آخر الأخبار

أوروبا الأسيرة بين مطرقة مارشال.. وسندان الجدار الحديدي ..!!

الناس في بلادنا بعيدون عن مناطق المتاعب في شتى بقاع الأرض , و من
الصعب عليهم أن يستوعبوا المعاناة الطويلة التي تتعرض لها الشعوب و ما
يترتب عليها من ردود أفعال و تأثير ردود الأفعال على حكوماتهم فيما يتعلق
بجهودنا لتحقيق السلام في العالم . .
من أقوال جورج س. مارشال - جامعة هارفارد - 5 يونيو 1947 .
خرجت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية مدمرة بفعل القصف الاستراتيجي
المتبادل بين الحلفاء و دول المحور . هذا القصف الذي دمر مدنا ً بكاملها
ناهيك عن الاجتياح المتبادل للقوى المتقاتلة على امتداد ساحات المعارك .
لقد تم تدمير البنى التحتية تدميرا ً كاملا ً و على نطاق واسع من أنحاء أوروبا
أضف إلى ذلك انتشار الأمراض السارية و المعدية و استفحال الجوع والعوز
و استشراء الفوضى في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية ..
من هنا , تنادت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقديم المساعدة و الدعم للدول
الأوروبية بعدما أدرك الأمريكيون الخطر الوافد من الشرق و المتمثل بنشر
الفكر الشيوعي إلى أنحاء أخرى من أوروبا . و ذلك بعد الزيارة التي قام بها
لموسكو سنة 1947 و التي تيقن خلالها جورج مارشال أن الاتحاد السوفيتي
يعمل جاهدا ً للسيطرة على أوروبا ..!
لقد جاء مشروع مارشال ليجيب بقوة على احتياجات شعوب تلك الآونة
و مجتمعاتها التي عانت من الفقر و الجوع و البطالة ..
آمن جورج مارشال أن علاج الأزمات الإنسانية و العمرانية و الاقتصادية
و الاجتماعية يجب أن يكون علاجا ً ناجعا ً قائما ً على الحسابات و ليس على
العواطف . كما أكد على ضرورة اتفاق الدول الأوروبية حول جداول أعمال
تتبناها هذه الدول ..
لم تتوصل دول القارة وقتها إلى تحديد برامج أو جداول أعمال من أجل صياغة
قرارات مناسبة للعمل إلا بعد مرور سنوات على تأسيس مشروع مارشال
الذي أسَسَ في باريس لمنظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي و التي أصلت
بدورها لظهور منظمة التعاون الاقتصادي و التنمية الأوروبية ..
لقد اشترط مارشال لأوروبا انتهاج منهج الليبيراليه الاقتصادية و الليبيرالية
السياسية . لذلك , جاء المشروع منسجما ً مع الميول الطبيعية لمجتمعات أوروبا
الغربية التي كانت تميل أصلا ً نحو الليبيرالية ..
و معه , حقق مشروع مارشال خطوات واسعة في عملية إعادة إعمار و بناء
دول أوروبا الغربية ..
لقد أتى مشروع مارشال كمشروع ثقافي اقتصادي سياسي . اعتمد في جوهره
مبدأ حرب العقول . عقول أولئك الأوروبيين الذين ظنوا وقتها أن الشيوعية
يمكن أن تكون الحل المثالي لأوضاعهم المتردية !
لذلك , جاءت معركة تغيير الفكر وتغيير العقول من أجل تجفيف منابع الشيوعية
ومستنقعاتها التي استخدمتها للدعم و نشر الفكر الشيوعي على امتداد الساحة
الأوروبية .
لقد أرست الولايات المتحدة الأمريكية فكرها السياسي و الاقتصادي و الثقافي
و العسكري أيضا ً في بلدان أوروبا الغربية من خلال البرامج و البعثات و
التكوينات الإدارية و المالية و الخبرات البشرية و التقنية التي أقحمها مشروع
مارشال في جوهر نواحي حياة تلك الشعوب وتلك الدول !
و كما حكم مشروع مارشال الدور الاقتصادي و السياسي و الثقافي لأوروبا
, فقد حكمها الدور العسكري أيضا ً و هو الأخطر و الذي تجلى في ظهور
القواعد العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء أوروبا الغربية بدعوى التصدي
للمد الفكري الشيوعي !
و ما نراه اليوم من ظهور و انكشاف لوجود سجون في أنحاء متفرقة من أوروبا
ما هو إلا نتيجة طبيعية لاستفحال الدور العسكري الأمريكي في أوروبا الذي
ساهم و يساهم بقوة في تغييب الملامح الحقيقية لأوروبا و دورها الأقليمي
و العالمي .
أما في الشطر الآخر من أوروبا , فلم يجد الاتحاد السوفيتي المنتصر إلى جانب
الحلفاء في حربه على ألمانيا و دول المحور , لم يجد برنامجا ً بديلا ً عن برنامج
مارشال . حيث أن الفكر الشيوعي آمن بمبدأ و جدوى تبني النخب القيادية
الشيوعية لإمكانية اتخاذ القرارات و تحديد الأطر و المناهج و الطرق
لإدارة المجتمعات الشيوعية ..
إن هذا العجز الكبير عن إيجاد البرامج الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية
البديلة ساهم بشكل كبير في بروز مسمى الجدار الحديدي الذي اعتمده
الاتحاد السوفيتي لاحقا ً في التعامل مع شعوب و حكومات دول أوروبا الشرقية
التي شكلت على الدوام بؤر استنزاف أدت فيما أدت أخيرا ً إلى انفراط عقدها
في أواخر القرن الماضي .!
و ما تبع ذلك فيما بعد من إرهاصات و تداعيات على دور الاتحاد السوفيتي
في دعم حركات التحرر العالمية ! ( على حد التعبير المتداول )!
لقد عادت اليوم دول أوروبا الشرقية إلى حيث ما انتهت عليه حال دول أوروبا
الغربية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية . جوع و فقر و بطالة و تدمير واسع
للبنية التحتية في مجالات الصناعة و الزراعة و التعليم و التقانة .
من هذه الزاوية , استطاع مشروع مارشال لعام 1947- بنسخة مستنسخة لنفسه
o العبور إلى أوروبا الشرقية من بوابة برلين نفسها التي رسمت ملامح سياسة

الجدار الحديدي السوفيتية ! .
لقد شكل سقوط جدار برلين حدا ً لنهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة
الأمريكية و الاتحاد السوفيتي التي استمرت ما يقارب الخمسة عقود .
أما في رومانيا و التشيك و المجر و بلغاريا , فإننا نجد صورة مارشال في أبهى
ظهور لها منذ العام 1947 . و معه اعتمدت حكومات دول أوروبا الشرقية
نهج الليبيرالية الاقتصادية و السياسية لقاء تقديم الدعم المالي و التقني الواسع
من الولايات المتحدة الأمريكية ..
يمكننا القول اليوم , أن مشروع مارشال معمول به في كامل أرجاء أوروبا
و دولها بعدما اقتصر هذا الدور في الماضي- و قبل الانهيار الكبير- على دول
أوروبا الغربية .!
لقد جاءت فكرة الولادة العسرة لمشروع الاتحاد الأوروبي كمحاولة لتحديد
الهوية الأوروبية الضائعة على مدى التاريخ القديم و المعاصر لشعوب تلك
القارة . كما شبه أحدهم و خلال حضوره لاجتماع ممثلي الدول الأوروبية
إبان نهاية الحرب العالمية الثانية على أن هذا الاجتماع كان أشبه بمعركة
و حرب بين طوائف و قبائل تحكمها العصبية و العنف أو كمن يتقاتل مع آخر
على قطعة من اللحم !!!
و ما زالت أوروبا بكاملها رهينة الانقياد السياسي و الاقتصادي و الثقافي
للولايات المتحدة الأمريكية عبر مشروع مارشال لعام 1947 . ويتجلى هذا
الأمر يوميا ً في الانشقاق الدائم و المزمن في رأي حكومات أوروبا الواحدة
( مجازا ً ) حول الكثير من القضايا و المشاكل و القرارات . و يأتي التنابذ
الشديد بين دول الاتحاد الأوروبي حول قرار الحرب على العراق ليشكل أحد
أركان هذا الاختلاف الحاصل ضمن البيت الواحد . والذي يعطينا صورة
شديدة التباين عن واقع تبعية كثير من دول الاتحاد الأوروبي سياسيا ً
و اقتصاديا ً للولايات المتحدة الأمريكية .
كما أن الأداء المتذبذب و اللا منهجي للعملة الأوروبية الواحدة (اليورو),
يعطينا فكرة أخرى عن تباين الرؤى حول الكثير من المشاكل و التعقيدات
الاقتصادية بين دول الاتحاد الأوروبي .
هذا في أوروبا . فماذا عن منطقتنا و بقية المناطق الأخرى ؟
لقد طرح مشروع مارشال في كثير من الدول الأخرى حول العالم و أخيرا ً
و ليس آخرا ً في افغانستان . حيث وجد مشروع مارشال نسخة جديدة له
تراعى فيه الخصوصية التراثية و الثقافية و الدينية للمجتمع الأفغاني !
أتى مشروع مارشال لأفغانستان ردا ً على انتشار الفكر الإرهابي ( كما تطلق
عليه الولايات المتحدة الأمريكية ) . فكانت الحرب على طالبان و القاعدة
لتحرير أفغانستان من الفكر الإرهابي كما تم تحرير أوروبا من الفكر الشيوعي
و جاء مشروع مارشال في أفغانستان لتجفيف منابع و مستنفعات الإرهاب
كمل جاء في أوروبا لتجفيف منابع و مستنقعات الفكر الشيوعي !
من هنا و حتى إشعار آخر , فإننا سنرى بقاعا ً أخرى من العالم سيزورها
مارشال بنسخ مستنسخة جديدة . و ستطالب الولايات المتحدة الأمريكية
الدول المستضيفة تبني الروح الليبيرالية الأمريكية و لكن على طريقتها الخاصة.
و ها نحن اليوم نعيش مرحلة جديدة من مشروع مارشال جديد في العراق
و في دول عربية أخرى . و لكنه مختلف عن المشروع الذي أتى لأوروبا .
ففي العراق ظهرت بشائر هذا المشروع بالدماء الغزيرة و القهر و الاحتلال
الذي يعاني منه العراق و أهله .
و لم يراع مشروع مارشال في العراق الخصوصية العربية للعراق و الوجه
الحضاري و التاريخي و الديني له كما جاء في النص الأولي لمشروع مارشال
الذي أكد فيه على عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول .!( هذا على الورق فقط)
و كما عاشت أوروبا الأسيرة الفاقدة الهوية إلى أجل غير مسمى بين مطرقة
مارشال و .... سندان الجدار الحديدي , فإن العراق الأسير اليوم و الفاقد لهويته
يعيش بين مطرقة مارشال الحديدية فعلا ً و ..... سندان الجدار الحديدي
لصدام الأمس و وزرقاوي اليوم !!!
و بين الحديد و الحديد و النار و النار , ينصهر الجسد العراقي و تذوب الهوية
العراقية في بوتقة السياسات الجامحة و العلنية للولايات المتحدة الأمريكية !!!