تتصاعد أدخنة المشكلة من مستصغر الشرر لتتكثف في أجواء أطرافها، فتغمرهم. تُترك أياماً وأسابيع، قبل أن يُدلي كل منهم بدلوه. فهذا يدينها، وذاك يلمز من أحد مسببيها، وثالث يلقي بالمسؤولية على مفتعل مفترض لها، يسمى عادة "طرفاً ثالثاً يريد العبث بوحدة الصف الداخلي".
يتداعى أصحابها أخيراً "لوضع حلول ملائمة للخروج من الأزمة". يخرج الجمع وكل قد "ترك الباب موارباً" للآخر، أو "مفتوحاً على مصراعيه" ليس لحلها، بل لزيادة تفاقمها، أو مراكمة أوراق جديدة للعب في فصولها التي لا تنتهي "لكسب مزيد من الوقت أو النقاط" على حساب الطرف الآخر.
تتعمق المعضلة أكثر، فيزداد الحديث عن ضرورة اللقاء مجدداً "للخروج من عنق الزجاجة". وهي في الحقيقة أعناق شراييننا التي يزداد ضغط الدم فيها عند اصطدام المشكلة المتكرر بجداران الفشل. ثم تدخل الأزمة فصلاً جديداً من فصول متاهات اللعب السياسي التي لا يفضي أي منها إلا إلى "طريق مسدود"، بعد أن يتعذر على أطرافها رؤية أي "ضوء في نهاية النفق المظلم" أو "بصيص أمل" " في حل مقبل. فكل الحلول في هذه الحالة تدبر. وعلى الفور يندلع كلام عن أهمية "مد جسور الثقة" أو "الالتقاء عند نقطة في منتصف الطريق".
يمتد عمر الخلاف فيتكلم المتكلمون عن "قرب حل المشكلة خلال أيام"، يرد الطرف الآخر: "خلال أسابيع". وما السنون إلى أيام وأسابيع يزداد خلالها الانقسام عمقاً، ويتكاسل أطرافه عن السير في دروب الحل ليكتشف الجميع أن أي منها لا ينتهي بمخرج. ويتهم كل طرف الآخر بأن حديثه عن حلول للمشكلة ما هو إلى "دوران في حلقة مفرغة"، ولا يتعدى كونه كلام "للاستهلاك المحلي".
ينتقل بعدها الحديث من البحث عن مخارج، و"مد الجسور"، و"ردم الفجوة" و"جسر الهوة" و"رأب الصدع"، وكلها أشياء لها علاقة بـ"العمارة والبناء والتأسيس" الواقعي على الأرض لعرقلة أي حل للمشكلة "قد يلوح بالأفق"؛ إلى لعبة الأشكال الهندسية السياسية. فمثلاً يطرأ نوع جديد من استطراب "الحكي" عن "تدوير الزوايا"، وعندما يعجز الجميع عن مجرد ملامسة حوافها، تعود المشكلة إلى "المربع الأول"، وهذا المربع يأخذ وقتاً طويلاً كي يستدير أخيراً ليتحول إلى "نقطة الصفر"، وهي ذاتها "نقطة البداية"، التي يتعنت كل طرف عندها خلف مواقفه، ويتمرس وراء آرائه.
تصل المشكلة ذروتها، حينها يكون قد راح ضحيتها عدد معتبر من القتلى والجرحى، بالإضافة إلى تعطيل مشاريع الناس ومصالحهم، فيتناوب أطرافها الحديث عن "حلحلة" ما، وأن "اتفاقاً مبدئياً سيرى النور قريباً". فـ"تطرح جميع الملفات على طاولة الحوار". ويُبقي الكل على "جميع الخيارات مفتوحة". ثم يخرجون بـ"مسودة اتفاق"، يتحاور بشأنها "المتمشكلون" أياماً وأسابيع وأشهراً، يعقدون خلالها عشرات "اللقاءات الثنائية على المستويات القاعدية"، تتبعها "قمة رئاسية" أو قمتان، أو ثلاث، تسبق عادة الوصول إلى "اتفاق نهائي".
بعد يوم أو يومين يخفق الجمع من جديد في "تطبيق بنود المسودة على الأرض"، لأن الحديث طيلة الاجتماعات كان منصباً على "معالجة النتائج لا الأسباب"، فيتذكرون أنه "لا بد من معالجة جذور المشكلة". يلقي كل طرف بـ"الكرة في ملعب الآخر". يتقاذفونها إلى حين، قبل العودة من جديد إلى محاولات "استمزاج الآراء"، من أجل وضع "خارطة طريق" للحل. ويصبح الملعب ملاعب، والطريق طرقات، وبين أرضيات الأول، ومتاهات الثاني، تنفجر الكرة، ويتيه الجمع في الشعاب.
يفيض الكيل بالشعب فيهتف "الشعب يريد". يتنادى قادة وأنصار كل طرف لـ"النزول إلى الشارع" باعتباره "الخيار الأخير للضغط على الخصم". ينفلت الشارع و"تسود حالة من الفوضى"، يبدأ معها حديث عن "تدويل الأزمة" عبر "الذهاب إلى مجلس الأمن أو الأمم المتحدة"، بعد أن يدخل على مكونات الأزمة "أطراف داخلية وأخرى خارجية". كل هذا يحدث بعد تباكي ساسة الأطراف المتنازعة على "الأرواح التي أزهقت والدماء التي أريقت"، ويؤكدون على أنها "لن تذهب هدراً".
ينتبه المشاهد فجأة على تشويش يشوب الصورة قليلاً عبر التلفاز، بعد أن أخذته غفوة في بحور التفكير بهذه العبارات التي تدوخ العقل وتربك التفكير وتستعصي على الفهم. يعتذر المذيع عن "انقطاع الصورة"، ثم يتيه الصوت، فيتأسف مرة أخرى "عن رداءة الصوت من المصدر". فالمصدر للأسف دائماً رديء، ورديف للمشكلة وأطرافها.
دبي
12 نوفمبر 2011