آخر الأخبار

تآكل الأعراف اللبنانية

واستتبعت هذه الصيغة مجموعة أعراف متفرعة عنها. خصوصاً الأعراف المتعلقة بقواعد تمثيل الطوائف عبر هذه الصيغة من الرئاسات ولغاية الوظائف. و تبين المراجعة أن تجاوز هذه الأعراف كان بدوره يؤدي إلى تفجير الأوضاع الداخلية. وبات الجميع على معرفة بحساسية هذه الأعراف التوافقية اللبنانية. حتى سميت الديمقراطية اللبنانية بالتوافقية أي العرفية. ذلك أن التوافق يقوم على هذه الأعراف. وبمعنى آخر فإن كل الفئات اللبنانية أصبحت غارقة بالوصفة السحرية لهذه الأعراف. وتجاوزها كفيل بتفجير الداخل اللبناني. وعليه فلا يمكن تفسير أي تدخل يهدد هذه الأعراف التوافقية ويتجاوزها إلا برغبة في إفتعال التفجير الداخلي.
في هذا الإطار يدرج التدخل الأميركي في الانتخابات الأخيرة التي أدت إلى خلل أساسي في قواعد تمثيل الطوائف المتعارف عليها. وهو خلل شديد الشبه بالخلل الذي أحدثته انتخابات العام 1958 . التي أعقبتها جملة تفجيرات واغتيالات ( يتذكرها المعاصرون بدقة) قادت إلى ثورة 1958. فهل كان القصد الأميركي من فبركة هذه الانتخابات هو إشعال ثورة أو اقتتال جديد في لبنان؟ وهل كان لبنان يوماً أكثر فرزاً طائفياً منه في ظل الوصاية الأميركية الراهنة وتوابعها الزلزالية برلمانياً وحكومياً ومشاريع مطروحة.
بداية فإن ما يسمى بالأكثرية النيابية أضحى عبئاً وعجزاً نيابياً وحكومياً معلناً. بل أن الوصاية الأميركية لم تعد تقبل الاختفاء وراء الستار. فقد بدأ اللوبي اللبناني - الأميركي تحركه بوصاية المخابرات الأميركية وبين مدعويه قائمة من نواب العجز ورموزه. أما رئيس الحكومة فهو ينتهز فرصة الحزن على الصحافية مي شدياق ليعلن اتصاله بالسفير الأميركي وطلبه مساعدته. بدوره وزير الداخلية لم يقصر في إعلان عجزه عن تأمين متطلبات منصبه وله العذر في ذلك بعد أن وعدنا رئيس الحكومة بسلسلة اغتيالات قادمة مع تهديدنا بطلب مساعدة أمنية دولية ( طلب قوات دولية).
نكاد نسأل بعد كل ذلك عن الأسباب التي تمنع استقالة حكم وحكومة العاجزين. لكن الجواب يأتينا معداً ومجهزاً مسبقاً. إنه انتظار نتائج تحقيق لجنة ميليس!؟. وهو انتظار يبرر العجز!. وبانتظار ذلك يتعجل الحكم خطوات الخصخصة في ظل الفساد. ويسوق لتجاوزات الدستور بعد اغتيال الأعراف المؤسسة للتوافق اللبناني. ومع ذلك ترتفع عقيرة المسؤولين الإفتراضيين بتهديد المفجرين بالعقاب ولو بعد حين!؟. وكأن مسؤولية الحكومة تنحصر في الإنتقام من المفجرين ولا تمتد الى منع التفجيرات والأذى عن اللبنانيين.
مسكين المواطن اللبناني و متعثر هو لخضوعه لمثل هذه الاستعراضات والتجاذبات. فحين ظن المسيحي أنه خارج التجاذب جاءته انتخابات تتحدى رغباته ومصالحه. وبعدها تفجيرات متعاقبة. وكأن الهدف هو عدم إبقاء أية فئة لبنانية خارج إطار التهديد. أما المواطن السني فقد وجد نفسه يصطف لمواجهة الشيعة متنكراً للمقاومة. ووجد الشيعي نفسه متورطا في مواجهة داخلية وهو الملتزم بمواجهة إسرائيل. وهكذا يتوالى التهديد فيطال الجميع. ويتصاعد هذا التهديد بتصريح يحذر من التدخل الإيراني في العراق ومعه تلويح إسرائيلي بالانسحاب من مزارع شبعا. في مقابل تحذيرات من التدخل السعودي المباشر في السياسة اللبنانية بدعم أو توافق أميركي. فهل يمكن بعد ذلك الشك بأن الرياح تدفع لبنان نحو التقسيم أو نحو التقاتل ولا ثالث للخيارين.
ألا يكفي أن تشعر كل الفئات اللبنانية بأنها مهددة من كل الفئات الأخرى مع ما يصاحب هذا الشعور من فقدان ثقة متبادل بين الجميع؟.
ألا يكفي أن تشعر كل فئة باضطهاد الفئات الأخرى لها؟. فهناك فئة تعتبر أن الآخرين يختارون لها نوابها ووزرائها وممثليها. وفئة تشعر بأنها مستهدفة في الدفاع عن أرضها وفئة أخرى تفترض تآمر الفئات الأخرى عليها باغتيال أحد وجوهها؟.
ألا يكفي أن يتحول العداء من إسرائيل نحو سوريا ومن الصهيونية إلى العروبة؟.
ألا يكفي أن تتحول رغبة القطيع إلى الإنقياد لراعي البقر الأميركي؟. ومع الرغبة توحد بالمعتدي لحد الخضوع المذل للسفير الأميركي.
هل يكفي أن نذكر أصحاب الحلم الأميركي بأن أشباههم استقبلوا الجنرال غورو بأن فكوا البغال عن عربته وجروها بأكتافهم بدل البغال فخرج الفرنسيون وخابت البغال.
هل يكفي أن نذكر كيف دمرت الحضارة الأميركية بغداد؟. وكيف هددت وتهدد بتدمير عواصم عربية أخرى؟. وبيروت السوليدير ليست بعيدة عن التهديد سواء بحرب أميركية أو بإجتياح إسرائيلي أو بفتنة داخلية؟!.
هل يكفي التذكير بفعالية المقاومة العرقية في مواجهة الاحتلال الأميركي؟.
هل يكفي التذكير بلجنة البحث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية واعترافات رئيسها ريتشارد باتلر، وهل ندرك مدى الشبه بينها وبين لجنة ميليس؟.
هل نتذكر أن إعلان نتائج التحقيق قد تأجلت لعدة مرات. وستتأجل أيضا ومن ثم يأتي مسلسل المحاكمة ؟ فهل نعيش حكم العاجزين كل الزمن الآتي؟. وماذا لو تفتقت تبعية مجلس الأمن عن فكرة إنشاء مجموعة لجان تحقبق أخرى؟.
هل يكفي الإصرار على دور سوري في اغتيال الحريري؟ ومعه التأكيد على وعود أميركية بتهديد النظام السوري كي ننتظر الانتقام الأميركي من سوريا؟. وهل يستغل الأميركيون رغبة الثأرالموروثة فينا ليكملوا احتلالهم لكامل المنطقة؟.
بعد كل هذه الأسئلة يبقى أن نحاول تكوين رؤية عن مستقبل لبنان وهو شديد الظلامية في ظل المعطيات والوقائع التالية:
1- الدين العام المتجاوز حدود ال 40 مليار دولار وأعباء هذا الدين.
2- الانشطار السياسي لرؤوس الحكم الحالي.
3- الشلل التام للأكثرية البرلمانية. وهو شلل يعكس خللاً في بنية النظام الحالي..
4- عجز الحكم القائم برؤسه الثلاث عن تسيير شؤون الدولة وقيامها بوظيفتها المفترضة.
5- الضغط الدولي المدعوم إقليمياً لإجراء جراحات بتر سياسية قاسية في الداخل اللبناني. ولقد بدأت عمليات البتر هذه باستبعاد السياسيين الوطنيين أصحاب التمثيل الشعبي بشلة موظفين خبرنا برودتهم وجمودهم في حكومات الرئيس الحريري السابقة.
6- الانقسام الطائفي الذي وصل او يكاد يصل إلى حدود العودة للتسلح استعداداً لمواجهة داخلية تالية للفوضى الراهنة.
7- الفساد المبرمج للممارسة السياسية في غياب أجهزة المحاسبة والرقابة. مثال ذلك إستغلال البرلمان التعطيل المقصود للمجلس الدستوري وتجاوزه للقضاء. وكذلك سعي الحكومة لتمرير صفقات بيع مؤسسات الدولة للخليجيين وممثليهم المحليين. وحيث يبالغ رئيس الجمهورية باستخدام صلاحية مركزه بصورة تقارب الاستفزاز أحياناً.
8- اعتماد الوجوه السياسية الجديدة على الدبلومات الأميركية لتكوين جماعات الضغط ولقيادة المظاهرات لدرجة تحولهم الى مدمني مظاهرات بحيث يعجزون عن تفويت مظاهرة دون أن يشاركوا فيها. إذ تحولت هواياتهم إلى المشاركة في التظاهرات لا يهم إن كانت مؤيدة أم معارضة. فقد تكونت لدى هؤلاء قناعة راسخة بكون التظاهرة صفقة رابحة وهم الذين ربحوا منها ما لم يربحه أشعب على مائدة السلطان.
9- إخراج معظم العقائديين والوطنيين من المشهد السياسي. مع إستثناء العقائديين المتحولين عن عقائدهم لصالح الأمركة. ومن هؤلاء حالات تحمر لها الوجوه خجلاً. فمن المؤذي حقاً أن تقرأ أو تشاهد تحولات هؤلاء العقائديين. ومن الطبيعي أن يرفض العقائديون الراسخون وغير المتحولين الإنسحاب لصالح هامشيين مرتزقة أو متحولين مؤذين. فالزعامات الحقيقية والأحزاب الوطنية يرفضون عرض عقائدهم في سوق النخاسة السياسي الحالي.
10- أدوار الوصاية الأجنبية الصريحة وإن رفضها رئيس الحكومة. وسلطة هذه الوصاية تتسرب إلى كل الفئات اللبنانية. مع تعدد جهات الوصاية حتى أزدحمت الساحة السياسية اللبنانية بهؤلاء الأوصياء. حيث نعدد أميركا وفرنسا والسعودية وإيران وسوريا وتركيا مع دور إسرائيل التقليدي في قلب الطاولة على رؤوس اللبنانيين.
11- حيلة الحكم الساذجة بتجاهل وجود اللاعبين الفرعيين في الساحة اللبنانية. ومنهم جماعات فقيرة ومحدودة القدرات ولكنها قادرة على التحرك وبحرية أكبر.
12- مجموعة الأوهام والهلوسات السياسية ومنها: الأكثرية النيابية الموهومة. والقناعة بسوبرمانية أميركا مع تجاهل فعل المقاومة العراقية. وعداء سياسي للعروبة يتحدى التاريخ الذي يدمر من يتحداه. وهلوسة تصنيع دمى سياسية على الطريقة الأميركية وغيرها من الهذيانات السياسية الأميركية التصنيع.
مما تقدم يحق لنا الاستنتاج بأن لبنان يسير نحو مصير مأساوي وحجم مأساويته يتعلق بحجم الخراب الذي تريد أميركا تنفيذه في المنطقة. لكن مأساوية مستقبل البلد تهون أمام قناعة الطارئين السياسيين بتأمين قبولهم في خدمة السيد الأميركي. ومعها بطاقة تأمين لإستمرارية دورهم الوظيفي كتجار جثث سياسية وهؤلاء لا يحترمون ولا حتى الموت.