهذا الجامع، يرافقه آنذاك المهندس جوزيف، وبعد عقد من الزمن جاء مفتي سورية، مصطحباً معه مستشاره المسيحي ليفتتح جامع أم القرى، الذي يرأس لجنة الإشراف والمتابعة مسيحي آخر.

وهل بعد ذلك يحدثنا العالم عن الأقليات المسيحية وخوفهم من المسلمين؟ وعلى الأخص في سورية؟

الآن بعد سنتين من تدشين الجامع، أعود إلى الذاكرة.

يا كل فطاحلة العالم، وكل منظّريه.

يا كل جهابذته ومفكريه.

إلى كل مذيعي الأقنية الفضائية والأرضية وما تحت الأرضية.

يا كل المؤتمرات والاجتماعات التي تهدف إلى الحفاظ على الأقليات، وإيجاد الوسائل الكفيلة لها.

سأقول لكم علناً ما لم تفهموه.

ما لم تريدوا أن تفهموه.

لم ولن نفكر بأننا أقلية.

لا نريدكم أن تخافوا وتسألوا ضيوفكم في الفضائيات إن كانوا يوافقون أن يكون المسيحي رئيساً للجمهورية؟

نريدكم أن تأتوا إلينا.

لتتعلموا ،

لتفهموا،

كيف لا يكون المسيحي مشاركاً في بناء جامع أو مسجد، بل يكون رئيساً للجنة البناء.

كيف لا يخاف المسيحي من وجوده في الجامع وقت الصلاة، بل يقف بخشوع وراء إخوته من المسلمين، يصلي معهم واقفاً.

كيف يُفطر معهم في رمضان، يعايدهم ويعايدوه، كيف يعيش معهم إنسانيته ومسيحيته وعروبته.

لن انس ما حييت عندما كنت مع بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة في السدة العلوية لجامع الروضة بحلب يستمع إلى خطبة  مفتي سورية، وعندما انتهت الخطبة وحان آذان الظهر، وبدأ المصلون بالصلاة، عاونت هذا الرجل الذي تجاوز عمره آنذاك الخامسة والثمانين على الوقوف - وهو المصاب بوجع شديد في الظهر - وقف احتراماً للصلاة، وعندما نزل إلى المحراب حيث دعاه مفتي سورية لإلقاء كلمة قال أنه خطب في أعلى منابر في العالم ولكنه - حتى الآن - لم يخطر على باله أنه سيخطب في جامع، وهو ما بين مكان إقامته في مصر وجامع الأزهر مسافة قليلة.

هذه هي الصناعة السورية، وهي معدةٌ للتصدير