إلا أن المطران كبوجي، مطران القدس في المنفى، أسموه في فلسطين سماحة المطران ليكون واضحٌ لدى الكل أنه ليس لفئة معينة دون أخرى، كما سبق أن اعتدنا تقسيم الناس إلى فئات ومذاهب وملل ونحل.
أعرف وطنيته، ولا أظن أن أحداً يستطيع الكلام بغير ذلك، ولكني أرى من الواجب أن أكتب بعض التفاصيل والخصوصيات الصغيرة عنه، ليطلع الكثيرون ويعرفون كيف يفكرالمطران كبوجي وكيف يتغلب على منفاه (وهو يصر على استخدم كلمة منفى)
في إحدى المرات، عندما كان يستعد للعودة إلى روما، حيث مقره الإجباري، قال لي: " ياولدي إنني الآن وأنا اغادر حلب أحزن كالطفل الصغير عندما يكون في فترة الفرصة بالمدرسة، يلعب مع أترابه فيُقرع الجرس للدخول إلى الصف منهياً هذه الفترة القصيرة. هكذا لا تعتقد أن الطفل ليس في داخلي"
وفي مرة أخرى وقبل ليلة واحدة من سفره قال لي: " أعلموني أنه يوجد فرن يصنع الخبز الجيد، وهو ليس من الخبز الذي اعتدتم على تسميته بالسياحي، وأريد خمس ربطات من هذا الخبز" في البدء اعتقدته يبالغ بالعدد فالوزن الإجمالي هو نحو عشرة كيلوغرامات، وهو يشكل وزنا على المسافر بالطائرة، وقلتُ في نفسي إنه لوحده سيستغني عن نقل هذا الوزن عندما سيقوم بتجهيز أمتعة للسفر وقمت بتأمين المطلوب، ونقل الخبز إلى مكان إقامته، وعندما دخلت عليه وأوضحت له ماجال في خاطري، فقال لي : " في الغربة عندما يقتلني الحنين الى سورية، أضع طاولة طعام، يكون فيها الخبز من بلدي، إضافة إلى الجبنة والزعتر، وألبس دشداشة عربية ومشلحاً، وأحيانا أقوم بتقسيم قرص واحد من اللحم بعجين إلى قسمين لكي أحافظ على تمويني من بلدي، إنني هكذا أحتال على غربتي ومنفاي، وبهذه الطريقة أشم رائحة الوطن من خلال هذه الطاولة الصغيرة، وعندما آتى إلي سورية وأقابل الأحبة، يساعدني ذلك في التغلب على منفاي" فأكدتُ له أننا في حلب على استعداد لكل طلب يطلبه، لأن له الكثير من الخدمات التي قدمها لهذا الوطن.
شخص كهذا يتنفس الوطن شهيقا وزفيرا، ويتابع كل القرارات وكل المؤتمرات المتعلقة بهذا الوطن والقضية الفلسطينية، ويُحلل ويُناقش ويُندد ويَعقد المؤتمرات ويشارك فيها.
شخص كهذا لن تنسيه ألف إسرائيل وطنه وهموم وطنه، ولن تجعله عاجزا عن تحديد الأقنية لإيصال المساعدات الى فلسطين، ولا إيجاد الأصدقاء الذين يساعدونه على ذلك، وإن سنوات السجن منحته تصميما ما بعده تصميم على مقاومة الظلم الذي يقع في فلسطين. وهذا التصميم ازداد مع مرور الزمن.
في مأدبة للإفطار أقامتها الطوائف المسيحية في رمضان بحلب خلال وجوده آنذاك، تحدث على مائدة الإفطار مع سماحة مفتي حلب آنذاك الشيخ أحمد حسون حول منبر المسجد الأقصى الذي جلبه صلاح الدين الأبوبي معه من حلب، وما كان من سماحة المفتي في كلمته خلال المأدبة إلا ان توجه إليه قائلا: إنه لابد ان يأتي اليوم الذي نجعلك تحمل منبر الأقصى لتعود به إلى القدس.
أما قلت لكم إنه سماحة المطران كبوجي .
بالتزامن مع(عالم بلا حدود)