آخر الأخبار

كيف يأخذ الطغاة قراراتهم

كيف يأخذ الطغاة قراراتهم

آليّات الاستبداد في العراق وسوريا

في العراق وفي سورية، مارس صدّام حسين وحافظ الأسد - ومن ثمّ ابنه بشّار - سلطة لم ينازعهم أحد عليها خلال عدّة عقود. وقد قمعوا كلّ أشكال المعارضة وأسكتوا الأصوات التي كانت تنتقد حتّى داخل النظام نفسه، ممّا جعل أيّ نقاشٍ حقيقيّ حول الخيارات الاستراتيجيّة مستحيلاً. أشادت بهم وسائل إعلام كانوا يهيمنون عليها، ممّا أعمى هؤلاء الطغاة سواءً عن شعبيّتهم أو عن الحقائق الدوليّة المعقّدة، وأدّى بهم لأن يأخذوا قرارات كارثيّة.

حتّى لو كان من الصعب دائماً مقارنة آليّات اتخاذ القرارات السياسية، إلاّ أن سيطرة حزب البعث على كلّ من العراق وسوريا (بين 1968 و2003 للأولى، ومنذ 1970 للثانية) [1]، واتخاذه في البلدَين المرجعيّات الإيديولوجية ذاتها يسمح باستخلاص بعض السمات المشتركة. فالنظامان قد أوجدا بيروقراطية مركزيّة تضمّ الأجهزة الأمنية ويسيطر عليها الرئيس مباشرة. وسواء في بغداد أم في دمشق، عملت فروع حزب البعث كأدوات للسيطرة على الجماهير. هكذا تعطي بعض محاضر اجتماعات القيادة القطرية للحزب وتسجيلات مجلس قيادة الثورة برئاسة صدّام حسين صورةً ملفتة حول طريقة اتخاذ القرارات في بغداد.

النظام كان يعمل بموجب القليل من الأوامر الخطيّة. أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الكبار وقادة الحزب كانوا يشاركون في النقاشات؛ لكن إن لم "يقتنع" صدام بحججهم، فإنّ الاقتراح الأساسيّ يبقى على حاله. وآلية فرض القرارات هذه من فوق كانت أيضاً أكثر تصلّباً في الشؤون العسكرية، حيث لم يكن لصدّام أيّة مهارة (كما ليس لبشار الأسد، خلافاً لوالده، أي تأهيلٍ عسكريّ).

وقد تُرجمت هذه الآلية الهرمية عبر الرفض المتزايد لأيّ أخبار سيّئة؛ وفي هذا يشبه صدّام حسين العديد من طغاة العالم. فخلال ندوة في خضمّ حرب الخليج (1991)، وفي حضور مسؤولين عسكريين كبار، أظهر احتقاره لمن يعبّرون عن شكوكهم في قدرات بلاده العسكرية: "لن أسمح بالآراء المتشائمة، فقط للآراء الإيجابية" [2].

في العراق، وكذلك إلى حدٍّ ما في سوريا الأسد، من الصعب الاعتراض على الرئيس. إذ تدلّ التسجيلات على التملّق السائد والحائل دون أيّة مناقشة جديّة للمسائل الحيوية. فالاجتماعات ترتكز على مزاج الرئيس، ولا أهميّة فعليّة تعطى لجدول الأعمال: هكذا في أغلب الأحيان كان صدّام حسين يقول الأشياء التي تعبر خاطره.

كما شجّعت عبادة الشخصية على هذيان العظمة عند الرئيس، وعلى اقتناعه بأنّه يتمتع بشعبية، وبأنّ قدره هو حمل "رسالة" خاصّة لشعبه. فالأسد الابن قد صرّح مؤخراً لأحد الصحافيين قائلاً: "أعيش حياةً عادية، لذلك لديّ شعبيّة" [3].

سواء صدام حسين أو الأسد، الرئيس يضع نفسه فوق الانتقاد، وكلّ قرارٍ سيّء يتحمّل تبعاته شخصٌ آخر. وكي تسوء أمورهم أكثر، يعيش هؤلاء الاستبداديّون في غربةٍ متزايدة عن الوقائع بسبب التملّق الإعلامي والمدائح المستمرّة من زملائهم ومرؤسيهم. هكذا قال الرئيس الأسد في مقابلة مع التلفزيون الأميركي: "أنا سعيت جاهداً لحماية شعبي، وبالتالي لا أشعر أني مذنب... وفي الحقيقة لا يشعر المرء بالمسؤولية عندما لا يقتل شعبه" [4].

تسجيلٍ مذهل

أمّنت هذه الأنظمة التسلّطية استمراريّتها في العراق وسوريا وليبيا من خلال نشر الخوف. هكذا يبرّر صدّام حسين اللجوء إلى العنف خلال اجتماعٍ مع موظّفين كبار في 1987؛ فهو يوضّح أمام مديره للأمن العام: "نحن هنا لخدمة المواطنين، وليس لقتلهم. لكن من يجب القضاء عليه، يجب القضاء عليه. وسنقطع رؤوساً لخدمة 15 مليون (عراقيّ)" [5]. لكن يبدو أنّ الخوف في سوريا يتراجع مع ارتفاع وتيرة القمع الوحشي: "الرصاص قتل الخوف" [6].

يؤدّي إلغاء أيّة معارضة إلى تشويه دائم للحقائق. إذ يمتنع القادة العسكريون ومسؤولو الاستخبارات عن الإبلاغ عن أيّ خبر قد يزعج الرئيس. وفي تسجيلٍ مثيرٍ للدهشة، خلال اجتماعٍ عقد عام 1992 لتقييم عملية غزو الكويت في آب/أغسطس 1990 وانتفاضة ربيع 1991 [7]، يبلغه صهره حسين كامل الذي كان أحد أقرب مساعديه في حينها: "أنّ الحقيقة هي أن الغالبية (من العسكريين) فرّوا باستثناء إثنين أو ثلاثة"،

فيجيب الرئيس: "الناس الشرفاء يظهرون على حقيقتهم في هذه الظروف"،

فيقول كامل: "لم نخبرك بالوضع الحقيقي لعدّة أسباب كالخوف أو لتفادي أن يستنتج أحدهم بأنّنا سنخسر المعركة (...). كانت المعنويات سيّئة للغاية، لكن عندما حضر القادة العسكريّون ليتحدثوا معك، لم يكن بوسعنا إبلاغك بحقيقة الوضع" [8].

هكذا في 1991 و2011 شكّلت الانتفاضات مفاجأةً لكلّ من صدام حسين وبشار الأسد. وفي الحالتين، لم يلعب محيط الرئيس دوره في التحذير. وفي الحالتين أيضاً، كانت النواة الأساسيّة مكوّنة من أعضاء العائلة والعشيرة: أشقاء، أبناء عمّ مباشرين أو من الدرجة الثانية تزاوجوا مع عائلة الرئيس. يسمح ذلك، من جهة، بتشكيل مجموعةٍ متجانسة متضامنة حول نفس المصالح، تدرك بأنّ الإطاحة بالرئيس تعني القضاء عليها. من ناحية أخرى، تحول هذه التركبية دون أيّ نقاشٍ صريحٍ ومفتوح.

في العراق، صار صدّام حسين مع مرور الزمن يتخذ غالبية القرارات من دون استشارة أحد. فلم تجرٍ أيّة مناقشة تحضيراً لاجتياح الكويت عام 1990، بينما سبق الهجوم على إيران في ايلول/سبتمبر 1980، العديد من المشاورات السياسية والعسكرية.

يمكن تفسير استمرارية هذا النظام عبر الإصرار على القضاء على أيّة معارضة، عسكريّة كانت أم مدنيّة؛ واللجوء إلى العنف وبثّ الخوف للسيطرة على الشعب؛ وإقامة نظام من المكافآت والعقوبات؛ وتجنيد عددٍ كبير من المناصرين ولو أن قسماً كبيراً منهم يبقون من غير الناشطين؛ والقدرة على استخدام مهارات وإبداع العراقيين المتعلّمين لإعادة بناء البلاد (بعيد 1988 كما بعيد 1991)؛ وأخيراً هناك تبصّر صدّام وقدرته على تفشيل مناورات أعدائه وخصومه. حتّى أنه لم يسمح أبداً لولدَيه، عديّ وقصيّ، أن يبلغوا من النفوذ ما يمكّنهما من منافسته.

واجه صدّام حسين الصراعات الداخلية والهزائم ببرودةٍ تامة؛ تعود أسبابها إلى قوّة شخصيته وإلى حاله الهذيانية. فهو اقتنع مثلاً، وأقنع شعبه، أنّه سيربح الحرب ضد إيران، بالرغم من الخسائر المادية والبشرية الضخمة. ومن جهته أعلن الأسد أنّ الأزمة الراهنة لا تمنعه من النوم: "أنّا بطبعي هادئ... ولا أتعامل بانفعال مع الأزمات. أعالجها بهدوء، وهذا ما يجعلني أكثر إنتاجية وقدرةً على إيجاد الحلول" [9].

كان صدّام حسين يسيطر على مراكز القرار الرئيسية. ولم يكن لديه منافسٌ جديّ، ولم يملك أيّ كان ما يكفي من النفوذ كي يتحدّاه. عندما تبوّأ الرئاسة عام 1979 (وكان نائباً للرئيس منذ العام 1968)، أشار إلى أن مسؤولية الوزير هي "تلقّي تعليمات مجلس قيادة الثورة، ومتابعتها مع المراتب الدنيا (في وزارته)، وصولاً إلى تنفيذها ضمن المهل المحدّدة" [10]. في سوريا أيضاً، البيروقراطية الوزارية هي بمثابة "مؤسّسة ثانوية" [11].

من ناحية أخرى، تعود قوة صدّام حسين وديمومته إلى قدرته على التأقلم السريع مع الأوضاع المستجدّة. إذ كان مرناً، وعندما يشعر أنّه أخطأ التقدير، يغيّر التوجّه دون الإقرار أبداً بأنّه ارتكب خطأً في التقييم. هكذا عدّل جذريّاً سياساته تجاه العشائريّة، وتجاه الدين، وحول أوضاع المرأة [12]. بيد أنّ هذه الهيمنة المطلقة تخلق آليّات ناقصة تؤدّي إلى أغلاطٍ خطيرة. فالرئيس العراقي لم يتوقّع حجم ردود الفعل على اجتياحه الكويت عام 1990، ولم يأخذ على محمل الجدّ تصميم الإدارة الأميركية على اجتياح العراق عام 2003.

في سوريا، ورث بشار الأسد إدارة البلاد، خلافاً لوالده أو لصدام حسين الذين اضطرّا لبناء قاعدةٍ سياسية صلبة لحكمهما. فبشّار مرتهن إذاً لعائلته، وخصوصاً لشقيقه ماهر، قائد الحرس الجمهوري. وهو يواجه أوّل تحدٍّ داخلي جدّي له، وسوف تبيّن الأيام إن كانت الحلقة العائلية قادرة على اجتراح الحلول لهذه الأزمة، أو أنّها ستتفكّك تحت وطأة الضغوط الضخمة الداخلية والخارجية.

بالنسبة لهذين الرئيسين، إنّ الامتحان الذي كان وسيكون حاسماً هو الولاء داخل القيادة. فبينما تكاثر الفرار من الجيش في ربيع 1991، لم يتعرّض النظام العراقي لأيّ تهديدٍ حقيقيّ. وقد حلّ البعث المشكلة على طريقته المعتادة: عبر مكافأة من يرشدون إلى الفارّين من الجيش، وعبر معاقبة من يساعدهم. هكذا لم يكتفِ مجلس قيادة الثورة بالأمر بقطع آذان الهاربين، بل أيضاً من آواهم.

وقد فسّر صدام حسين الأمر أمام أعضاء حكومته: "حاولت مراراً ردع القيادة عن هذه التدابير (قطع الأذن واليدّ)، لأنّني أعرف أننا سنقضي على خمس أو ستة آلاف شخصٍ في هذه العملية. لكنّي في النهاية وافقت..." [13]. ومن المبكر اليوم أن نقول إذا ما كان الفرار من الجيش سوف يزعزع المجموعة الحاكمة في سوريا وسوف يؤدّي إلى انشقاقات كبرى، لكنّ التجربة تُظهر بأنّ هذه الأنظمة ترتكز في حربها ضدّ المعارضة على عددٍ صغير من الأنصار بين الجنود ورجال الأمن.

إنكار الواقع

أمام المشاكل، لطالما لجأ صدّام أو الأسد إلى حلولٍ مؤقتة؛ ما يمنحهم هامشاً للمناورة. يتصرّفون وهم مقتنعون بقوّة أنّهم على حقّ، وأنّ الزمن سيلعب لصالحهم. هكذا طوال الثمانينات، خلال الحرب العراقية-الإيرانية، رفض الرئيس العراقي الإقرار بأنّ نظام آية الله الخميني لم يكن على شفير الانهيار، فتمسّك بفكرته القائلة بأنّه من السهل ضرب إيران. لكن عند نهاية الحرب، علّق قائلاً: "حسناً فعلنا بأنّنا أمرنا الشعب العراقي بالاحتفال (بالنصر)؛ فالشعب العراقي بحاجة لمن يقول له ما عليه فعله" [14].

في التسعينات، وفيما فرضت الأمم المتحدة عقوبات صارمة، ضاعف من إرسال الإشارات باتجاه المنظمة العالمية، لكنّه رفض برنامج "النفط مقابل الغذاء" [15] طوال سنوات، لاقتناعه بأنّه قادر على الحصول على اتفاقٍ أفضل، قبل أن يستسلم في النهاية، بعد أن دفع الشعب العراقي غالياً ثمن هذا "العمى". كذلك تأتي التعديلات التي يقترحها الأسد على مشاريع جامعة الدول العربية لإنهاء العنف في سوريا كمحاولات للتسويف ولتأجيل الحلول الحقيقيّة.

بيد أنّ هناك فروقات بين النظامَين. فصدّام كان قد أقام نظاماً للاستقطاب، وأوجد شبكةً واسعة من المكافآت والعقوبات سمحت للنظام بالاستمرار طوال 35 عاماً بالرغم من الحروب والانتفاضات والعقوبات الصارمة. كما نجح في خلق قاعدةٍ بقيت موالية له، وما كان للنظام أن يسقط لولا التدخّل الأميركي عام 2003.

في المقابل لا يتمتّع الأسد بالتجذّر العميق ذاته عسكرياً وسياسياً. كما أنّ العراق بلدٌ غنيّ بالنفط، وكان من شأن العقوبات أن عزّزت سيطرة النظام على عالم الأعمال من خلال مركزة النشاطات الاقتصادية في يد الحكومة. أمّا الاقتصاد السوري فهو أكثر انفتاحاً على العالم، ويعرّض انهياره للخطر الدعائم الاقتصادية لنظام الأسد. وقراره مطلع تشرين الأول/أكتوبر العودة عن قرار بمنع استيراد المواد الاستهلاكية، بعد أسبوعٍ واحدٍ فقط عن صدوره، هو خير دليل على تأثير رجال الأعمال. كما أنّ هجرة الأموال السورية إلى الخارج، وخاصّة إلى لبنان ليس دليل خير على النظام.

تبقى المسألة المطروحة هي معرفة هل سيتمكّن الأسد من إنقاذ سلطته؟ أم أنّه سيستمر في المراوغة مع الوقائع ليدرك متأخّراً، على غرار صدام حسين، كم كانت حساباته خاطئة.

* أستاذ في جامعة جورجتاون، واشنطن، منتدب حالياً إلى معهد All Souls، أوكسفورد. أصدر مؤخراًSaddam Hussein s Ba th Party : Inside an Authoritarian Regime, Cambridge University Press, 2012.

Monde diplomatique

[1] تأسّس في العام 1943 في سوريا على يد مجموعةٍ صغيرة من المثقّفين بقيادة ميشال عفلق، المسيحيّ، وصلاح البيطار، المسلم السنيّ؛ واسمه، البعث، يعني القيامة، وكان يطرح نفسه كحزبٍ عروبيّ وليس سوريّاً ويطمح للوحدة العربية المنشودة. ملاحظة النشرة العربيّة: في الحقيقة، استلمّ حزب البعث السلطة في سوريا في 1963، مع خلافات بين قياداته؛ لكنّ السلطيّة أصبحت مشخصنة في حافظ الأسد في 1970.

[2] مقابلة مع لواءٍ شارك في هذا الاجتماع، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1995.

[3] The Sunday Telegraph, 30/10/2011.

[4] مقابلة بشّار الأسد مع الصحافية الأميركية برباره والترز، محطة "آي بي سي"، 6/12/2011.

[5] Enregistrement de mai 1987, Conflict Records Research Center (CRRC), SH-SHTP-A-000-958 [quote des documents dans les archives].

[6] آلان غريش: "أيام عصيبة في سوريا"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آب/أغسطس 2011، http://www.mondiploar.com/article35...

[7] قامت انتفاضة ضد النظام، لا سيما في المناطق الشيعية والكردية، عقب الهزيمة العراقية في الكويت.

[8] فرّ حسين كامل من العراق في صيف العام 1995، ليعود لاحقاً وتتمّ تصفيته من قبل أقارب له.

[9] The Sunday Times, 20/11/2011.

[10] Saddam Hussein in a discussion with the Cabinet, July 31, 1979, in Al-Mukhtarat, vol. 7, p. 54. المختارات هي مجموعة من 10 أجزاء من الخطابات والمقابلات لصدام حسين؛ دار الشؤون الثقافية العامّة، بغداد، 1988.

[11] Raymond Hinnebusch, Authoritarian Power and State Formation in Ba thist Syria : Revolution from Above, Westview Press, Boulder (Etats-Unis), 1990, p. 190.

[12] بعد محاربته العشائرية من دون هوادة في مطلع حكمه، وبعد أن عمل على تهميش الدين والسعي لحقوق المرأة، تراجع عن جميع هذه المكتسبات خصوصاً خلال حربه على إيران.

[13] كانوا يقطعون أذنَي الهارب من الجيش وأيدي الأطباء الذين يجرون العمليات التجميلية وكان البعض يموتون لأن هذه العمليات جميعها تجري دون عناية طبية حقيقية.

[14] Enregistrement de la réunion du cabinet, août 1988, CRRC, SH-SHTP-A-000-816.

[15] برنامج الأمم المتحدة للسماح للعراق الخاضع لعقوبات دولية بعد اجتياح الكويت عام 1990 تصدير جزء من نفطه لشراء الغذاء والدواء والمواد الأساسية. ولن يوقّع العراق على هذا الاتفاق إلاّ في أيار/مايو 1996.