آخر الأخبار

سايكس - بيكو رقم 2

كان الأكراد من الخاسرين الرئيسيين بين أكبر المجموعات العرقية في الشرق الأوسط خلال التسوية الكبرى التي اعقبت الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية العثمانية. وكان الأكراد قد تلقوا وعداً بأن تكون لهم دولة خاصة بهم. ولكن، وبسبب تمرد اتاتورك الوطني وتخلي القوى الغربية عن المشروع انتهى الأمر بالأكراد إلى أن يصبحوا أقليات تخضع لقمع قاس في الدول الأربع التي تم توزيع مقاطعاتهم بينها وهي ايران والعراق وتركيا وسوريا.

ومن المنتظر أن يصبح الأكراد أكثر المستفيدين من أي نظام جديد ينشأ عن التدخل الغربي الحالي في شؤون المنطقة، ولم يصل التدخل الحالي إلى حجم التدخل السابق حيث اقتصر - في شكله المتطرف على الأقل - على العراق، ولكنه، وعلى أساس تبعاته المتشعبة - وغير المخطط لها - يمكن ان يكون في طريقه ليبلغ حجم التدخل السابق. وعموماً، فإن مهندسيه الأساسيين - وهم صقور ادارة بوش المحافظون الجدد والمؤيدون ل إسرائيل بأفكارهم الحمقاء من قبيل الفوضى المبدعة و تغيير الأنظمة في كل مكان - رأوا في العراق على الدوام نقطة الانطلاق لمشروع ينبغي له لكي ينجح إما أن تنتظم المنطقة برمتها، أو لا يقوم مطلقاً، وفي هذا الصدد يلتقي مهندسو المشروع الأمريكي مع سكان الشرق الأوسط أنفسهم الذين يرون بداهة ان ما يحدث في العراق يؤثر تأثيراً عميقاً في الآخرين كافة.

وفي جميع مراحل الدراما العراقية أطال المثقفون والسياسيون العرب التفكير في هذه الآثار الأوسع نطاقاً، ويفعلون الشيء ذاته الآن مع الدستور العراقي الجديد. ويمثل الدستور العراقي آخر هذه الآثار وربما أكثرها إنذاراً بالسوء حيث ينطوي تحت عنوان الفيدرالية العام مفهوم جديد كامل للدولة والهوية.

وبالنسبة لاتفاقية سايكس - بيكو، وهي التفاهم الانجلوفرنسي السري عام ،1916 والذي شكّل على نحو أساسي تسوية ما بعد الحرب، فقد رسمت حدوداً اعتباطية على الطريقة الاستعمارية عبر صلات عرقية أو طائفية أو قبلية أو تجارية قائمة مسبقاً، وتحدت بدرجة كبيرة القومية العربية الناشئة لا سيما وسط السنّة والتطلع إلى الوحدة الذي ظهر مع التحرر من الحكم العثماني، وبعد ثمانين عاماً، ينذر العراق الآن بإنقسامات اخرى تكمّل الانقسامات القديمة أو تمحوها تماماً.

وفي هذا الدستور، لا يحصل اكراد العراق على الدولة المستقلة التي يريدها 98% منهم وفقاً للاستغناء الأخير، ولكنهم يحصلون على مكاسب تتمثل في صلاحيات تشريعية واسعة والسيطرة على مليشياتهم، وسلطة على الاكتشافات النفطية الجديدة، وهي مكاسب تكرّس فعلياً شبه الاستقلال الذي تمتعوا به منذ التدخل الانساني الغربي لمصلحتهم في حرب الخليج ،1991 وهو التدخل الذي يرونه بمثابة محطة بإتجاه تحقيق الاستقلال الحقيقي، ويتعين ان تكون الجمهورية العراقية مستقلة وذات سيادة وفيدرالية وديمقراطية وبرلمانية وأما كونها عربية فهو ما لم يتم ذكره في الدستور صراحة وعمداً، وطبقاً للرئيس العراقي الكردي جلال طالباني، فإن اطلاق صفة عربية على العراق يعني نفي حق مواطنيه الأكراد في التطلع لعضوية دولة كردية كبرى، كما يتطلع عرب العراق لدولة عربية كبرى.

ولكن الأمر الذي يسبب للعرب السنة في كل مكان صدمة وربما حزنا تفوق هذا الفصل العنصري هو الفصل الطائفي الجديد بين العرب وللمرة الأولى منذ قرون حقق الشيعة هيمنة سياسية في دولة عربية واحدة ذات اهمية محورية ولم يحقق الشيعة تلك السيطرة فقط، بل انهم يفعلون ذلك شأنهم في ذلك شأن الأكراد في سياق حكم ذاتي مفروض دستورياً، وهو حكم ذاتي سيضم إذا كان قادة الشيعة من أمثال عبدالعزيز الحكيم يقصدون ما يقولون وسط وجنوب العراق واكثر من نصف سكان العراق علاوة على احتياطيات النفط الهائلة، وطريق الوصول إلى البحر، أي جل الثروات الطبيعية العراقية.

ولا ينظر العالم العربي إلى تبني صيغة فيدرالية كعلاج للطبع الشقاقي العراقي المتأصل، وإنما - وفي ظروف تصاعد التوترات والعنف بين الطوائف - كحافز آخر لذلك الطبع، وقد أبلغ سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي المخضرم والصوت المعبر عن المؤسسة العربية السنية الأمريكيين مؤخراً أن ذلك جزء من القوة المحركة التي تدفع فئات الشعب العراقي بعيداً عن بعضها بعضا وإذا سمحتم بحدوث هذا - أي نشوب حرب أهلية بين الشيعة والسنة - فإن العراق سينتهي إلى الأبد وستتمزق أوصاله .

وما يجعل هذا الأمر اكثر إثارة للقلق هو ان الشيعة العراقيين - خلافاً للاكراد - يتمتعون بالدعم القوي من دولة جارة قوية للغاية أياً كان تضارب شعورهم تجاه ذلك الدعم.

وفي ظل القيادة الايرانية الجديدة، التي تشبه حركة احياء خمينية، تقوم ايران الآن بتجميع جميع المصادر الجيوبوليتيكية ذات الأساس الشيعي، من العراق إلى جنوب لبنان، تحضيراً للمواجهة الكبرى التي ربما تقع بينها وبين الولايات المتحدة.

وقد حذر العرب منذ أمد بعيد من لبننة العراق لإدراكهم التلقائي لحقيقة ان كل دولة ينشئها الغرب تقريباً في العالم العربي الشرقي تحتوي - ضمن تغييرات اساسية متعددة - على التوترات العرقية أو الطائفية الكامنة التي انتجت النموذج الأصلي للحرب الأهلية العربية. ولكن، وفي حين تمكن العرب في خاتمة المطاف - بالاتفاق مع الولايات المتحدة - من اطفاء الحريق اللبناني قبل ان يمتد إلى دولهم، فإن احتمالات تحقيقهم انجاز مماثل مع عراق في حالة خصام عنيف مع نفسه، ستكون ضعيفة حقاً. وقد ظل النظام السائد بين الدول العربية ومؤسسته الرئيسية - الجامعة العربية - عاجزاً منذ مدة طويلة عن القيام بأي عمل منسق ضد ما يهدد التكامل الأساسي للأمة العربية، كالوضع الذي يعيشه العراق حالياً، ويتعرض النظام الآن لتهديد مطرد من قبل نمو نشاطات لا تقوم بها الدول وتشمل - على العكس من نشاطاتها - الأمة والحركة عبر الحدود في ايديولوجيا اسلامية متطرفة، مع وجود الجهاديين والمفجرين الانتحاريين الذين يتصرفون وفقاً لها، أو مشاعر التضامن العرقي والطائفي من النوع الذي يهدد بتمزيق أوصال العراق.

وأما سوريا، التي كانت في وقت من الأوقات العقدة المثيرة للنزاع بالنسبة للتقسيم الذي مارسه سايكس - بيكو، فإنها تحتل المقدمة وحدها بين الدول العربية للإصابة بالعدوى العراقية في بعديها الكردي والشيعي على حد سواء. وبسبب الضعف الذي أصاب الحكم البعثي العراقي وتسبب فيه النظام بنفسه في عام ،1991 كان الاكراد العراقيون هم الذين حققوا أول تقدم كبير ومعاصر في نضال الأمة الكردية من أجل تقرير المصير. ويشعر اكراد سوريا الآن بضعف مماثل في النظام البعثي السوري الذي يعاني من متاعب جمة، وفي حال انهيار النظام السوري وسط فوضى عامة، سيطالب كثيرون بالانفصال والاندماج مع إخوانهم في شمال العراق.