تحولت مشكلة الحمضيات في الساحل إلى مرض مزمن، تزداد حدته وأعراضه مع مرور الزمن، في ظل عدم وجود حلول علاجية لمشكلة التسويق لهذا المنتج الذي وصل هذا العام إلى 1.1 مليون طن، والذي يعد محصولاً استراتيجياً بامتياز للمنطقة الساحلية، كما تشكل شجرة الحمضيات المورد الرئيسي لأكثر من 45 ألف عائلة.
اختناق
يعاني هذا المحصول دوماً في مثل هذه الأيام من كل عام من أزمة اختناق حقيقية نتيجة ضخ كميات كبيرة من الحمضيات يومياً إلى السوق وعدم القدرة على التصريف وإيجاد أسواق تستوعب هذه الكميات وما زاد الوضع سوءاً هذا العام الأحداث التي تجري حالياً والتي أخرجت بعض الأسواق من التصريف، كما دخلت العديد من العوامل الأخرى التي كان لها أثر سلبي انعكس على موضوع التصريف والأسعار.
يقول المزارع أبو مهران: كل عام نوعد بالغنائم، ويقال لنا انتظروا العام القادم سيتم التصدير ونفاجأ بأن الأوضاع تزداد سوءاً والأسعار تتدنى أكثر فأكثر، حتى وصلنا إلى أقل من سعر التكلفة، بحيث تستفيد جميع الحلقات التي تتعامل مع الحمضيات دون أن يستفيد المزارع وهو الحلقة الأساسية في وجود المنتج أصلاً، فمع تدني الأسعار أتت جميع الأمور المتعلقة بهذا المنتج معاكسة حيث ارتفع سعر العبوات البلاستيكية وكذلك أجور العمال وأجور النقل.
المزارع أبو يامن قال: أنا موظف ولدي حقل حمضيات تبلغ مساحته 10 دونمات، أعمل وأعتني به كالطفل المدلل أملاً بأن راتبي وما أجنيه من الحقل يساعدني على المعيشة وتحسين وضعي، لكن يبدو أن الأسعار هذا العام ستخطف مني الحلم في تحسين أوضاعي فالتكاليف ستبتلع كل ما سأجنيه من المحصول، وكذلك هذا ما حصل معي بالنسبة للزيتون حيث أنتجت هذا العام 130 تنكة زيت لكن لم أستطع تسويقها، ونفاخر بأننا ننتج زيتاً من أفضل الأنواع العالمية لكنه وللأسف يبقى مركونا في منازلنا ينتظر من ينقذه، لذلك لا بد من تدخل الدولة في المساعدة لإيجاد سوق للتصريف، فإيجاد هذه الأسواق أكبر من قدراتنا نحن المزارعين، فليس الذنب أننا ننتج هذه الكميات وكأننا نعاقب على ذلك، في حين كان من المفروض مكافأتنا بإيجاد آليات خاصة لتصدير المنتج.
ويرى بأنه لا بد من إعادة النظر بالتصنيع الزراعي بدل تلك الصناعات التي ملأت البلد من المحارم والعلكة والبسكويت وتساءل لماذا تترك زراعة الحمضيات من دون أي تنظيم؟ وأين الإرشاد الزراعي من هذه العملية باختيار الأصناف المناسبة والمطلوبة، والتركيز على الأنواع التي تنتج العصائر؟.
عجز وحسرة
المزارع طوبال علي قال: للأسف يقف المزارع أمام كل التحديات التي تواجه المحصول عاجزاً لا حول ولا قوة، ويتفرج كيف يتساقط ويخرب محصوله أمام ناظريه وهو غير قادر على فعل شيء سوى أن يتحسر على الأيام والأشهر التي قضاها يعمل بكد ونشاط وهو يعتني بهذا المحصول ويرعاه كما الطفل المدلل، ويراه كيف ينمو ويكبر حتى تصل اللقمة للفم، لتأتي الحلقة الأخيرة في عملية التسويق لتضرب عرض الحائط بكل التعب والجهد والمال الذي قطعه عن نفسه وأولاده وكرسه للاعتناء بمحصوله لعل الحظ السعيد يأتي هذا العام ولكن عبثاً..
وينظر هذا المزارع والألم يعتصر قلبه من سخرية القدر فهو يبيع محصوله بأبخس الأثمان، وفي كثير من الأحيان بالكاد يحصل على سعر التكلفة، بينما يصل محصوله نفسه إلى المستهلك بأضعاف سعره الحقيقي ويحصد السماسرة والتجار الغنائم من هذه الفروقات.
ويقول المزارع محمود كفى: إن تكاليف الإنتاج بالأصل مرتفعة كالأسمدة والأدوية وأجور العمال والتي تأخذ القسم الأكبر من المحصول في نهاية المطاف، وأتى هذا العام ارتفاع أسعار العبوات البلاستيكية إلى ما يقارب الثلاثة أضعاف وأزمة المازوت لتشكل ضربة قاسمة للمزارعين بينما نرى أسعار المنتج بتراجع مستمر بحيث لم تعد تغطي التكاليف التي دفعناها.
"بالمونة وبوسة الدقن»!
المزارع حسن سليمان يقول: إضافة لقلة العبوات بالسوق قام الكثير من التجار باحتكارها ما أدى إلى ارتفاع سعرها بشكل خيالي ونقوم بتأمين ما نحتاج بالمونة وببوس الذقون ونضطر إلى دفع السعر الذي يفرضونه، وأضاف إن الدعم الذي تقدمه الدولة غير كاف ولا يغطي جزءاً بسيطاً من التكاليف، وسمعنا باقتراحات لرفع هذا الدعم لكن هذا لن يحل المشكلة، في حين الدعم الأساسي لنا يكون بالمساعدة لتأمين أسواق لتصريف المنتج وبتأمين العبوات بأسعارها الحقيقية ورفع يد الاحتكار عنها، فالتجار والسماسرة هم المستفيدون من كل ما يتعلق بحلقات الإنتاج والتسويق، ويأخذون الحصة الأكبر، ويبقى المزارع والمستهلك هما الضحية ويدفعان الثمن بالنهاية.
وقال حسن: وكأن الفلاح لا يكفيه غلاء جميع أدوات ومستلزمات الإنتاج لنجد أن الكثير من تلك المواد من أدوية وأسمدة تكون غير فعالة وأحياناً تكون منتهية الصلاحية وينطبق علينا المثل « أحشفاً وسوء كيلة»، وبالتالي الفلاح بالع الموس على الحدين.
أزمة المازوت والنقل
بشار ميا تاجر في سوق الهال يقول: إن وضع التسويق سيئ للغاية، ونعاني من صعوبة بالغة في نقل الحمضيات إلى أسواق المحافظات البعيدة، هناك ندرة بسيارات النقل، الكثير من السائقين أحجموا عن السفر والنقل بسبب الأحداث لذلك أحياناً نشتري البضاعة وتبقى بأرض سوق الهال ولا نستطيع نقلها إلى الأماكن التي تحتاجها.
ويقول يعقوب محمود تاجر «شحن»: ثلاث مرات تعرضت سيارتي للتشليح والسلب على طريق الغاب، وما زاد الأمر سوءاً إضافة لندرة سيارات النقل إلى المناطق البعيدة أزمة المازوت الخانقة التي أدت إلى ارتفاع أجور النقل إلى الضعف، فمثلاً كانت أجرة الشحن إلى دمشق حوالي 6000 ل.س، ارتفعت إلى أكثر من 10000 ل.س، وكانت إلى حماه 3000 أصبحت الآن 7000 ل.س، وهكذا، وكل ذلك سينعكس بالتأكيد على سعر المنتج.
ويقول عامر إبراهيم من دير الزور: نعاني الأمرين لتأمين سيارة لنقل البضاعة، وبسبب ذلك نضطر لوضع وتجميع البضاعة بأرض سوق الهال وهذا ما يزيد التكاليف لإعادة تحميلها، ومرور الزمن يفقد البضاعة بعض مواصفاتها وهذا يؤثر على تسويقها.
إنقاذ
ويقول رئيس مصلحة الحمضيات في مديرية الزراعة باللاذقية المهندس عمران ابراهيم: تقدر كمية الإنتاج من الحمضيات لمحافظة اللاذقية بحوالي 890 ألف طن، منها لمجموعة البرتقال 592 ألف طن (اليافاوي، أبو صرة، فالنسيا، أصناف البلدي والدموي)، 180 ألف طن لمجموعة اليوسفي (ساتزوما، كلمنتين)، و81 ألف طن لمجموعة الحامض، والباقي لمجموعة الكريفون والجريب فروت وأبو ميلو والكريفون الدموي، إن النضج المبكر للقشريات بسبب الظروف الجوية إضافة لهجوم البرد والخوف من الصقيع جعلت الكثير من الناس يقطفون كميات كبيرة من الحمضيات وخاصة القشريات الحساسة للبرد، وهذا ما أدى إلى تراكم الإنتاج بالسوق وبالتالي انخفاض سعره، إضافة لعوامل أخرى عديدة، وأشار إلى أن الكمية الأكبر هي في نوعية البرتقال وهي متحملة للنقل والتخزين لذلك لا بد من أن تقوم مؤسسة الخزن والتسويق بتخزين كميات من تلك المادة في مخازنها الموجودة في جميع المحافظات وهذا يساعد في التخفيف من خسائر الفلاحين، وتشكل عامل إنقاذ للأزمة.
أين التخطيط؟
ويقول رئيس دائرة التسويق في مديرية الزراعة باللاذقية المهندس طلال فاضل: على الرغم من أن العملية التسويقية ترافق عملية التخطيط للإنتاج وهو من أهم أسس العمليات الاقتصادية لمعالجة فورات الإنتاج وتصريفه، وهذا ما افتقره التخطيط الزراعي في الساحل السوري منذ بداية زراعة الحمضيات، وهذا ما نجني نتائجه اليوم في تصريف الإنتاج، ونعاني من ذلك سنوياً ونكتفي بإيجاد الحلول على الورق وبالإكثار من الاجتماعات دون شيء ملموس على أرض الواقع يهم الفلاح وينقذه. وللعملية التسويقية أسس معينة تبدأ ببرنامج إعداد من المنتج وتنتهي بمهام من مسؤولية القائمين على العمل في مؤسسات الدولة المعنية، وعلى الرغم من إحداث مديرية مختصة في وزارة الزراعة إلا أن ذلك لم ينعكس بالشكل الإيجابي على أرض الواقع، ولتعثر العملية التسويقية أسباب عديدة لن نبحث بجذورها لكونها تحتاج لبرامج خاصة، إن موسم هذا العام تعرض لظروف خاصة نتيجة ما يتعرض له الوطن، وبالتالي الموقف يحتاج إلى إجراءات إنعاشية سريعة تتخذ لإنقاذ الموقف، ولقد وصلت أسعار الكثير من الأصناف إلى ما دون سعر التكلفة، أي ما دون العشر ليرات للكغ الواحد، علماً أن تكاليف الإنتاج والتسويق أعلى من ذلك، فأسعار العبوات ارتفع بشكل جنوني ما زاد من تكاليف التسويق، كما أن الظروف الجوية من انخفاض الحرارة ليلاً أثر سلباً على نوعية الثمار خاصة مجموعة اليوسفي ما اضطر المزارع لجنيه مبكراً وطرحه بالسوق.
ويضيف: قدمت الدولة للفلاح دعماً بمقدار 1400 ل.س للدونم، لكن هذا الدعم خص الجانب الإنتاجي ولم يخص الجانب التسويقي الذي ارتفع كثيراً هذا العام، وتدل الدراسات على أن تكاليف الإنتاج للكغ الواحد تصل إلى سبع ليرات وتكاليف التسويق قبل غلاء العبوة تصل إلى 4 ليرات للكغ، فتصبح إجمالي التكاليف 11ل.س قبل ارتفاع سعر العبوة والتي كان يصل سعرها إلى 14 ل.س بينما الآن وصل سعرها إلى 25 ل.س، وعند البيع لا وزن لها وبالتالي يخسر الفلاح أكثر من 6400 ل.س للدونم في العبوات فقط.
وتقول بعض المصادر بأن تكلفة الإنتاج للكيلوغرام الواحد يتجاوز السبع ليرات، فتكلفة كغ في مجموعة البرتقال 8.3 ل.س، مجموعة اليوسفي 8.67 ل.س، مجموعة الحامض 8.8، مجموعة الغريب فروت 4.7، ويضاف إليها تكلفة التسويق التي تتجاوز الـ 4 ليرات الآن، في حين السعر الوسطي للكغ 10 ليرات وإن المزارع في خسارة محتومة.
خلية أزمة
المهندس إياد جديد مدير مؤسسة الخزن والتسويق في اللاذقية قال: تقوم المؤسسة بخطط مفتوحة لتسويق أكبر كمية ممكنة لمساعدة المزارعين، لكن الأمر مرتبط بالعرض والطلب فنحن مؤسسة ربحية لا نحتمل الخسارة لذلك لا يمكن شراء أي كميات دون أن يكون لها تصريف.
وأشار إلى أنه لا بد من الاعتراف بأن هناك مشكلة حقيقية بمسألة الحمضيات وأن نسعى لوضع الحلول، ويجب أن تدار من خلال تشكيل خلية أزمة لأن المشكلة هذا العام أعمق من سابقاتها.
ولفت إلى ضرورة تفعيل صندوق دعم الصادرات الزراعية كي يصبح منتجنا منافساً للدول المجاورة، وزيادة الضرائب على مركزات العصائر، أو حتى منع استيرادها لأنها تضيع الفرصة على استجرار كميات كبيرة من الحمضيات من قبل معامل العصائر.
وأضاف: إن هناك العديد من القطاعات من الدولة التي تحتاج محصول الحمضيات فلماذا لا تساعد هذه القطاعات بطلب الكميات التي تريدها من المؤسسة التي تستطيع تأمينها بأسعار مناسبة لها وللفلاح؟.
ضرورة التدخل الحكومي
وتساءل آخرون لماذا لا نرى تدخلاً من الحكومة أسوة بباقي المحاصيل الزراعية، فمحصول الحمضيات يعد محصولاً استراتيجياً للمنطقة الساحلية بأكملها، وشددوا على ضرورة إعادة إحياء معامل الكونسرة التي كان لها الدور الأكبر في امتصاص الفائض من الإنتاج الزراعي في تسعينيات القرن الماضي، لافتين إلى أن إلغاء معمل الكونسرة في جبلة وتحويله إلى مستودعات لمؤسسة التبغ منذ عدة سنوات كان خطأً جسيماً تتحمل تبعاته وزارة الصناعة، ويبقى السؤال المحير كيف سمحت الجهات المعنية بتمرير قرار كهذا..؟ وكان بالإمكان لمثل هذا المعمل أن يمتص قسماً كبيراً من الفائض.
حلول
أما المدير العام للخزن والتسويق نادر عبد الله فقد قال في مقابلة تلفزيونية مؤخراً: اجتهدنا هذا العام وقمنا بالتسويق بشكل مبكر من الشهر العاشر حتى قبل أن يكتمل تلوينه، وذلك لإطالة مدة التسويق، ما يسمح لنا باستجرار أكثر من 100 ألف طن، وهو ما يعادل 10 % من الإنتاج وهي نسبة جيدة لم تصلها المؤسسة بأحسن أحوالها، العام الماضي سوقنا 107 آلاف طن، مشيراً إلى أن الدعم من الدولة مطلوب بهذه الأحوال ولمثل هذه المواسم، فمثلاً ايطاليا تدعم ليتر الزيت بـ 4 يورو بينما يباع بـ1 يورو، نسبة دعم الحاصلات الزراعية في تركيا 100%، وفي مصر 75%، لذلك تصل الحمضيات من مصر إلى أسواقنا أرخص من منتجنا.
معالجة آنية
وكانت دائرة التسويق في مديرية زراعة اللاذقية قدمت مذكرة لوزير الزراعة تضمنت مقترحات لمعالجة الوضع الحالي والآني للحمضيات في المحافظة منها:
إصدار تسعيرة تموينية ملزمة تأخذ بالحسبان تكاليف الإنتاج والتسويق الحقيقية مع هامش ربح للفلاح، والإيعاز لمؤسسة الخزن والتسويق باستجرار كميات من السوق سواء للتصريف الحالي أو التخزين، وإعادة النظر بمبلغ الدعم ورفعه من 1400 ل.س للدونم إلى 2000 ل.س على الأقل، والطلب من وزارات الدفاع والصحة والتربية استجرار كميات من الحمضيات، والعمل على تأمين العبوات بالسعر الطبيعي عن طريق جهات معينة مسؤولة كاتحاد الفلاحين وتوزيعها على المزارعين بهامش ربح صغير.
وأخيراً وبعد كل ما عرض هل بالإمكان تطبيق تلك المقترحات والخروج بحلول عملية تساهم في تصريف هذا الفائض؟ أم إن الحمضيات ومشكلاتها ستبقى تدور في فلك الوعود حتى ينتهي الموسم لتغط بعدها في نوم عميق حتى بداية الموسم القادم ولتعاد الكرة مرة أخرى كل عام ونناقش من جديد مشكلات الحمضيات والحلول، فتبقى المشكلات حاضرة والحلول غائبة.
atefafif@gmail.com