أنسي الحاج
لا ينتهي الطاغية. المجتمع الذي يُنبت طغاة، ابتداءً من العائلة وصولاً إلى السلطة، سيبقى في حالة استعداد لإنتاج طغاة مهما ثار عليهم. انتهى عصر الفراعنة قبل آلاف السنين وما زال فرعون يراود المصريّين عن أنفسهم. هارون الرشيد وبغداد. معاوية ودمشق. زعيم القبيلة في الجزيرة. زعيمها في بلدان المغرب. لويس الرابع عشر في فرنسا. نابوليون في فرنسا. ديغول في فرنسا. فرنسا جمهوريّة تحنّ إلى ملك تحنّ إلى قتله. هتلر انتحر لأنّ ألمانيا تقدر أن تنتحر: القادرون على الانبعاث ينتحرون. ستالين قتل الجميع قبل أن يموت حتّى يطمئنّ إلى عدم خلافته ويموت. ولم يمت ستالين في بوتين ولا في مَن قبله ومَن قبلهم، ولن يموت في مَن بعده ومَن بعدهم.
يكبر الطفل ولا تكبر الشعوب. تنقرض ولا تكبر. الشعوب كالعصافير إمّا تطير وإمّا تختفي. تصنع الشعوب أصنامها كما يصنع البدوي خيمته، وتصطنع من الزاهد طامعاً ومن النعجة ذئباً وترعى اللين حتّى يَخْشن والخشونة حتّى تتحطّب والحطب حتّى يصبح عصا والعصا حتّى تنضرب الشعوب بها. وإلّا فكسراً تَكسر الشعوبُ العصا.
يربّي الشعب طاغيته على الدلال حتّى يشتدّ ساعده فإنْ لم يرمِ شعبَه رماه شعبُه. ميزانُ القوى لعبةٌ فرديّة وكونيّة: الحياة _ الموت، الحبّ _ الكره، الانجذاب _ النفور، الإيمان _ الإلحاد، الاقتراب _ الابتعاد، القبول _ الرفض، إلخ. ليس هناك مكان بلا هذه اللعبة.
يقال إنّ دول الشمال الأوروبي بلغت من الرقيّ ما يعفيها من هذه الرقصة، نقصد على صعيد السلطة. هل تصدّق؟ لو زالت اللعبة لزالت معها الحياة. تضعف أو تغيب مظاهر الدكتاتوريّة تبعاً لدورات التاريخ وتَنقّل مراكز القوّة، لكن جذوة التسلُّط كامنة كالخلد تحت الهدوء. مُقدِّرُ المقادير هذا شرطُه: من الليل يخرج صباح. قد تختفي معالم التناوب والتضادّ كما يختفي الصوت بعد الصراخ، لكن الحنجرة هنا وستنجلي بعد راحة.
الحقّ على الطاغية إنْ لم يُحْسن الطغيان. الحقّ على بونابرت إنْ لم يصبح نابوليون. لكنّه أصبح وصار الحقّ على الشعب أنّه ظَلَّ يرضى بأن يسوقه الإمبراطور إلى الذبح على عربات المجد. في الشعب رغبةٌ جامحة بأن يستظلّ حكم طاغيةٍ ليثور عليه، وإلّا تَخَنَّث. يدا الشعب بحاجة إلى مقاومة الأب كما هي الفراشة بحاجة إلى الشرنقة لتخلعها عنها وتطير. القيد بحاجة إلى اليد، واليد بحاجة إلى قيد تصارعه، والقيد بحاجة إلى كاسر.
اللعبة تحكمنا. لا تستقيم الأمور بغير هذه المسرحيّة. لا الشعب طيّب دائماً ولا الطاغية مفروض على الشعب بالقوّة دائماً. هذا هو الجزء الميلودرامي من المسرحيّة. يصدف أن يكون شعبٌ أكثر طيبة من غيره، فتغدو طيبته مطيّةً سائغة وحريراً يلفّ به الطاغية عنق الطيّبين، فيبدأ بهم الخَدَر، ثم يحملهم تغيير الجوّ على السهو عن ذاتهم، ثم يأخذ الرباط يشتدّ خلسة، وذات صباح يبدأ النيام في ملازمة السرير، فملازمة الاسترخاء، ثم في الانتعاش بجرعةِ لهوٍ هنا وبَلْعَة رشوةٍ هناك، وفي طريق الانحدار يتّضح لهؤلاء المساكين أنّ موتهم دخل أجسامهم مذ دخلت الراحة والبحبوحة. الراحة والبحبوحة من الحقوق الطبيعيّة لا يجوز أن تصبح جزرة في مقابل العصا. لا يجوز أن تتحوّل إلى رشوة. لا يُرشى المرء بالهواء. كذلك لا يُرشى بالحريّة. الحريّة هي الحياة. المعطى _ افتراضاً _ كلّ شيء، في السعوديّة مثلاً، لم يُعطَ شيئاً ما لم يتمتّع بالحريّة. الشعب المعطى كلّ شيء في بلدان اسكندينافيا تصل عنده نسبة الانتحار إلى أرقام قياسيّة. لا لأنّه لم «يُعطَ» حقوقه بل لأنّه ضجر من فراغ المُعطى. هناك ما لا تؤمّنه البحبوحة الماديّة ولا التعبير الحرّ ولا الضمانات: هناك فسحات يحتاجها الإنسان ما وراء قامته، ما بعد مرئيّاته، خلف ظهره وخَلْف صدره وخَلْف المقروءات والأهداف. الحريّات السياسيّة والاجتماعيّة أضعف الإيمان، لا يُمنَّنُ بها أبداً، فهي مجرّد بداية، الباقي أعظم وأسهل وأصعب.
رغم المآسي الفظيعة، ما أبسط معاركنا نحن السوريّين، نحن المصريّين والعراقيّين والليبيّين واليمنيّين والتونسيّين، نحن السنّة والشيعة والدروز والمسيحيّين، ما أبسط معاركنا من أجل حريّاتنا السياسيّة والاجتماعيّة والاعتقاديّة حيال ما ينتظرنا بعد الحصول عليها ... حيال مواجهتنا الحياة عراة من ذرائعنا البدائيّة، وقد أضحى جبيننا «الحرّ» وجهاً لوجه أمام جبين الوجود الغامض، المجهول، المُضيّع، البارد، الصامت، الفاتح لك الطريق، الفاتح الطريق، الطريق ... ولكنْ إلى أين!؟
(الأخبار)