يأتي، عبر الهاتف، صوت أحدهم يبلغ بالموافقة على طلب لقاء مقاتلين في «الجيش السوري الحر» في لبنان. يُحدّد موعد اللقاء وزمانه في مكان ما في وادي خالد. يوصي المتصل بضرورة الانتباه الى «عقبة واحدة»: حاجز القوى الأمنية المشتركة من الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي المعروف بحاجز شدرا. عناصره يضيّقون على الصحافيين، وفرضوا عليهم الحصول على تصريح دخول من قيادة الجيش. يوصي صاحب الصوت، ذي اللهجة السورية الواضحة، لتجنّب حاجز شدرا، بسلوك طريق ترابي يخترق الوادي قبل الحاجز بعشرات الأمتار.
يطمئن الرجل إلى أن الأمور ستسير على ما يرام. تبدأ الرحلة الطويلة التي تستغرق نحو أربع ساعات، كنا بعدها وجهاً لوجه مع صاحب الصوت الذي تبيّن أنه «ضابطٌ» يتولى مهمات تنسيقية في «الجيش». شاب ضخم في أواخر الثلاثينيات من العمر، يبدو تديّنه واضحاً من لحيته المطلقة وشاربيه المحفوفين.
البرد القارس يلقي بثقله. تتثاقل خطوات المارة. تتصاعد الأنفاس كبخار طالعٍ من فوّهة مدخنة. هكذا هي صباحات الشتاء في وادي خالد، الذي يقال إنه جدّ عشيرة عربية من عرب العنزة، فيما يُروى أنه سمي كذلك نسبة إلى خالد بن الوليد الذي مر في هذه المنطقة بعد معركة اليرموك، فسمّيت باسمه.
الحركة البطيئة في هذه القرى لا توحي بأنها تنطوي على ما أتينا من أجله. نقضي ساعات في أحد المنازل في احتساء أكواب الشاي. ومع كل كوب، يعلو صوت أحدهم: «دمعة»، تعبيراً عن صفاء الشاي. العبارة تخرق بين الحين والآخر النقاش حول الأوضاع في سوريا. يقطع صوت المؤذن النقاش، معلناً موعد أذان الظهر. يهم الحضور الذين ناهزوا العشرة أشخاص بالخروج الى الصلاة. ننحشر خمسة في سيارة وننطلق الى المسجد الذي يبعد نحو عشر دقائق. معظم رواد المسجد سوريون. الشيخ السوري عبد الرحمن العكاري يبدأ خطبته بعظة دينية، لا تلبث أن تتحول إلى حملة تحريض ضد «النظام الذي يقتل إخوتنا ويغتصب نساءنا». يشجّع الشيخ الموجودين على الثورة. يحثهم على عدم الخوف من الموت الآتي. ينجح في استثارة عواطف الحاضرين. يعم صراخ وعويل وتصدح الأصوات بهتافات «الله أكبر لسقوط طاغية الشام». يقول أحدهم إن «زوجة الشيخ استُشهدت أثناء محاولة دخولها لبنان خلسة». ويؤكد آخر أن جنود الجيش السوري قتلوها عمداً بعدما علموا أنها زوجة الشيخ.
يستخدم أفراد «الجيش الحر» أجهزة الثريا للاتصال مع «القيادة» (جاد الله ــ رويترز)
بعد الصلاة، يخرج الحاضرون للمشاركة في تظاهرة ضد النظام. لافتات التظاهرة، الحاشدة نسبياً، ترفع شعارات بعضها خطّته أيدي خطّاطين، وأخرى كُتبت كيفما اتفق. شعارات تطالب بإسقاط «نظام الأسد»، وأخرى تتهم مراقبي الجامعة العربية بـ«التواطؤ لسفك دماء السوريين»، وثالثة تطالب بتدخل دولي «لوقف حمام الدم». لحزب الله حصته من الشعارات، ولـ«سيد الضاحية» نصيب الأسد من الهتافات المنددة. مكبّرات صوت تبث أجزاء اقتطعت بعناية من خطابات للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بما يوحي كأنها موجّهة ضد الطائفة السنية. لقناتي المنار والجديد حصة من الشعارات المندّدة أيضاً. رُسم شعارا المحطتين إلى جانب شعاري التلفزيون الرسمي السوري وقناة الدنيا. يقول أحد المتظاهرين: «الإعلام يقتلنا مرتين. فليسقط المنار وليسقط الجديد، عملاء نظام القتل والتهديد». أعلام «سوريا الجديدة» حاضرة بكثرة، بعضها مرسوم بخط اليد، وتتخللها أعلام تركية. وبين هذه وتلك حضور لافت لأعلام تيار المستقبل الزرقاء.
وسط المتظاهرين جنود من «الجيش الحر» بملابس مدنية. ثلاثة منهم تحدثوا سابقاً . يطلبون عدم إبراز وجوههم في الصور. يخبرنا «مضيفنا» أن هناك «العشرات من عناصر الجيش هنا». تستمر التظاهرة قرابة ساعة، يلفت خلالها إصرار أحد «الهتّافين» على نفي تهم التعاطف مع تنظيم القاعدة. لحظات وتنطلق من مكبرات الصوت عبارة: «إصدارات الفجر تقدم ...». المفارقة أن «الفجر» هو المركز الإعلامي المعتمد لترويج تسجيلات تنظيم القاعدة!
فيما التظاهرة مستمرة، يهمس المضيف بأن «علينا الرحيل بسرعة لأن جماعة المخابرات وصلوا». يحث الخطى، وبعد الابتعاد قليلاً، يشير إلى خمسة شبان يرتدون سترات جلدية. يؤكد أنهم من رجال الاستخبارات اللبنانية، «وكانوا سيوقفونك لو علموا أنك صحافي تقوم بالتصوير من دون تصريح». رجال الاستخبارات معروفون لدى معظم سكان الوادي. يشير أحدهم إلى سيارة رابيد حمراء. هي أيضاً لأحد المخبرين! فيما ننطلق بالسيارة في أزقة الوادي وشوارعه، يشير الرجل إلى المزيد من المخبرين. يذكر أسماء بعضهم واسم الضابط الذي يعملون لمصلحته. «الأمن مخروق وين ما كان». يقول، ويضحك الجميع.
تجتاز السيارة قرى تتشابه إلى حد التطابق. يعلن المضيف «أننا الآن في القرى الأخيرة لوادي خالد». تجتاز السيارة مفترق طرق، الأول يؤدي إلى قرية الكنيسة والثاني إلى قرية قرحة. هذه المنطقة تعرف بـ«الوعر». يمر بعض الوقت قبل أن يطلب الرجل ركن السيارة قرب أحد المنازل. يترجل الجميع. يجري المرافق اتصالاً من هاتفه. تمر دقائق قليلة، تأتي بعدها سيارة رباعية الدفع، ترافقها ثلاث دراجات نارية. يطلب سائق السيارة أن نصعد معه. تشق السيارة طريقها في أرض شديدة الوعورة. يقول المضيف إن «الطريق التي تمشي عليها لبنانية، أما تلك المحيطة بك فسورية». يومئ برأسه مشيراً إلى نقاط للجيش السوري. يخفف السائق من سرعة السيارة إلى أن تتوقف. يترجل الجميع. يطفئون محركات دراجاتهم النارية ويدخلون إلى أحد المنازل. ضوء النهار بدأ ينحسر لتحل مكانه ظلمة الليل.
الجلسة عربية. مدفأة حطب يتحلّق حولها ثلاثون شخصاً. الدار رحبة تتسع لعشرين آخرين. إبريق الشاي تتبعه فناجين القهوة. الضيافة لا تتوقف. يتولى المرافق تعريف الحاضرين بنا. يقول إن الحاضرين «ثلة من ضباط الجيش الحر». يشير الى من يقول إنه «ضابط برتبة رائد، وهو المسؤول بينهم». نتبادل والحاضرين أطراف الحديث. يبدو واضحاً أن الموجودين ليسوا سوريين كلهم. هناك لبنانيون، بينهم مهرّبون. يذكرون أن «قائد العمليات في بابا عمرو» كان موجوداً في لبنان «قبل يومين». يتحدثون عن «ذبائح نُحرت احتفاء بالضيف». يروي «الضباط» قصص «انشقاقهم». يبدون خيبتهم من «خذلان» الموقف الدولي لهم. يؤكد أحدهم أن الدعم «لم يتخطّ المواقف في الهواء». يتسلّم رجل خمسيني يلبس زياً بدوياً زمام الحديث. «الأمور سيئة، وعنف الضربات لم يزحزح النظام بعد»، يقول. يهز رأسه متابعاً: «المعركة طويلة جداً». يؤكّد، رغم ذلك، أن «الجيش الحرّ» يسيطر على ثمانين في المئة من حمص، ويشير الى «الانشقاقات في صفوف الجيش». إلا أن الجيش، بحسب الرجل نفسه، «لا يزال متماسكاً». يعلّق آمالاً كبيرة على «الحظر الجوي»، الذي «بمجرد فرضه ستحصل انشقاقات كبيرة».
لا ينفي أحد الموجودين تدفق السلاح إلى الداخل السوري عبر تركيا ولبنان، لكنه يلفت إلى أن وتيرته «خفّت في الآونة الأخيرة». ويتطرق الحاضرون إلى مقتل الشبان اللبنانيين الثلاثة برصاص الجيش السوري. يروي أحدهم أن مجموعة عناصر من الاستخبارات الجوية دخلت إلى الأراضي اللبنانية وكمنت للشبان الثلاثة، وهم: ماهر أبو زيد وأحمد حسين زيد وشقيقه كاسر. يتحدثون عن «خيانة». شاب من آل الأسود من قرية المشيرفة استدرج الشبان إلى كمين. يقر الحاضرون بأن الشبان الثلاثة «نقلوا سلاحاً الى الثوار، وقدموا الكثير للثورة السورية». يقول أحدهم إن الشباب رفضوا تسليم أنفسهم، رغم علمهم بأنهم وقعوا في الكمين. «واجهوا الرصاص بالرصاص». ينفجر أحد الحاضرين غضباً، ويصرخ مطالباً بـ«تصفية العميل» الذي أصيب في الاشتباك. يقول آخر إن زوجة «العميل» ووالدته زارتاه في المستشفى، فيرد الرجل الخمسيني بضرورة إرسال من يجهز عليه داخل المستشفى.
نخرج مع المرافق الى غرفة ثانية، حيث يعرّفنا إلى ضابط برتب ملازم أول قال إنه سيرافقنا في جولتنا. شاب ثلاثيني ملتحٍ. يطلعنا على «مسار العملية » التي ستبدأ بجولة استطلاع على الحدود. يشرح طريقة التحرك المطلوبة. ويطلب التقيّد بالتعليمات حرفياً. يحضر الشبان تباعاً. يفوق عددهم الـ 20، وكل منهم يحمل سلاحاً. تتنوّع الأسلحة بين رشاشات كلاشنيكوف وبنادق فال. يقول أحدهم إنه يحمل حزاماً ناسفاً. يرمقه «الضابط» بنظرة زاجرة، فيتراجع الشاب ليقول إنه كان يمزح. يرتدي الشبان ملابسهم العسكرية. يحملون سلاحهم ويضعون الأقنعة على وجوههم لإخفاء هويتهم تمهيداً للظهور في الصور.
يصل عدد المنضوين تحت «لواء الجيش السوري الحر»، الموجودين في شمال لبنان، الى مئتي مقاتل. عددهم ليس ثابتاً، يقل ويزيد تبعاً للعمليات التي يوكلون بها داخل الأراضي السورية. هيئاتهم العسكرية لا تظهر للعيان، ملابسهم مدنية توحي بأنهم مجرد نازحين. يتوزعون بين قرى وادي خالد شمالاً وبلدة عرسال بقاعاً. ينشطون في المنازل القريبة من الحدود. يلتبس عليك تحديد هويتهم أحياناً، والتمييز بينهم وبين المهرّبين.
الليل هنا لباس. يتحرّك رجال «الجيش الحرّ» بحرية بالغة. نخرج برفقة مجموعة قوامها تسعة رجال تقريباً. نركب خلف أحدهم على متن دراجة نارية، تنطلق مسرعة في الدرب الوعرة. شدة الصقيع تفقدك الشعور بأُذنيك وأنفك ويديك. يلتقي أفراد المجموعة عند نقطة متقدمة. يركنون الدراجات النارية ويترجلون مشياً على الأقدام. نسأل عن الألغام التي زرعها الجيش السوري، فيجيب أحدهم: «نظّفناها». يوضح آخر أنهم أزالوا قرابة مئتي لغم. لا نطمئن كثيراً. نتلو الشهادتين ونحاول أن نسير على خطاهم، حرفياً، خشية أن ندوس لغماً سقطت إزالته سهواً. نحو عشر دقائق من المسير. يعلن أحدهم «أننا في الأراضي السورية». يومئ مسؤول المجموعة الى موقع للجيش السوري لا يبعد أكثر من عشرات الأمتار. يقول: «نراقبهم عن كثب ونعرف أوقات تبديل الحراس، ونرصد دورياتهم العسكرية ونعلم توقيت تحركها وخط سيرها».
يستخدم أفراد «الجيش الحر» أجهزة الثريا للاتصال مع «القيادة» في الداخل السوري وتركيا. أما خلال العمليات في لبنان فيستخدمون أحياناً أجهزة اللاسلكي. لا تنتهي الرحلة عند هذا الحد. يبلغنا مسؤولهم بأن «الجيش الحر» سيخصنا بمفاجأة لنقلها إلى الرأي العام. يُحضر أحدهم لغماً مضاداً للدروع. ننتقل برفقة ثلاثة شبان إلى نقطة متقدمة، علمنا أنها ممر للآليات المدرعة. يبدأ أحدهم بالحفر، فيما يتولى الآخران الاستطلاع والمراقبة. الأرض تبدو صخرية للوهلة الأولى، لكنه يتمكن من إحداث حفرة فيها. يضع اللغم في وسطها، ثم يهيل التراب عليها قبل أن ينكفئ الشبان الثلاثة متراجعين، آملين أن تنفجر في «كتائب الأسد».
نقص في أجهزة اللاسلكي
يستفيض الجنود المنشقون بالحديث عن الأزمة السورية والنقص الحاد في الغذاء والدواء والسلاح. وعلى رغم توافر الإمكانات المادية، يسرّ أحدهم بأن هناك «أزمة جديدة دهمت الإخوة على جبهات القتال»، تكمن في الشحّ في أجهزة الاتصال، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تبادل لإطلاق النار عن طريق الخطأ بين «الإخوة». يبدي اقتناعه بأن الشح في أجهزة «اللاسلكي»، هو جزء من خطة ممنهجة اتبعها حزب الله لسحب نوع محدد من هذه الأجهزة من السوق. يبرر ذلك بتساؤل عن سبب اختفاء أجهزة اللاسلكي ذات المدى البعيد (٧ واط) من السوق اللبنانية وارتفاع سعرها ارتفاعاً جنونياً، لتحل محلها أجهزة اللاسلكي ذات المدى القريب (5 واط) التي يكون الخط فيها مشوشاً أغلب الأحيان. وبعد الإسهاب في الشرح حول نقص الأجهزة، يسأل مستفسراً: هل تعرف مكاناً لشراء هذه الأجهزة؟
في وادي خالد وقراه، كما في عرسال وجرودها، ينشط أفراد «الجيش السوري الحرّ» في مجموعات مسلّحة ومنظمة، نسبياً، تتقاسم السيطرة على المعابر في ما بينها. يعقد هؤلاء صفقات مع المهربين لنقل جرحى الأحداث في سوريا ولشراء السلاح وتهريبه، كما يتلقون دعم جهات سياسية نافذة في المناطق التي ينشطون فيها، إلى جانب احتضان شعبي تدعمه نظريات التاريخ والجغرافيا.
يخفي بعض هؤلاء هويتهم الحقيقية تحت غطاء «نازح» سوري. يتوارون عن الأنظار نهاراً وينشطون ليلاً. ولكل منهم وظائفه المحددة. «الأخبار» قابلت عناصر و«ضباطاً» ممن ينشطون ضمن ثلاث مجموعات تعمل تحت لواء هذا «الجيش». تُجمع هذه المجموعات على دعم «الثورة السورية» بأي وسيلة، لكنها تختلف في ما بينها على السيطرة والنفوذ، والاتصال بين مسؤوليها يكاد يكون مقطوعاً، إذ يرى كل منهم أخطاءً في أداء الآخر، واستغلالاً لـ «الثورة» لتحقيق مكاسب فردية.
أمام منزل في إحدى قرى وادي خالد، توقفت السيارتان اللتان أقلتانا والدراجات النارية الثلاث التي كان كل منها يحمل ثلاثة ركاب، بعد صراع مع وعورة الطريق دام بعض الوقت. انقسم الوافدون الذين ناهز عددهم العشرين في بهو المدخل الذي يضم بابين. يميناً، يطالعنا في الداخل ضوء «لوكس»، وسيلة الإضاءة المتقدمة على الشمعة حتى سنوات مضت. ديوانية واسعة تضم ما لا يقل عن ثلاثين شخصاً ينهضون مرحّبين. معظم الموجودين ملتحون، تراوح أعمارهم بين العشرين والأربعين. يُحضر أحدهم علم «الثورة السورية» ويُلصقه على الحائط استعداداً للتصوير. أحد الملثّمين يبدأ الحديث بالقول: «نحن أفراد الجيش الحر. نعمل بإمرة العقيد رياض الأسعد». هنا المجموعة الأكبر بين المجموعات الثلاث. عدد عناصرها ليس ثابتاً. يزيدون وينقصون تبعاً للمهمة التي توكل إليهم. يصل عددهم أحياناً إلى مئة مقاتل، وقد ينخفض إلى عشرة مقاتلين.
يعرّف أفرادها عن أنفسهم بأنهم أعضاء في «كتيبة الظاهر بيبرس»، ويشيرون إلى أن الضابط الأرفع رتبة بينهم يحمل رتبة رائد.
يُنصت الجميع إلى كلام الملثّم «عمران» كما عرّف عن نفسه. يتبيّن من سياق الكلام أنه «الضابط» المسؤول عن المجموعة. يؤكد أن «غرض وجودنا في لبنان ليس عسكرياً. مهمتنا تقتصر على توفير الأمور اللوجستية»، لكنه لا يلبث أن يشير إلى أن أفراد المجموعة «يشنّون بين الحين والآخر عمليات ضد أهداف داخل العمق السوري». يلفت الى أن «السلاح الموجود بحوزتهم خفيف، لا يتعدى رشاشات الكلاشنيكوف والبنادق الأوتوماتيكية والقنابل اليدوية وقواذف آر بي جي»، إلا أنها، رغم ذلك، «كافية لخوض حرب عصابات». أبرز مهمات المجموعة، بحسب «عمران»، «تتركز على نقل الجرحى» من سوريا إلى لبنان، «بواسطة دراجات نارية، وعلى الدوابّ عبر الطرقات الوعرة، وأحياناً نحملهم على ظهورنا». يشير الى أنه قبل نحو شهر «نقلنا أحد عشر عسكرياً جريحاً إلى الأراضي اللبنانية، ثلاثة منهم فارقوا الحياة بسبب طول الطريق ووعورته». أما في ما يتعلق بتهريب السلاح، فقد «خفّت وتيرته في الآونة الأخيرة»، نافياً حصول مجموعته على السلاح من المهربين، رغم تأكيد آخرين ذلك، ومشيراً الى عمليات شراء سلاح «من الجيش النظامي نفسه داخل سوريا».
يتحدث «عمران» عن تشديد الجيش السوري قبضته على الحدود وزرعها بالألغام، لكنه يؤكد أن ثلاثة خبراء متفجرات، انشقوا عن الكتائب الهندسية والتحقوا بمجموعته، «تمكنوا من تفكيك جزء كبير من الألغام الإيرانية الصنع لتوفير ممر آمن للأشخاص والجرحى، ونحن نعيد زرعها في درب كتائب الأسد»، مشيراً إلى أن «عمليات الرصد والاستطلاع التي نقوم بها تجعلنا على اطلاع على حركة الدوريات وتوقيت مرورها، مما يجعلنا نعمل براحة تامة أثناء تفكيك الألغام أو زرعها».
يتوارى جنود «الجيش الحر» عن الأنظار نهاراً وينشطون ليلاً
ينفي «عمران» أي علاقة لهم بتنظيم القاعدة، ورغم إقراره بأن كل أفراد مجموعته من الطائفة السنية، يشدّد على «وحدة الشعب السوري»، مشيراً الى أن «هناك مسؤولين في النظام من الطائفة السنية. وسنحاسب كل من لُطّخت يداه بالدماء. لن يُستثنى أيّ كان من ذلك، سنياً كان أم علوياً». وعن الأوضاع الميدانية، يقول، بثقة، إنها «في مصلحتنا. وكل يوم صمود بمثابة مسمار في نعش النظام»، ومؤكّداً «أننا لن نلقي السلاح مهما طال صمود النظام. إن لم نحم شعبنا، فمن سيفعل؟ الجامعة العربية ببروتوكولاتها أم الدول العربية التي تشاهد جرائم قتل الشعب السوري يومياً على شاشات التلفزة من دون أن تحرك ساكناً؟».
الحكومة اللبنانية، برأي «الضابط المقنّع»، هي «سورية بامتياز»، بسبب «خضوعها لحزب الله التابع بدوره للنظام السوري». ولذلك، «لن تكون لنا علاقة مع هذا الحزب بعد سقوط النظام، إلا إذا تراجع عن موقفه وعنصريته وطائفيته»، مستغرباً «كيف يكون حزب الله لبنانياً فيما انتماؤه المطلق لإيران التي تبعد عنه آلاف الكيلومترات». السؤال عن حزب الله يستفزّ الرجل لـ «يكشف» أن «مجموعات عسكرية تابعة لحزب الله وجيش المهدي (العراقي) والإيرانيين تشارك في المذابح في سوريا»، وأن «عشرات المقاتلين من عناصر الحزب ومن الإيرانيين قُتلوا في درعا وعرضت صورهم على القنوات الفضائية». وعن أدلته على ذلك، يقول «إن لهجاتهم وأشكالهم تعرّف عنهم. فالإيرانيون عربيتهم مكسّرة ولا يحملون أوراقاً ثبوتية. أما مقاتلو حزب الله، ففي إمكان أيّ سوري تمييز اللبناني من شكله»، «كاشفاً» أيضاً أن « في حوزتنا في سوريا أسيرين من حزب الله، أحدهما من آل زعيتر».
مجموعة أخرى من المقاتلين المنضوين تحت لواء «الجيش السوري الحر»، تضم بين ثلاثين وأربعين مسلّحاً، يتزعمها ضابط منشق عن الجيش السوري برتبة رائد يعرّف عن نفسه باسم «أبو سامر». يتركّز نشاط هذه المجموعة، أساساً، على نقل «جرحى الثورة السورية للعلاج في لبنان»، إلا أن بعض أفرادها يهمسون بأنهم ينقلون، أيضاً، أسلحة إلى المقاتلين في الجانب السوري، يقول «أبو سامر»، متهكّماً، إنه «مهرّب جرحى». يتركز عمل مجموعته على نقل الجرحى عبر طرق عرسال ووادي خالد إلى مستشفيات الشمال في حلبا والقبيات وطرابلس. يشير إلى أن «معظم الجرحى الذين يُنقلون بهذه الطريقة هم من العسكريين الذين يستحيل عليهم تخطي الحدود الشرعية»، كما «نعمل على تهريب حقن الكزاز وأكياس الدم»، مشيراً الى أن التنقل عبر الحدود «يكون عادة بعتادٍ عسكري كامل تحسّباً لأي كمين قد يستدعي اشتباكاً مسلّحاً».
الحكومة اللبنانية، برأي «الضابط المقنّع»، هي «سورية بامتياز»
أما وسيلة نقل الجرحى، فهي، بحسب «أبو سامر»، غالباً ما تكون «حملاً على الأكتاف ومناقلة بين الشباب». ويضيف: «لن أدخل في تفاصيل الطرق لأنها ستُزرع بالألغام في اليوم التالي». ولدى سؤاله: كم جريحاً نقلت مجموعتك منذ بدء الأحداث؟ يردّ: «يجب إعادة صياغة السؤال ليكون على النحو الآتي: كم جريحاً مات معك على الطريق؟ كم جريحاً انفجرت بهم الألغام؟»، مشيراً الى أن هناك «عشرات الجرحى الذين نزف دمهم حتى الموت في الجبال قبل الوصول إلى الأراضي اللبنانية»، لافتاً الى أن أعداد المصابين «ترتفع أثناء عمليات النزوح من سوريا باتجاه الأراضي اللبنانية، وخلال تظاهرات أيام الجمع تحديداً».
يبدي أعضاء هذه المجموعة، المعروفة باسم قائدها «أبو سامر»، حسّاً أمنياً مرتفعاً. يتكتمون على أسمائهم. يرفضون إعطاء حتى أسماء مستعارة. ويؤكد أحدهم أنهم يستبدلون أرقامهم الهاتفية وهواتفهم دورياً كل عشرة أيام تحسّباً لمراقبة مكالمتهم من قبل الأجهزة الأمنية.
المجموعة الثالثة التي تنشط على مسرح الشمال مجهولة العدد، تعمل في تهريب السلاح والمواد الطبية والكاميرات إلى الداخل السوري. وينفذون بين الحين والآخر عمليات عسكرية في الداخل السوري. يتولّاها ضابطٌ منشق برتبة نقيب يعرف باسم أحمد (اسم مستعار). يروي أنه انشق عن الجيش السوري «بعدما رفضت إطلاق النار على المتظاهرين السلميين»، مشيراً الى أنه نقل عائلته إلى لبنان فور انشقاقه خوفاً من رد فعل انتقامي. وتحدث عن مشاركته المقدم حسين هرموش بالتنسيق مع العقيد رياض الأسعد في تأسيس «الجيش السوري الحر» الذي «تقوم عقيدته على حماية الوطن والشعب لا حماية أشخاص». يسهب الرجل في الحديث عن «انتهاكات وفظاعات تُرتكب ضد المواطنين على أيدي شبيحة النظام الذين يغتصبون النساء ويقطّعون أوصالهن كما حدث مع زينب الحصني». والحصني فتاة سورية بثت بعض الفضائيات قبل أشهر صوراً لجثة ادعت أنها عائدة إليها، وقالت إنها تعرضت للتعذيب والاغتصاب والتمثيل بجثتها، قبل أن تظهر الفتاة في ما بعد على التلفزيون الرسمي السوري لتعلن أنها حية ترزق!
يقطع اتصال هاتفي من سوريا كلام الضابط. ومن دون أن يسأل عن هوية المتصل، يرد على محدثه قائلاً: «الجريح يدعى خالد الأسود»، ويضيف: «13 رجلاً من المخابرات، من المخابرات الجوية دخلوا لتنفيذ العملية ونقلوه إلى المستشفى العسكري حيث يمكث حالياً». يُنصت قليلاً ثم يكمل كلامه: «طلع شبّيح عميل للنظام». كان واضحاً أن الحديث يدور عن مقتل ثلاثة لبنانيين هم ماهر أبو زيد وأحمد حسين زيد وشقيقه كاسر في 27 الشهر الماضي في كمين استدرجوا اليه أثناء عملية لنقل أسلحة الى سوريا.
«الثورة» و«الحرية» وغيرهما من المصطلحات تتردد كثيراً على ألسنة ضباط المجموعات الثلاث ومقاتليها، إلا أن الخلافات والتنافس بينها يبرز نافراً. تضيع المبادئ والعناوين العريضة أمام الخلافات الشخصية. على سبيل المثال، يسرّ لك أحدهم أن زعيم المجموعة الأخرى «يسرق أموالاً تأتي باسم اللاجئين السوريين»، كما يخبرك أن المساعدات التي تصل يقوم هؤلاء بتصريفها وبيعها تحت مسميات عدة أبرزها «جمع الأموال لشراء الدواء والسلاح». يذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك. يكشف لك عن «أمر خطير» محذّراً. فمسؤول مجموعة ثانية «مشكوكٌ في أمره لجهة عمالته» للنظام. «القيادي» نفسه الذي يفصح لك عن هذه المعلومة لا يسلم من التهم المنقولة أيضاً. يخبرك «المسؤول المتهم بالسرقة» أن هذا الشخص «كاذب ومدّع».
وسط الاتهامات المتبادلة، ورغم تواصل هؤلاء مباشرة مع قادة «الجيش السوري الحر» في تركيا والداخل السوري، يشدد أحدهم على «ضرورة إيجاد قائد واحد يكون مرجعاً للتنسيق لحماية الثورة من الدخلاء وعدم إضاعة البوصلة».
تؤدي ضراوة المعارك في مناطق التوتر السورية الى سقوط عشرات الجرحى. يُعالج قسم كبير من هؤلاء في مستشفيات ميدانية، فيما يجري نقل ذوي الإصابات البالغة، عبر المعابر غير الشرعية، في الشمال والبقاع، ليخضعوا للعلاج في لبنان. يتوزع هؤلاء على ثلاثة مستشفيات في الشمال، أحدها في طرابلس مخصص للجرحى من مقاتلي «الجيش السوري الحرّ» الذي يدفع بدل إيجار طبقة كاملة منه، ويتولى الإشراف على الإجراءات الأمنية فيه.
في هذا المستشفى، التقت «الأخبار» نحو عشرة جرحى من «الجيش الحر». الطبيب السوري، الذي رافقنا، قال إنه يعمل في الأساس طبيباً بيطرياً!، وإنه قدم من السعودية «للتطوع في خدمة الثورة». يشير إلى أن النقص في المساعدات الطبية يؤدي، في كثير من الأحيان، إلى تأخير خضوع بعض المصابين للعمليات الجراحية اللازمة.
في إحدى الغرف، يستلقي جريحان على سريرين متجاورين. أحدهما مصاب برصاصة في عضوه الذكري. اخترقت الرصاصة قدمه ومحالبه قبل أن تخرج من جسده. يسأل الطبيبَ عن حقنة المورفين، فيردّ الأخير: «اصبر قليلاً يا محمد». ينفث محمد دخان سيجارته بنشوة يبدو أنها تنسيه ألمه. يقول إنه أصيب أثناء محاولته «حماية المتظاهرين من غارات الشبيحة». يصمت قليلاً ويضيف: «لم يبق لنا شيء، فلماذا نبخل بأرواحنا».
الجريح الآخر مصاب برصاصتين في مشط قدمه وساقه. يعرّف عن نفسه باسم أحمد، ويقول: «أنا جندي منشقّ عن الجيش السوري، التحقت بالجيش الحر لأحمي عرضي وأهلي». لن يتماثل للشفاء قبل أشهر، «لكنني لن أنتظر. سأحمل السلاح ما إن أتحسّن قليلاً. سأتكئ على عكاز بيد وأحمل الروسية (الكلاشنيكوف) باليد الأخرى». ويضيف: «خلقنا للموت، وسنموت في سبيل الله. عاهدنا رب العالمين على أننا سنقاتل حتى الشهادة».
لا يعلم المصابان كيف وصلا إلى لبنان، وأي طرقات سلكها عناصر «الجيش الحر» لنقلهما الى المستشفى، حالهما كحال كثيرين من المصابين في بقية الغرف.
خارج الغرفة، يقف خالد الذي يصفه الطبيب بـ«الملاك الحارس» لبعض الجرحى. إذ إنه تولى نقل معظم الجرحى الموجودين في هذا المستشفى. يقول خالد: «قبل الثورة» كان عامل بناء، وإنه انضم إلى مجموعة مهمتها نقل الجرحى عبر الحدود غير الشرعية. ويضيف: «في كل مرة أقطع الحدود لنقل جريح، أودّع زوجتي لأني أشعر بأنني قد لا أعود». ويوضح أنه يستخدم في مهماته الدواب والدراجات النارية، «وأحياناً ظهورنا»، مشيراً إلى أن «عشرات الجرحى» توفّوا بين يديه أثناء محاولة العبور بهم الى الأراضي اللبنانية.
نغادر المستشفى إلى أحد «المنازل الآمنة» في طرابلس. في الطبقة الخامسة من المبنى، يستقبلنا عشرة شبان سوريين، اثنان منهم لا يزالان يخضعان للعلاج الفيزيائي جراء إصابتهما، يقول أحدهما إنه منشق عن الفرقة 18 مدرعات. بين الموجودين، أيضاً، الطبيب السوري م. الذي كان يعمل في مستشفى ميداني في حمص قبل قدومه إلى لبنان، حيث يشرف على معالجة العسكريين الجرحى. يقول إن المستشفى الميداني يقدم الإسعافات الأولية فقط، ولا يمكنه معالجة الإصابات التي تستهدف الرأس والظهر والحالات الحرجة التي تستدعي عمليات جراحية، وهذه يتم نقلها إلى لبنان، مشيراً الى أن «نحو 10 جرحى فارقوا الحياة أثناء نقلهم إلى الأراضي اللبنانية. إذ إن الرحلة إلى لبنان طويلة». ويؤكد أن «جريحين على الأقل» يدخلان يومياً إلى لبنان، لافتاً إلى أن هناك «غض نظر» من استخبارات الجيش على تحركهم في الشمال، ومثمّناً «الاحتضان الشعبي الذي يوفّره الأهالي لنا».
جريحان على الأقل يدخلان يومياً إلى لبنان عبر المعابر غير الشرعية
في المنزل، نلتقي جنوداً من نوع آخر. يقول هؤلاء إنهم «اللواء الخفي» في «الجيش السوري الحر»، ويطلقون على أنفسهم تسمية الجنود الإلكترونيين. يكشف أحدهم، محمد، أنه ناشط سياسي وأستاذ في مادة التاريخ، كان يتولى التنسيق مع وسائل الإعلام لنقل صور ما يدور في مدينة بانياس، وأنه اعتُقل مع عائلته خلال حملات المداهمة التي نفّذتها قوات الأمن، وتعرّض للتعذيب قبل أن يُخلى سبيله بعد عشرة أيام. يشدّد على «وطنية الثورة»، نافياً ما يُلصق بها من أوصاف «إسلامية» و«طائفية».
لدى «الجنود الإلكترونيين» مخزون لا ينضب من صور وأفلام فيديو لمواجهات وجثث قتلى وجرحى يقولون إنهم سقطوا على أيدي الجيش السوري، يتولّون إرسال مقاطع منها إلى المحطات التلفزيونية، أو يُحمّلونها على المواقع الإلكترونية.
في «منزل آمن» آخر، في وادي خالد هذه المرة، نلتقي «جندياً إلكترونياً» لبنانياً متزوّجاً بسيدة سورية. يقول إنه «المنسّق بين الجنود الإلكترونيين»، وإن مهمته هي توزيع الكاميرات على الجنود الداخلين إلى سوريا، وإعادة جمع بطاقات الذاكرة منهم لدى عودتهم. يفصّل الشاب الثلاثيني آلية العمل بثلاث خطوات: «أُرسل الكاميرات وأستعيد اليو أس بي التي تحتوي على الصور، ثم أضعها على الكمبيوتر وأنقلها الى محطة تلفزيونية لتعرضها للعالم». نوع الكاميرا الرائجة هي «FLIP». يقول إن الهدف «عرض أكبر كمية من الصور ليعلم العالم كله ما يجري في سوريا»، ويؤكد أن هناك صوراً لم تعرض بعد.
كيف يبرر تدخّله في شؤون دولة أخرى وشعب آخر؟ يجيب الشاب: «أنا لبناني، لكن دمي مع الشعب الذي يقتل. أنا ناشط مع الثورة السورية. ومستعد لتجنيد كل أقاربي لخدمة هذه الثورة. لا أشعر بعد بأني فعلت شيئاً، وأريد أن أقدم المزيد». وقبل أن ينهي حديثه، يكشف أن جزءاً كبيراً من «أفلام الفيديو اللي عم تشوفن على الجزيرة أو الإنترنت من عندي».
(الأخبار)