آخر الأخبار

سوريا وحطام المراكب المتعثرة(الأخيرة)

حرضت صلاح البيطار علي ترك الحزب.. وفي بيروت لم أقترب من العمل الفلسطيني وصرت من رواد المقاهي
رفضنا التحاور مع أمين الحافظ ولم نقبل التفاهم مع القيادة القومية وموسي الصدر توسط لنا عند حافظ الأسد
صقر ابو فخر
في خضم الاضطراب العميم الذي شهدته سورية، ولا سيما بعد استقلالها في سنة 1943، كان نبيل الشويري شاهداً علي بعض جوانب هذا الاضطراب. فهو، منذ يفاعته الأولي، عرف ميشال عفلق كسـاحر وقديس معاً. وتدرج في مدارج السياسة وفي معارج الفكر السياسي علي يديه، وتفتح وعيه علي القومية العربية شبه العلمانية التي صاغها عفلق، ثم تمرد عليه وأسقط هالة القداسة عنه، وانحاز إلي أكرم الحوراني، ثم لم يلبث أن انخرط في التآمر السياسي والانقلابات العسكرية مع سليم حاطوم وبدر جمعة، وحُكم بالإعدام. وقادته مصائره اللاحقة في المنفي البيروتي، والباريسي، إلي إدارة الظهر للسياسة كلها، ثم راح، بهدوء، يعيد النظر في تجربته الشخصية، وأسلم عقله لحقبة من التفكير النقدي الهاديء. ولعل نبيل الشويري كان شبه مرآة عكست البعث نفسه وتجربته العاتية في الاضطراب السياسي والبلبلة الفكرية والتآمر وانقلاب الأحوال والأخطاء القاتلة، فضلاً عن النزوع الرومانسي إلي صوغ مشروع مستقبلي لدولة قوية موهومة.
لم يكن لنبيل الشويري أي شأن مباشر في سلطة البعث التي انبثقت في 8 آذار 1963، ولم يشارك في صنع الأحداث العاصفة التي شهدتها سورية منذ ذلك التاريخ فصاعداً، ولم يكن له أي دور في المصائر التي انتهي إليها البعث بشظاياه الكثيرة، إنما كان شاهداً راصداً لتجربة البعث في سورية، وكان، إلي ذلك، مناضلاً في ذلك الحزب إبان صعوده، ثم راقب بحسرة انحداره وتطايره في جميع الاتجاهات. وهذا الحوار هو خلاصة هذه التجربة. ومهما يكن الأمر، فإن أهمية هذا الحـوار لا تكمن في أنه يؤرخ لحقبة من التاريخ المعاصر لسورية، بل في محاولة إعادة قراءة الأحداث في ضوء التجربة الشخصية.

كانت حرب الخامس من حزيران (يونيو) 1967 كارثة مروعة، لا علي الشعوب العربية وحدها، بل علي النظم العربية أيضاً. فإذا كان ميشيل عفلق يتحمل بعض المسؤولية عن الأوضاع السورية بعد 8 آذار (مارس) 1963، ألا يتحمل أكـرم الحوراني مسؤولية أكبر عندما شجع الجيش علي الخروج من ثكناته؟ وحتي لو كان أكرم الحوراني يستخدم الجيش لمصلحة الحكم المدني، بحسب رأيك، فإن هذا الاستخدام كان، في نهاية المطاف، تدريباً لهذا الجيش علي الخـروج من الثكنات والتدخل في السياسة. أليست هذه الأمور كلها وغيرها مسؤولة عن هزيمة حزيران (يونيو) 1967؟
أول مَن استخدم الجيش في سورية بعد الاستقلال كان وزير الدفاع يومذاك أحمد الشراباتي ومعه رئيس الجمهورية شكري القوتلي، وقاما بتزوير الانتخابات النيابية في سنة 1947 مستعملين العسكريين الذين ألبسـوهم لباس الدرك، وتدخلوا في فرز الأصوات في صناديق الاقتراع. ومنذ ذلك الزمن وهناك مَن يخطط لقطع رأس الجيش السوري ـ كجيش محارب ـ وتحويله إلي مهمات الأمن الداخلي. ففي حرب 1948 أرسلوا الجيش السوري إلي فلسطين عند مضيق الحمّة وطبرية الشديد الخطورة. ولولا صمود ضباطه وبطولة جنوده والتحاق المقاتلين المسرّحين الذين كانوا في الجيش الفرنسي في شمال إفريقيا به لكان قضي علي هذا الجيش. وهؤلاء المقاتلون هم أنفسهم أبطال معركة بيرحكيم، وهي المعركة الوحيدة التي انتصر فيها شارل ديغول في الحرب العالمية الأولي. هؤلاء هم أبطـال بيرحكيم السوريون الذين عادوا ليقاتلوا، هذه المرة، عند مستعمرة مشمار هيردن، وسقط منهم الكثير من الشهداء. وعندما لم تتمكن السلطة من قمع التظاهرات بالشرطة، سلّموا أمر الجيش إلي حسني الزعيم الذي نشر الوحدات العسكرية في المـدن، وكانت تلك هي البداية في القضاء علي الحياة المدنية في سورية. ولهذا غادر جميل مردم سورية إلي الإسكندرية وانصرف عن السياسة ما إن نفذ حسني الزعيم انقلابه المشهور.
جميل مردم الذي هجاه عمر أبو ريشة بقصيدة مشهورة.
نعم. لكن جميل مردم كان أذكي رجل سياسي في سورية. كان شكري القوتلي يحكم بالاسم، أما الحاكم الفعلي فهو جميل مردم. أما أكرم الحوراني فهو من قماشة مختلفة، وتدخله في شؤون الجيش كان الهدف منه توعية الضباط بمخاطر الرجعية، وغايته منع استخدام الجيش ضد الناس. لم يكن يستخدم الجيش ضد الحكم، بل كان يقاتل، فكرياً وسياسياً، لحث الضباط الوطنيين، ولا سيما الذين يعتبرونه زعيماً مبجلاً، علي ألا يشتغلوا بالسياسـة كمحترفين، لأن دورهم الوحيد هو منع تحويل الجيش إلي أداة للتآمر.
لكن مصطفي حمدون وعبد الغني قنوت، وهما من الأنصار الخلص لأكرم الحوراني، ساهما في الانقلاب العسكري؟
الانقلاب الذي ظهر فيه اسم مصطفي حمدون ليس انقلاباً خالصاً بل عصياناً في مدينة حلب. وهذا العصيان تمكن من إعادة الحياة الدستورية إلي سورية.
انتهي هذا العصيان بعد سقوط الشيشكلي مباشرة؟
أكيد. وعاد الجيش إلي ثكناته. أما عبد الغني قنـوت فلم يقم بأي انقلاب، وبرز اسمه في عصيان قطنا. وهذا العصيان جاء رداً علي تدخل شكري القوتلي في شؤون الجيش وتبديل القيادات الأساسية فيه والإتيان بقيادات طيعة له. ليس أكرم الحوراني مسؤولاً عن تسييس الجيش بل شكري القوتلي وأديب الشيشكلي وأمثالهما. عصيان حلـب سببه قمع الجيش لجبل الدروز وللأحزاب في عهد أديب الشيشكلي. وكان لمحمد عمران الشأن الكبير في عصيان حلب. أما مصطفي حمدون فقد قامر برأسه وأعلن العصيان من إذاعة حلب، وكان برتبة نقيب، وأيده أمين الحـافظ الذي لم يكن بعثياً. لكن الجيش تجاوب مع هذه الحركة ووقف ضد الشيشكلي؛ لم يكن الجيش إلي جانب مصطفي حمـدون أو إلي جانب أكرم الحوراني إنما ضد الشيشكلي، وكانت الغاية العودة إلي الثكنات وإعادة الديمقراطية، وهذا ما كان يريده البعث في ذلك الزمان. إن الذي أفرغ الجيش من ضباطه المحترفين قبل هزيمة سنة 1967 سلسلة من الحوادث السياسـية راحت تكبر مثل كرة الثلـج. وتقول لي: أَليس البعثيون هم الذين سرحوا أعداداً متتالية من الضباط بعد حركة 8 آذار 1963؟ وأجيبك: إن هذا صحيح حقاً. فكل ضابط كانت لديه ميول سياسية يومذاك، ومَن لم يكن إلي جانب البعث سرحوه إما بذريعة أنه انفصالي أو بحجة انه ناصري . وفي 23 شباط (فبراير) 1966 سرِّح جميع من أيد أمين الحافظ والقيادة القومية أو من وقف إلي جانب سليم حاطوم. وهذه التصفيات تشبه ما فعله ستالين بالجيش الأحمر، وهذا ما يحصل دائماً حينما ينخـرط الجيش في السياسة. وهذا ما جري في مصر، ولكن بدرجة أقل، لأن عبد الناصر والضباط الأحرار ساروا بخطة أكثر حكمة واعتدالاً. لكن بعدما حلّ الأحزاب وأخرج بعض المدنيين من السياسة صارت مفاصل الدولة كلها بأيدي العسكريين.
عدت إلي لبنان متسللاً للمرة الثانية. في المرة الأولي اعتقلت وأُطلق سراحك. وفي المرة الثانية لم تعتقل، وعشت منفياً في بيروت. ماذا كنت تفعل في تلك الأثناء؟
في أواخر حزيران (يونيو) 1967 وصلنا إلي قرية حلوي وأقمنا فيها مكرّمين معزّزين. وجاء إلينا الأمير مجيد أرسلان ليسلّم علي منصور الأطرش. وأمضينا عدة أيام في تلك المنطقة إلي أن جهز لنا النائب سليم الداوود إقامات شرعية ثم انتقلنا إلي برمانا التي أمضينا فيها الصيف ريثما أمكن تجهيز منزل لنا في الروشة. وهذا المنزل تبرع لنا به حسن حلاوي وهو أحد أبناء جبل العرب الذين حازوا الجنسية اللبنانية، وكان يمتلك بناية كبيرة في منطقة الروشة أفرد منها الروف لمنصور الأطرش، لأنه من الذين يكنّون مكانة عالية جداً لسلطان الأطرش، ربما أدني من الله بإصبعين. وهو، في أي حال، رجل محترم جداً. وقد منح منصور الأطرش، فضلاً عن ذلك، شيكاً قيمته خمسـة آلاف ليرة لبنانية، وهو مبلغ مهم في ذلك الوقت. فسكنت أنا ومنصـور الأطرش في هذا البيت مجّاناً. لكن منصور الأطرش أعاد الشيك إلي صاحبه، ولـم يستخدمه لأن أهلنا بدأوا بإرسال القليل من النقـود لنعتاش بها. وبقيت أنا ومنصور الأطرش مقيمين في هذا المنزل أكثر من سنة، إلي أن جاءه خبر من حافظ الأسد يعرض عليه العودة إلي دمشق وكان بين الاثنين وسيط.
من حزيـران (يونيو) 1967 حتي ربيع 1969 ماذا فعلت في بيروت؟ ألم تمارس نشاطاً سياسياً؟ ألم تقم باتصالات من هذا القبيل؟
عرض علينا التحاور مع أمين الحافظ فلم نقبل. واقترح البعض إعادة التفاهم مع القيادة القومية فلم نقبل لا أنا ولا خالد الحكيم.
من أين كانت الأموال تصلك؟
كان أهلنا، أنا ومنصور الأطرش، يرسلون إلينا نفقاتنا. والمنزل قُدم إلينا مجاناً، وتصلنا بعض التبرعات من رفاقنا وأصدقائنا. وفي هذه الأثناء كنا نلتقي صلاح البيطار باستمرار، وكان يحاول أن يؤسس حركة سياسية جديدة.
أعلن صلاح البيطار استقالته من الحزب في 10/11/1967.
نعم. وأنا حرضته علي الاستقالة، لأنني اقتنعت أن لا أمل من هذا الحزب بجميع أجنحته. صلاح البيطار أعلن استقالته من الحزب يومذاك لأنه يريد أن يعمل وحده في السياسة، وفي الوقت نفسه يظن أن ثمة حركة تناصره. وهو، في العمق، لا يرغب في أي عمل جماعي حزبي. وهكذا أصبح منصور الأطرش بدوره. كلهم هكذا إلاّ واحد مثل أكرم الحوراني الذي صار ظاهرة تستند إلي الزعامة المدعومة من الناس، وإلي مجموعة متماسكة من الحزبيين، بحيث أصبح هو والحزب والقيـادة شيئاً واحداً لا تتعارض مصالح الجميع في هذا التكوين الجماعي. وهذا عكس ما كان يفعله ميشيل عفلق الذي لا يستنكف عن القيام بمناورات يطرد فيها القيـادة ويشكل قيادة جديدة حتي يبقي هو وحده الزعيم الأوحد.
للتذكير فقط؛ كان صلاح الدين البيطار في بيروت وقتذاك. أما أكرم الحوراني فأين كان؟
في بيروت أيضاً.
وميشيل عفلق؟
في البرازيل.
كانت بيروت في أوج نشاطها الفكري والثقافي.
بهرتني بيروت. عالم متقدم كثيراً علي العالم الذي كنت أعيش فيه. اكتشفت أهمية النهضة الثقافية والعلمية إلي جانب الحرية، ورأيت قيمة حرية الصحافة وحريـة الكتابة وحرية الرأي وحرية الفكر. أما الديمقراطية اللبنانية البرلمانية، فلا تؤاخذني إذا قلت لك انني لست مقتنعاً بها. هذه ليست ديمقراطية بل مجرد توازن قوي.
لكن هذا التوازن يتيح التعدد والحريات.
الديمقراطية كعقلية سياسية ليست راسخة في لبنان.
لبنان فيه حريات، لكن لا توجد فيه ديمقراطية بالمعني الشامل للكلمة.
التقدم في لبنان بدأ في العهد العثماني، وجبل لبنان امتد إلي بيروت التي أُسست فيها جامعتان علميتان كبيرتان. جامعة تقدم خلاصة الثقافة اللاتينية، بالفرنسية، هي الجامعة اليسوعية. وجامعة تقدم خلاصة الثقافة الانكلو ـ ساكسونية هي الجامعة الأمريكية، وهكذا صارت منطقة رأس بيروت. رأس بيروت هي الجامعة الأمريكية والمصارف. وهذه المنطقة هبطت إليها النخب الفلسطينية بعد نكبة 1948 والنخب السـورية بعد التأميمات. وهذه النخب عندما جاءت إلي لبنـان أين ستسكن؟ في الأحياء الشعبية؟ بالطبع لا. بل في الأحياء الراقية. رأس بيروت هو الحي الوحـيد الذي نما نمواً غير طائفي وحتي غير وطني، بل كوزموبوليتي. أنا سكنت فـي رأس بيروت وبهرت بهذا الجو الذي لا فرق فيه بين مسيحي أو مسلم أو درزي. حتي الأجنبي يعيش فيه بحرية، والعربي يعيش فيه بحرية والفلسطيني الذي يعيش في رأس بيروت يُعامل غير معاملة الفلسـطيني في المخيمات. يوسف بيدس فلسطيني صار ملك المصارف، وربما أفلسوه لهذا السبب؛ فهو فلسطيني وأرثوذكسي معاً. صار أكبر من العائلات المصرفية اللبنانية وراح ينافسها بقوة المؤسسة لا بقوة العائلة. كان لي أقارب وأصدقـاء حتي قبل قدومي إلي لبنـان، وهؤلاء اعتنوا بي كثيراً. أقارب وأصدقاء من آل دبغي والدباس وندّا وأيوب، وهذه الصلة فتحت لي عالماً لم يفتح لخالد الحكيم أو صلاح البيطار أو منصور الأطرش. منصور الأطرش حين استقر في لبنان لم يتصل بكمال جنبلاط.
كيف تفسر هذا الأمر؟
لأن المير مجيد أرسلان هو الذي بادر إلي السـلام عليه ودعاه إلي منزله. ثم إن شخصاً من أنصار المير مجيد أرسلان ومن الذين قاتلوا في الثورة السورية الكبري سنة 1925 إلي جانب سلطان الأطرش أقام لمنصور الأطرش حفلاً كبيراً في الشوف. وهذا الرجل هو قاتل والد كمال جنبلاط.
غريب.
وهذا الرجل هرب إلـي جبل الدروز إبان الثورة السورية سنة 1925 وقاتل بشجاعة. ولهذا عتب كمال جنبلاط علي منصور الأطرش وقال عنه إنه لا يفهم في تقدير هذه الأمور. وفي ما بعد حينما اختُطف حسن الأطرش من الأردن إلي سورية جاءت بنات حسن الأطرش إلي بيروت ليطلبن مـن منصور الذهاب إلـي كمال جنبلاط لحثه علي التدخل لدي السلطات السورية.
حسن الأطرش تزوج ليندا جنبلاط أخت كمال جنبلاط.
نعم. فذهب منصور الأطرش مكرهاً إلي كمال جنبلاط، وعاتبه جنبلاط قليلاً ثم قال له: هنا بيتك، فلماذا لم تأتِ إلي المختارة منذ البداية؟ المهم أنني انفتحت علي أجواء رأس بيروت وصرت من رواد مقهي الهورس شو .
والدولتشي فيتا؟
كنت أتردد إلي هذا المقهي مرات قليلة لأبقي علي صلة بالأجواء الحزبية القديمة.
كان البيطار من رواد الدولتشي فيتا.
لم يكن من الرواد الدائمين. وهـو في الفترة الأولي من لجوئه إلي لبنان لم يكن يرتاد المقاهي أبداً. حتي أن أكرم الحوراني قـال لي مرة: ما باله صاحبك لا نراه؟ هل لأنه أصبح رئيسـاً للوزارة لا يجلس في المقهي؟ ليأتِ ويجلس معنا. أكرم الحوراني كان وهو نائب لرئيس الجمهورية يذهب إلي المقهي ويجلس بين النـاس. منصور الأطرش لم يكن يغادر بيته البتة. ثمة أشخاص يظنون أنهم كبروا بالمنصب الذي وصلوا إليه. وثمة أناس مهما كبرت مناصبهم يبقون أكبر من المناصب. قصاري القول أن هزيمة 1967 سببت لي هـزة عنيفة، وجدانية وسياسية، ورحت أتساءل: من هم هـؤلاء اليهود الذين هزموا العرب في ستة أيام؟ وعدت إلي التوراة، ولم أكن قرأت التوراة حينذاك. وتعرفت إلي يوسف ايبش، وهو بدوره عرفني إلي أسـاتذة الجامعات في لبنـان، وصرنا نذهب إلي ميشيل أبو جودة في مكتبه المشهور في جريدة النهار . وعلي مدي سنتين، انصرفت إلي القراءة، وقمت بمراجعة فكرية شاملة، واكتشفت أن العلم الذي تعلمته في دمشق والليسانس في الحقوق التي نلتها من الجامعة السورية والمطالعات التي نهلت منها في تاريخ العرب والإسلام، والأفكار التي اطلعت عليها من غاندي إلي ماركس ليست كما كنت أعتقد. فليس المهم ما تقرأ بـل المهم كيف تقرأ. أنا لم أمارس شهوة المعرفة من أجل المعرفة إلاّ في بيروت، بعدما اكتشفت أنني شبه أمّي. كنا ننظر إلي التوراة علي أنها كتاب ديني وهو كتاب سياسي بامتياز. بعد ذلك شرعت في قراءة القرآن والسيرة النبوية ومكيافيلي. وكنت أعتقد أن كتاب الأمير كتاب لا أخلاقي، فإذا به أساس علم السياسة. ولم أكن أعلم أن السياسـة علم. كنت أعتقد أن السياسة ممارسة من أجل المبادئ، أو من أجل الوصول إلي المناصب. فالذين يعملون في السياسة من أجل المبادئ هم عقائديون، والذين يعملون فيها من أجل المناصب انتهازيون. وخلاصة الأمر أنني توصلت إلي قناعة راسخة وهي أن المهم والملحّ والجوهري هو التقدم. فالمعركة في بلادنا العربية هي معركة التقدم والتخلف قبل أن تكون معركة الوطني والأجنبي، وقبل أن تكون معركة اليهود والعرب، وقبل أن تكون معركة الاستقلال والاستعمار. المعارك الأخري دونكشوتية إذا لم تستند إلي النهضة.
هل كان الأمن الشخصي لكم في بيروت مضموناً؟
عندما هربت إلي لبنان أول مرة كنت أنام ومسدّسي إلي جانب وسادتي جاهزاً للإطلاق. كنت أمشي والمسدس مخبأ عند خاصرتي، فقد كنت خائفاً مـن اختطافي حياً. عشت باسم مستعار وبهوية مزورة مكتوب فيها أن مكان ولادتي هو النبك لا دمشق. وعلي هذا الغرار بقيت نحو السنة بعد هروبي الثاني علي الرغم من ارتخاء الأجواء.
في هذه الحال عشتَ بلا إقامة شرعية بالطبع.
طلب مني المكتب الثاني اللبناني التعـاون معه إذا كنت أرغب في الحصول علي إقامة شرعية، وبالطبع رفضت وبقيت من دون إقامة.
كان سامي الخطيب حينذاك مسؤولاً عن المخابرات في بيروت أليس كذلك؟
نعم. ولي مع المكتب الثاني قصة طريفة. فلدي فراري إلي لبنان بعد أيلول (سبتمبر) 1966 كانت الدولة اللبنانية علي علاقة غير ودية مع الدولة السورية الجديدة. لكن، عندما استقرت دولة 23 شباط وقويت شوكة مخابرات عبد الكـريم الجندي صارت الدولة اللبنانية تساير السوريين ولا سيما بعد مصالحة سورية ونظام عبد الناصر، فكان الخطر يزداد علينا ويزداد معه الحذر، إلي أن وقعت حرب 1967 فتغيّرت الأجواء تماماً. فلا السوريون تابعوا ملاحقتنا ولا المخابرات المصرية عادت لرصدنا، ولا المخابرات الأردنية استمرت في التعاطي مع مشكلتنا، ولا المخابرات اللبنانية تابعت مراقبتنا، وهي التي لا أعرف لحساب من كانت تعمل حينذاك غير الدولة اللبنانية، ولعلها كانت تعمل لحساب المخابرات المصرية. ما عاد أحد يهتم بنا حتي وقع انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968 في العراق.
حتي ذلك الوقت كنت لا تزال تتجول بهوية مستعارة؟
عرض المكتب الثاني عليّ إقامة شرعية ورخصة سـلاح إذا تعاونت معه، فرفضت وقلت لأحد الضباط: لدي سلاح ولـن أتخلي عنه. فحذروني أنه إذا ألقي القبض عليّ سأعاقب بتهمة حيازة سلاح غير مرخص. وإلاّ فاذهب إلي الأمن العام لتسوية وضعك كلاجيء سياسي. فذهبت، بالفعل، إلي الأمن العام واستخرجت بطاقة حمراء كأي سوري، وكانوا يعرفون أن اسمي في البطاقة ليس هو اسمي الصحيح. حتي أنني استأجرت منزلاً بموجـب هذه البطاقة، فلو جاء أحد وسأل ناطور المبني عن نبيل الشويري فسيقول له: ليس لدينا هذا الاسم، وسيكون صادقاً بالفعل لأنه لا يعرف أن نبيل الشويري هو أنا بالذات.
ماذا حدث بعد انقلاب 17 تموز (يوليو) في العراق؟
في تلك الفترة كنت في بيروت أنا وخالد الحكيم ثم لحق بنا نسيم سفرجلاني. وكان ميشيل عفلق عاد إلي بيروت. وفي هذه الأثناء زاره منصور الأطرش ثم جاء يطلب من صلاح البيطار ومنا أن نتصالح مع ميشيل عفلق. فكان جواب صلاح البيطار أن لا شيء شخصياً بينهما. أما أنا فرفضت المصالحة السياسية والشخصية معاً، وقلت له: أنا لي صلة بالأستاذ صـلاح البيطار وبك أنت يا منصور الأطرش. وسـوف أُبقي علي صلتي بكما وأري ما يعجبني فأسير فيه وما لا يعجبني لا أسير فيه. أما مع ميشـيل عفلق فلا صلة سياسية ولا صلة شخصية ولا أريد أن أراه . إذن، كان عفلق عـاد إلي بيروت وذهب منصور الأطرش ونسيم سفرجلاني للسلام عليه. وكان جلال السيد ذهب قبلهما وقال له: يا أسـتاذ أقـرب الناس إليك ابتعد عنك. هل كان هناك من هو أقرب إليك من نبيل الشويري وخالد الحكيم؟ لماذا حصل هذا، وأين أصبح هؤلاء؟ وبدأ جـلال السيد يحرّضه علي العودة إلي السياسة. لكن عفلق أصر علي ترك العمل السياسي ظاهرياً والانصراف إلي تربية أولاده. فما كان من جلال السيد إلاّ أن قال له: أنت الذي كنت رائد الجيل العربي الجديد تصبح رائداً لأربعة أولاد فقط؟ وذهب إليه منصـور الأطرش ونسيم سفرجلاني للغاية ذاتها وعادا بالنتيجة نفسها. وهكذا انتهت القصة، ورجع منصور الأطرش إلي دمشق. لكن قبل ذلك كانت المفاجأة في انقلاب 17 تموز (يوليو) في العراق.
الانقلاب الذي قاده عبد الرزاق النايف لمدة اثني عشر يوماً.
صحيح. المهم جـاء عبد الكريم الشيخلي إلي بيروت وكان عُيِّن للتو وزيراً للخارجية. لم أتحمس لهذا الانقلاب قط مع كرهي لعبد الرحمن عارف ولشقيقه عبد السلام عارف. كنت أعرف من علي صالح السعدي الكثير عن أهـل تكريت، وأعرف انه لم يبقَ من الحزب في العراق إلاّ التنظيم العسكري. لكنني لم أكن أعلم شيئاً عن منظمة حنين التي أنشأها صدام حسـين، وسيطر بها علي الحزب كمدني، ولكنه كان أشرس من العسكريين، والعسكر أكثر مدنية منه. في ذلك الوقت كتب ميشيل أبو جـودة مقالة رائعة في جريدة النهار عن انقلاب العراق وعن العسكر والانقلابات العسكرية فأرسلت إليه باقة من الورد من دون أن أذكر إسمي عليها. وعندما اكتشف أن الورد مني، قال لي: هل أنا آرتيست أحسـنت الأداء في الكاباريه لترسـل إليّ ورداً؟ فقلت له: لذلك لم أضع بطاقة علي باقة الورد. مختصر الكلام أن عبد الكريم الشيخلي جاء إلي بيروت والتقي فوراً جبران مجدلاني، وكان محامياً بارزاً وعضواً في القيادة القومية للحزب، وقال له: أبلغ رفاقك وبالتحديد صلاح البيطار ومنصور الأطرش وخالد الحكيم ونبيل الشويري ونسيم سفرجلاني أن العراق يدعوهم إلي بغـداد، وستصرف لهم علي الفور بطاقات السفر وجوازات السفر، وكل من يأتي إلي بغداد سينال راتباً وبيتاً وسيارة. المهم أن يرجعوا إلي الحزب وأهلاً وسهلاً بهم. ومن لا يرغب في العودة إلي الحزب سنتحدث لاحقاً في أمره. كفاهم ما لاقوا من الاضطهاد . وجاء جبران مجدلاني إلينا وهو يعتقد أنه أتي لنا برأس الزير سالم. فقلنا له: يدنا بزنّارك فقط في مسألة جواز السفر. وإذا كانوا يعتبروننا لاجئين سياسيين ليرسلوا لنا راتب اللاجئ السياسي من وزارة الداخلية العراقية كما كنا نعامل اللاجئين العراقيين في دمشق تبعاً لأصول التعامل الدولي في هذه المسألة، لأن لبنان لا ينفق علينا البتة، والمكتب الثاني يريد منا أن نتعاون معه ليصرف لنا معاشات دوريـة، وأحوالنا زفت ، حتي أنني بدأت أبيع بعض المصوغات الأنتيكا التي كان والدي يرسلها إليّ من دمشق في محاولة لكسب بعض النقود.
من هو الشخص الآخر الذي كنت تلتقيه في بغداد؟
شبلي العيسمي، وهو رفيق النضـال القديم. وكان يستقبلني ويدعوني إلي منزله، ويرسـل إلي الفندق يخبره أنني ضيف علي القيادة القومية. وكنت أنزل في فندق أشور بانيبال وأصحابه من الأشوريين الذين كانوا يهتمون بي كثيراً لأنني مسيحي أولاً، ولأنني ضيف علي الحزب ثانياً. وهو فندق من فنادق الدرجة الثانية.
ومَن كنت تلتقي غير طارق عزيز وشبلي العيسمي؟
أصحابي في العراق كانوا في المعارضة أمثال علي صالح السعدي وفاتك الصافي.
أَكان علي صالح السعدي في تلك الفترة موجوداً في العراق؟
بالتأكيد. وكان فور معرفته بأنني في بغداد يأتي ليسلّم علي، ثم يدعوني إلي بيته، ونحن أكرمناه كثيراً عندما أقام في دمشـق. علي السعدي، كنيته أبو فارس، وهو بالفعل، فارس، وأخلاقه أخلاق فوارس، وسلوكه سلوك فرسان. قصاري الكلام أنني كنت أذهب إلي العراق لمدة 15 يوماً في كل سنة. وهناك كنت أحاول أن أسبر أعماق الأوضاع الحزبية والحكومية والشعبية، وأوضاع المعارضة، ثم أعود لأخبر صـلاح البيطار أن لا فائدة يا أستاذ. طارق عزيز لا يغشني، فهو قال لي بصراحة: إذا كنتم تريدون العمل في السياسة عليكم العودة إلي الحزب، أي أن تعملوا من الداخل. وإذا كنتم تريدون العمل في التجارة عليكم التعاون مع المخابرات. لذلك لم أعمـل لا في السياسة ولا في التجارة، لأنني لا أريد العودة إلي الحزب ولا أريد التعاون مع المخابرات.
ماذا كنت تفعل في هذه الأثناء؟
بقيت في بيروت إلي أن فاز سليمان فرنجية برئاسـة الجمهورية في سنة 1970، ووقعت أحداث أيلول (سبتمبر) الأسود في الأردن.
في هذه الأثناء ألم تلتقِ البعثيين الفلسطينيين أمثال عبد المحسن أبو ميزر وكمال ناصـر وفاروق القدومي؟ ألم تكن لك صلة بمنظمات المقاومة الفلسطينية كحركة فتح مثلاً؟
كنت ألتقي كمال ناصر دائماً. لكن لم تكن لي أي صلة بالمنظمات الفدائية، وأنا لم أكن مهتماً بالعمل الفدائي، والنضال الفلسطيني له أربابه.
علماً بأن أحمد سويداني وحافظ الأسد كانت لهما صلات قوية بحركة فتح منذ سنة 1966.
عرفت ذلك في ما بعد. أما عن المنظمات الفدائية فبدأت أتعرف إليها من بعيد.
ألم تقترب حتي من المنظمات الفدائية البعثية مثل الصاعقة أو جبهة التحرير العربية ؟
علي الاطلاق، وخصوصاً المنظمات البعثية.
لنعد إلي بيروت. كيف تطورت أوضاعك في تلك الأحوال المضطربة في لبنان؟
بدأنا نتخوف من أخطار الأجواء الطائفية في لبنـان منذ العام 1969، وتخوفنا فعلاً من إمكان نشوب صراع مسيحي ـ مسلم وهذا ما حدث مع الأسف. أنا لم أكن مقتنعاً بقيادة ياسر عرفات، ولم أنجذب إلي اعتباره قائـداً تاريخياً للقضية الفلسطينية، ولم أعثر علي قائد عربي واحد لأسير خلفه بما في ذلك جمال عبد الناصر. ولهذا بدأت في بيروت، في نهاية الستينات من القرن العشرين، اعتني بالثقافة، في الوقت الذي كنتُ أعيش فيه لاجئاً سياسياً، وأتلقي معاشاً من الدولة العراقية. وحاول الياس فرح أن يجعل مصدر معاشي من القيـادة القومية لحزب البعث، لكنني رفضت وقلت لشبلي العيسمي: إما أن يعطوني المعاش من وزارة الداخلية مثل أي لاجئ سياسي رسمي وإما أن أعود إلي وضعي السابق في بيروت. فقال لي شبلي العيسمي: معك حق ، فقد كان يحبني ولا يحبهم. ولم يتمكن الياس فرح من أن يستدرجني إلي مقابلة ميشيل عفلق في بغداد. وفي تلك الفترة عرض علي الصديق غسان معروف الارناؤوط اللجوء إلي جنيف، فقد كان يعمل في الصليب الأحمر الدولي. لكنني رفضت العرض لأنني لم أكن محتاجاً؛ فالأموال تأتيني من طريق المتاجرة بالأنتيكا التي يرسلها إليّ والدي من دمشـق. وخلال نحو خمس سنوات تمكنت من شراء قطعة أرض في بلدة بلونة بالاشتراك مع أصدقاء من آل الدباس. وبعد ست سنوات بعناها بعدما تضاعف سعرها 22 مرة. في تلك الأثناء حاولت السلطات السـورية الضغط علي الحكـومة اللبنانية لإخراجنا من لبنان، واستجابت الأجهزة اللبنانية لهذا الضغط، وأرادت إقناعنا بالخروج إلي العراق ما دام العراق صار مرجعيتكم السياسية والحزبية . في تلك الفترة كان سليمان فرنجية وزيراً للاقتصـاد، فزاره صلاح البيطار وشكي إليه الأمر، وذهب منصور الأطرش إلي الأمير مجيد أرسلان للغاية نفسها، فكان جواب الاثنين: تبقون في لبنـان ولا يستطيع أحد أن يخرجكم منه. والغريب أن صـلاح البيطار ومنصور الأطرش ألحا علينا بضرورة السفر إلي بغداد. ولهذا اقتنع خالد الحكيم ونسيم سفرجلاني فغادرا إلي العراق، أما أنا فبقيت في لبنان بعدما استنفرت أقاربي من آل صوايا في ضهور الشوير، فضلاً عن جـبران حايك وأصدقائي من آل الدباس.
ما مصير رفاقك الآخرين؟
فهمي العاشوري عاد إلي سورية، وبقي نسيم سفرجلاني معنا في بيروت، أنا وخالد الحكيم.
وعدت إلي البطالة السياسية؟
في أوائل أيام الحرب الأهلية فاجأنا صلاح البيطار في المقهي بخبر يقول إن مرسوماً بالعفو عنه صدر في دمشق. لكن مع اشتداد الحرب بدأ البيطار يتخذ الموقف الأقرب إلي الفلسطينيين والحـركة الوطنية اللبنانية وكمال جنبلاط، وطالما أبدي عدم رغبته في العودة إلي سورية. يا عمّي كنا متفقين علي أن من يصدر في حقه عفو يعود فوراً. إذا قال حافظ الأسد لك مرحبا فقل له مرحبا حتي يُكمل معروفه معنا ويخرج من هم في السجن. حمود الشوفي كان مطلوباً للخدمة العسكرية ومحمد بصل في السجن.
ألم يكن حمود الشوفي قد أنهي خدمته العسكرية؟
كان مطلوباً للخدمة، وفي ما بعد أُعفي منها. وكان هذا الأمر سيفاً مسلطاً فوق رأسـه، أي أنهم متي أرادوا استدعاءه إلي الخدمة يستطيعون ذلك. الخلاصـة، أننا قررنا متابعة السعي من دون صلاح البيطار. وفي بيروت تعرفت إلي السيد حسين الحسيني وألبير منصور في المقهي، وصرنا أصدقاء. وانضم إلينا صديق عراقي كان من كبار البعثيين في العراق.
ما اسمه؟
فاتك الصافي، وهو الذي حمل صدام حسين حينما أصيب في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم ووضعه علي ظهر فرس هربت به إلي سورية. وبعد أن ازدادت الصداقة مع حسين الحسيني متانة عرفني الي الإمام موسي الصدر وأصبحنا أصدقاء لموسي الصدر. اعتقدنا أنه ما دام السيد موسي الصدر قريباً من حافظ الأسد فلنحاول أن نعيد التفاوض مع سورية من هذا البـاب. وتحدثنا في هذا الشأن مع حسين الحسيني الذي نقل الأمر إلي موسي الصدر فقبل المهمة بل رحب بها. ولما زرنا السيد الصدر طلبنا إليه أن يتدخل لدي الرئيس حافظ الأسـد للسماح لجبران مجدلاني بزيارة سورية في البداية، أي أن يذهب في مهمة استطلاعية أولاً، وبناء علي ما سيعود به جبران مجدلاني نقرر خطواتنا اللاحقة.
لماذا؟
لأن بعض القياديين في سورية آنذاك لا يطيقون ذكر أسمائنا. وأكثر من شخص نزل الغضب عليه حينما ذكر اسم نبيل الشويري. ذهب السيد موسي الصدر إلي دمشق والتقي الرئيس الأسد، وقال له: في لبنان رفاق لك يحترمونك ويقدّرونك فلماذا هذا الجفاء بينك وبينهم؟ فسأله الأسد: أمثال من؟ فقال له: جبران مجدلاني علي سبيل المثال. فرحب الرئيس الأسد جداً وقال: من يمنع جبران مجدلاني من زيارة دمشق؟ ولماذا لا يعود إلي السياسة؟ ولماذا لا يعود إلي الحزب؟ وإذا كان لا يريد العودة إلي الحزب فليأت إلي دمشـق وأهلاً وسهلاً به، وسأكون مسروراً بلقائه. وبناء علي هذا الأمـر تابع موسي الصدر كلامه قائلاً ان هناك غير جبران مجدلاني من رفاقكم. وسأله الأسد ثانية: مثل مَن؟ فقال الصـدر: رجل مسيحي محترم يسكن في المنطقة الغربية من بيروت، وهو لاجئ سياسي سـوري ولا يستطيع القدوم إلي بلده ويرفض الانتقال إلي المنطقة الشرقية مع أن له أقارب فيها، وهو قومـي عربي لا يريد أن يلتجيء إلي إحدي الطوائف اللبنانية مع انه معرض للقتل علي الهوية باعتباره مسيحي، وأنت تعلم ماذا يجري في بيروت. هنا تحمّس الرئيس حافظ الأسـد للموضوع، ولم يخطر في باله إطلاقاً أن هذا الكلام يتعلق بي، وقال: من هو؟ فأجابه الصدر: نبيل الشويري. حدق الأسد في الأرض وسكت أكثر من نصف دقيقة. بعدها رفع رأسه وقال: إذا كان وضعه الذاتي كما وصفته لي، إذن دعنا نتكلم بصراحة: الماضي يجب أن ننساه، وأنا مستعد منذ الآن لنسيان الماضي. لكن دعني أدرس الموضوع بإسـهاب، فإذا كان نبيل الشويري ما زال يتآمر علينا فلن أعفو عنه. أما إذا كان الأمر متعلقاً بما جري في الماضي فقط فأنا أعدك بالعفو عنه. بعد ذلك ذهب جبران مجدلاني وحسين الحسيني إلي دمشق وباشرا الاتصال بالأجهزة الأمنية ليسرعوا في إنهاء التحقيقات. وهذه التحقيقات امتدت حتي أوائل سنة 1977. لكن في سنة 1976 دخل الجيش السوري إلي لبنان ولم يكن العفو عني قد صدر بعد. فذهبت إلي موسي الصدر وقلت له: أنا ذاهب إلي العراق، فأرجو أن تبلغ أصدقاءك في سورية ذلك، وإذا سألك الرئيس حافظ الأسد أخبره أنني ذاهب إلي العراق لأن الجيش السـوري صار في لبنان، وأنا لا أستطيع البقاء هنا في هذه الحال. فأجابني الإمام الصدر: يمكننا أن نأتي لك بجواز سفر سوري وباسم مستعار أيضاً فتبقي في لبنان. فأجبته: لا. بل أنا ذاهب إلي العراق لا لأقيم هناك بل لتوديع الأصدقاء وشكرهم علي ما قدموه لي، وسأخبرهم أن العفـو عني في طريقه إلي الصدور، وعندما يصدر العفو سأرسل إليهم جواز السفر العراقي. وفي أي حال لن أبقي في بغداد بل سأغادرها إلي باريس. وهكذا كان. ذهبت إلي بغداد ثم غادرت سريعاً إلي باريس.
ألم يصدر العفو؟
لم يصدر العفو إلاّ بعد تسعة أشهر. وسمعت أن أحد المسؤولين العراقيين قال: العمي. جميع السـوريين الذين جاؤوا إلي بغداد لاجئين لم يودعنا أحد منهم حينما يقرر العودة إلي سورية إلاّ نبيل الشويري. وبقيت في باريس من أيار (مايو) 1976 حتي كانون الثاني (يناير) 1977، فجاءتني الأخبار من الشام أن اللواء محمد الخولي قائد مخابرات الطيران واللواء عدنان الدّباغ مدير المخابرات العامة الذي صار وزيرا للداخلية، يرحبان بي في دمشق وهما مستعدان لإرسال من يستقبلني في المطار فوراً علي الرغم من عدم صدور مرسوم العفو. أي أن مندوباً أمنياً سيستقبلني ويأخذني إلي بيتي مباشرة. وعندما يوقع الرئيس مرسوم العفو أخرج من البيت إلي الحياة العادية. فأجبتهما: أنا محكوم قضائياً والعفو لا يصدر إلا عن رئيس الجمهورية. كلامكم علي رأسي وعيني لكن، من الناحية القانونية، فإن توقيع الرئيس هو الذي يتكلم. في تلك الفترة كان هناك من التقي منصور الأطرش وقال له: يا أخي أُطلب موعداً مع الرئيس الأسد وراجعه في هذا الموضوع. وبالفعل طلب منصور الأطرش موعداً مع حافظ الأسد، وتحدث إليه بهذا الأمر. فما كان من الرئيس الأسـد إلا أن ضغط الجرس فجاءه أبو سليم ، فقال له: هات لي مرسـوم العفو عن نبيل الشويري لأوقعه. وصدر مرسوم العفو وانتهت قصة المنفي.