قصة اللجنة العسكرية للبعث السوري ( 2 / 4 )
د. كمال خلف الطويل : ( كلنا شركاء) 6/5/2005
كان شهر أيار 1962 شهر إعادة تنظيم حزب البعث السوري بقيادة ميشيل عفلق عبر مؤتمر قومي جديد هو الخامس عقد في حمص. شهد المؤتمر خروج يساريين معظمهم لبناني وبعضهم عراقي من الحزب (منهم عبد الرحمن منيف وغسان شرارة وعبد الوهاب الشمايطلي) كما شهد تكريس انفصال الحوراني النهائي عن البعث وكذلك تكريس انشقاق القطريين عن الحزب المعاد تنظيمه. عهد عفلق بمهمة إعادة التنظيم إلى لجنة سداسية نصفها عراقي والآخر سوري، ضمت محسن الشيخ راضي وحمدي عبد المجيد العاني وهاني الفكيكي من العراق وشبلي العيسمي والوليد طالب وحمود الشوفي من سوريا. فتح الناشطون في اللجنة العسكرية وبالتحديد أعلاهم رتبة بعد سجن عمران أي الرائد صلاح جديد حوارا مع قيادة الحزب وبالتحديد عفلق كما حافظوا على علاقات نامية مع القطريين وإن كانت صلاتهم مع الوحدويين الإشتراكيين قد وهنت بعد نيسان 1962 بل وانقطعت مع الحوراني منذ العودة من مصر. كان وضع البعث العسكري طوال عام 1962 ودخولا في عام 1963 هو كمن رجله في الداخل أما باقي جسمه فهو في الخارج. هذا بالتحديد كان مدعاة أن يعودوا بالضرورة للبحث عن حلفاء لهم ثانية في انقلاب جديد على الانفصال آملين أن يلقى النجاح بعد أن استفادوا من دروس نيسان. كانت اللجنة العسكرية قد بلورت رؤاها في موضوعة الحكم والوحدة والحزب وفق الخطوط التالية: لا لوحدة فورية مع مصر - إنشاء حكم بعثي صرف بتدرج يراعي القدرة - ركوب مركبة الحزب المعاد تنظيمه مع رفده بالقطريين الباقين خارجه - منافسة عبد الناصر عبر المزايدة عليه يساريا وقوميا وفلسطينيا. تلفتت اللجنة فلم تجد حولها من حليف محتمل إلا كتلتين: الكبيرة وغير المنظمة من الناصريين وهم من مستويات رتب متنوعة. والصغيرة المتحلقة حول ضابط طموح انتهازي برتبة عقيد يتولى قيادة القطاع الشمالي للجبهة مسقط رأسه حماة إسمه زياد الحريري. لم يكن الحريري محسوبا لا على الوحدويين ولا على البعثيين بل قد عرف عنه إعجاب مكتوم بأكرم الحوراني. في الشهور الأخيرة من الانفصال وخصوصا بعد دورة شتورا للجامعة العربية في آب 1962 والتي شهدت أعنف الحملات على عبد الناصر من قبل انفصاليي دمشق قام استقطاب داخل الجيش بين ضباط الانفصال والذين أضحى رمزهم العميد مطيع السمان قائد قوى الأمن الداخلي وبين الضباط المناهضين للانفصال والذين تكوكبوا حول العقيد زياد الحريري. هزّ هذا الاستقطاب بطل الانفصال الأول عبد الكريم النحلاوي والذي كان قد أبعد وجماعته عن سوريا في نيسان 62 إثر فشل تمرد حمص-حلب وانعقاد مؤتمر حمص العسكري لتسوية ذيوله.
كان النحلاوي دمشقيا بامتياز محافظا متدينا لدرجة الارتباط غير المعلن مع جماعة الإخوان المسلمين وفي 13 كانون الثاني / يناير 1963 عاد متسللا إلى سوريا ليحرض بقاياه في الجيش على الانقلاب. ما فتك بالنحلاوي كانت الوعود المعطاة له من قبل أطراف وحدوية وبعثية بنصرته إن تحرك. هذه الأطراف أوقعته في الفخ بل وتحركت ضده لدرجة إيصاله لليأس والخروج القسري من البلاد ثانية. في الأسبوع الأول من 63 بدأ الرائد صلاح جديد تكثيف اتصاله بالعقيد زياد الحريري لإقناعه بأن يصبح بؤرة استقطاب تجمع حولها الناصريين والبعثيين معا. في مطلع 63 جرى تعيين العميد راشد القطيني مديرا للمخابرات العسكرية والعميد محمد الصوفي قائدا للواء المدرع الخامس بحمص وكلاهما وحدويان. كان ذلك الإجراء جزءا من لعبة التوازنات الداخلية في الجيش لكن توقيته لم يكن له أن يأتي في وقت أفضل. كان لهذين التعيينين إضافة لوجود عدد من الضباط الناصريين المتولين مواقع مهمة مثل عادل الحاج مراد وحسين القاضي وأسعد الحكيم ونور الله الحاج إبراهيم وممدوح الحبال وفواز محارب وكمال هلال فعل إجبار كل من الحريري وصلاح جديد على طلب التعاون معهم. أما الحريري فلا يتجاوز أنصاره العشرات في العدد في حين أن جديد لم يكن له إلا عشرة أو ما يقارب من الضباط العاملين وصغيري الرتب. في الجبهة حيث ساحة التآمر كان له سليم حاطوم وسليمان حداد وزياد حمضمض وآخرين. في 8 شباط / فبراير 1963 وقع الانقلاب البعثي - المؤيد ناصريا - في العراق ضد حكم عبد الكريم قاسم. والثابت أن هذا الحدث المهم كان له وقع نفسي شديد في أوساط الانفصال إذ ارتبكت سياستهم وارتعدت أوصالهم ما بين استرضاء غير مجدي لبعث بغداد وهلع من نسخة انقلابية له في دمشق. وطوال شباط - ما بعد بغداد - راجت الإشاعات في دمشق بأن زياد الحريري يحضر انقلابا يشترك فيه البعثيون والناصريون بما يشبه وقائع بغداد.
أخذ حكام الانفصال نفسا عميقا وقرروا كخطوة إنقاذ أخيره لعهدهم إخراج زياد الحريري ملحقا عسكريا في بغداد ثم غطوا هذا القرار بابتعاث مطيع السمان - المكروه للأعماق من خصوم الانفصال - ملحقا عسكريا في دولة آسيوية. لوهلة وهنت أعصاب الحريري - فهو ليس من زمرة المتآمرين المخضرمين الأشداء - وقرر الخضوع لقرار التسفير لكن ضغوط حلفائه من الجهتين عليه صلبّت من عوده وأقنعته بالبقاء و ... الإنقلاب. لم يكن هذا الإنقلاب والذي وقع في 8 آذار / مارس إلا سرا مفتوحا لكل أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية من شدة التوقعات له. بل إن حماة النظام المفترضين من مدير الشرطة العسكرية إلى قائد اللواء المدرع بالكسوة إلى غيرهم كانوا قد عقدوا الصفقات مع الحريري للنجاة بأنفسهم بل واقتناص مناصب مسرية في الخارج.
عودة إلى اللجنة العسكرية ... أين تموقع الرائد صلاح جديد؟ من الطبيعي أن يكون أول خطوات الإنقلاب الإفراج عن المسجونين الوحدويين والبعثيين ومنهم لؤي الأتاسي الذي اتفق عليه رئيسا لمجلس الثورة وكذلك محمد عمران رئيس اللجنة العكسرية وآخرين مثل حمد عبيد وإبراهيم العلي ومصطفى طلاس ومحمد النسر. أعيد كل الضباط المسرحين من البعثيين إلى الخدمة بينما أبقي العديد من المسرحين الناصريين خارجها أمثال جاسم علوان وحكمت الداية ورائف المعرى وكاظم زيتونة ووفيق إسماعيل. ليس ذلك فقط بل أن ضباط الاحتياط البعثيين ثبتوا في الخدمة ضباطا عاملين.
ما سر الحركة الطليقة للجناح البعثي وهو الصغير حجما والضئيل دورا في التحالف والانقلاب؟
السبب هو تمسكن الرائد - الآن المقدم - صلاح جديد حتى تمكنه. هو جلس في مقعد عبد الكريم النحلاوي عندما كان الأخير نائبا لمدير شؤون الضباط تحت العميد المصري أحمد علوي واستطاع من ذلك الموقع تدبير وتدبر ما يبتغي. في حالة جديد هو وضع فوقه العقيد غسان حداد - أحد حلفاء الحريري المستقلين - ونسج حوله شرنقة من التودد والتقرب وتكبير المقام لاقت هوى غلابا في نفس حداد الذي أصبح أداة مطواعة في يد مرؤوسه. على ذات النسق جرى تشكيل مجلس الثورة الأول: محمد عمران وصلاح جديد وموسى الزعبي عن البعث ... زياد الحريري وغسان حداد وفهد الشاعر عن المستقلين ... راشد القطيني ودرويش الزوني وكمال هلال وفواز محارب عن الناصريين ومعهم لؤي الأتاسي رئيسا. تولى محمد عمران - العقيد آنذاك، رئيسا لأركان اللواء المدرع 70 في الكسوة بينما أسند إلى النقيب - الرائد آنذاك - حافظ أسد قيادة قاعدة الضمير الجوية.
تولى زياد الحريري رئاسة الأركان والقطيني نيابة القائد العام والحاج إبراهيم قيادة الطيران كما استدعى العميد أمين الحافظ المبعد للأرجنتين ملحقا عسكريا ليصبح وزيرا للداخلية مقابل الفريق محمد الصوفي وزيرا للدفاع - دون صلاحيات جادة. وفق ذات السياق جرى تشكيل الوزارة الأولى مناصفة بين البعث وبين الأطراف الناصرية برئاسة البعثي المؤسس صلاح البيطار. كانت المعضلة التي واجهتها اللجنة العسكرية للبعث بعد نجاح الانقلاب ثلاثية الأبعاد: كيف نتخلص من أو ندعي التجاوب مع ضغوط الشارع العارمة طلبا لعودة الوحدة مع مصر؟ كيف نضرب الناصريين في الجيش استباقيا ووقائيا ولكن بتدرج محسوب؟ ثم كيف نتخلص من عبء الحريري بعد استنفاذ دوره؟ تلاقت سياسات اللجنة العسكرية في ذلك الوقت مع رغبات عفلق - البيطار لجهة التنائي عن وحدة مع عبد الناصر أو كبديل اضطراري السعي لاتحاد ثلاثي يضم عراق البعث وبما يكفل أن يصبح عبد الناصر بين المطرقة والسندان: بعث دمشق وبعث بغداد. كانت مناورة البعث ماكرة إذ لا يستطيع لا عبد الناصر ولا ناصرييه السوريين الممانعة في احتساب العراق متحدا ثالثا حتى ولو ناور ناصر خلال الجولة الثانية من مباحثات القاهرة بالقول إنه مستعد لقبول وحدة سورية-عراقية أولا بمقدار قبوله لوحدة مصرية-سورية أولا. إذن في مسألة الوحدة لاقى البعثان مخرجا شبه مريح في طرحهم الثلاثي لكن المنغص الكبير بقي ثنائية الشارع الناصري والكثافة الناصرية في الجيش. ورغم أن حديث ميثاق 17 نيسان له مكان آخر في ورقة 8 شباط / 8 آذار / 17 نيسان إلا أنه من اللافت وقوع أول التسريحات الكبرى في صفوف الناصريين يوم 20 نيسان أي بعد أيام ثلاثة من التوقيع وبخديعة ماكرة تلخصت في إيفاد العديد منهم لبغداد لبحث الوحدة العسكرية ثم ليعودوا إلى منازلهم مسرحين. استمرت التسريحات طوال أيار وحزيران ولم تنفع في ذلك وساطة المهدي بن بركة أو وساطة هواري بومدين من قبله، ابتغاء رأب الصدع المتفاقم بين عبد الناصر والبعث.
في أيار استقال الوزراء الناصريون وقمعت المظاهرات الناصرية الضخمة بالعنف المسلح واعتقل العديد من ناصريي العراق لاتهامهم بالتآمر. كان الجهاز المحرك للحوادث في سوريا هي اللجنة العسكرية والتي اتسع ملاكها حوالي تاريخ 8 آذار ليضم حسين ملحم ورباح الطويل وحمد عبيد وموسى الزعبي ثم ضم إليها بعد استفراد البعث بالسلطة صيف 1963 أمين الحافظ وسليمان حداد وطلال أبو عسلي وصلاح نمور ومصطفى الحاج علي وأحمد سويداني وسليم حاطوم وتوفيق بركات.
استطاعت اللجنة العسكرية أن تنفذ إلى أحشاء التجمعات الناصرية العسكرية وهي ترتقب منها تحركا مضادا يوفر لها الغلبة على البعث خصوصا بعد تسارع وتعاظم التسريحات وذلك عبر أحد عملائها الرائد محمد نبهان الذي استطاع أن يحوز ثقة قائد هذه التجمعات العقيد متقاعد جاسم علوان ومنه عرفت باليوم والساعة ما يمور في أجوائهم من نقمة وما بدؤوا في الترتيب له من تحرك. عُرف الناصريون دوما بالكثرة غير المنظمة ولقد كان ربيع 1963 مثلا ساطعا على ضعفهم النوعي إذ قبعوا يتلقون اللطمات بينما صفوفهم في الجيش تتناقص ورجحان البعث يغلب. ولعل جزءا من السبب في ذلك عدم إحراج عبد الناصر وهو في خضم تلقي الوساطات المغاربية ولعدم مفاقمة أجواء التوتر الناصري - البعثي في العراق. لكنهم وصلوا في أواخر حزيران إلى قرار بالتحرك رغم علمهم المسبق بضعف احتمال النجاح. في خضم هذه الأجواء قررت اللجنة العسكرية البدء بتصفية كتلة زياد الحريري الصغيرة لكونه الأسهل منالا وتوطئة للصدام الأوسع المرتقب مع الناصريين. هنا أيضا كانت الخديعة هي الأسلوب المتبع: أقنع الحريري بترؤس وفد لزيارة الجزائر. ولطمأنته اصطحبه عديد من القيادات البعثية المدنية والتي كانت خالية الذهن من مسألة التواطؤ و معهم المقدم صلاح جديد. خلال تلك الزيارة جرى تسريح ضباط الحريري وعلى رأسهم قائد اللواء 70 المدرع حسن الجلاغي ومدير المخابرات العسكرية محمود الحاج محمود. عاد الحريري إلى دمشق ليجد نفسه قد أضحى نكرة في المشهد السياسي لدرجة أنه اصطحب إلى المطار يوم 8 تموز مطرودا سفيرا في أسبانيا. في ذلك الوقت كان معلوما للجنة العسكرية اقتراب خطوات الانقلاب الناصري المزمع وكانت تفضل أن يتم الانقلاب ويسحق على أن يجهض باستباق وقوعه بحملة اعتقالات لمنفذيه المتوقعين. والحاصل أن رغبة الفراق البات مع عبد الناصر ومشايعيه كانت عارمة وبمقولة جازمة إن عهد البعث قد بزغ وأنه سيحكم دولتين متجاورتين ليقود عبرهما العالم العربي على أنقاض عبد الناصر. يثور هنا السؤال .. هل كانت قيادة الحزب المدنية متساوقة مع عسكرييه في هذا المنظور؟ والإجابة الحاسمة في ضوء وقائع تلك الفترة هي بنعم. كان ميشيل عفلق يظن أن العسكريين الشباب هم أداته للوصول إلى حلم البعث الذي يحكم إقليم الرافدين - الشام لينطلق منه إلى حلم قيادة العالم العربي إما بالبعث منفردا أو بالشراكة المتكافئة مع عبد الناصر كحد أقصى.
كان حلمه بعيدا عن أرض الواقع بمسافات ضوئية إذ كان العسكريون يمتطون جواده كمرحلة عابرة وصولا إلى تثبيت بعث جديد يزيح عن مشهده القيادة التاريخية التي اعتبروها منذ الوحدة غير جديرة بالقيادة أو بالتبني. منذ تلك اللحظة صعد إلى السطح بعثان: الأول تقليدي مدني والثاني تجديدي عسكري. ساعد في الفرز المكتوم توالد تيار يساري متمركس من داخل بنية الحزب المدنية قاده حمود الشوفي و اللذي استطاع في انتخابات الحزب القطرية الأولى في أيلول 1963 إيصال أربعة من رجالاته إلى عضوية القيادة القطرية وهم بالإضافة للشوفي .. أحمد أبو صالح ومحمود نوفل وخالد الحكيم. لم يفز من أنصار عفلق - حينها - سوى نور الدين الأتاسي ثم انتخبت اللجنة العسكرية ممثلين ثلاثة لها في القيادة هم: حافظ أسد وحمد عبيد ورباح الطويل. بل وصل الأمر إلى إسقاط صلاح البيطار ذاته - وهو رئيس الوزراء - في انتخابات القيادة رسالة صارخة لعفلق بأن زمانه قد أزف على الأفول. طبعا جرت تلك الانتخابات في أعقاب الصدام الدموي المروع مع الناصريين في 18 تموز والذي أسفر عن حمام دم - بمقاييس سورية حينها - مع قرار اللجنة العسكرية بإعدام ما يفوق عن عشرين ضابطا ناصريا بعد محاكمة صورية جرت في دقائق. والطريف أن أسلوب الخداع والمكر تواصل حتى ذلك اليوم. صباح يوم الجمعة 18 تموز - وقبل سويعات من بدء الصدام - وصل إلى الاسكندرية وفد سوري برئاسة لؤي الأتاسي ضم محمد عمران وفهد الشاعر تحت عنوان السعي لمصالحه شافية مع عبد الناصر.
كان من أرسلهم يعرف توقيت الانقلاب - وبالتحديد عمران - بل وربما كان عبد الناصر نفسه مطلعا على الموعد كل من مصدره وبالتالي لم تكن مباحثات الاسكندرية سوى مأساة - ملهاة، لعبة عبثية بعد أن ارتسمت في الأفق قطيعة مفجعة التوابع. رفض لؤي الأتاسي بعد عودته التصديق على قرارات الإعدام واستقال نجاة بنفسه من مسؤولية الدم المراق فسارعت اللجنة العسكرية بتعيين عضوها المستجد وغير الأصيل أمين الحافظ رئيسا لمجلس الثورة وقائدا عاما وحاكما عرفيا بل واحتفظ برئاسة الأركان التي تولاها خلفا للحريري المطرود قبلها بأيام. وجد العسكريون في يساريي البعث حليفا موضوعيا في معركتهم المقبلة مع القيادة التقليدية التاريخية وأسهم في تعزيز قناعتهم صعود يسار مماثل في أوساط البعث العراقي قاده نفس الأعضاء العراقيين في لجنة إعادة تنظيم الحزب السوري قبل عام ونيف أي علي السعدي وحمدي عبد المجيد العاني وهاني الفكيكي ومحسن الشيخ راضي. هذه المجموعة تمكنت في أيلول 1963 من الفوز بغالبية أعضاء القيادة القطرية المنتخبة في المؤتمر القطري لتماثل في غلبتها ما جرى في دمشق ذات الشهر. والثابت أن المعلم الرائد لهذا اليسار البعثي بعراقييه وسورييه كان ياسين الحافظ الشيوعي السابق من دير الزور والمنتمي حديثا للبعث بعد إعادة التنظيم.
لعب هذا المفكر المميز - بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع طروحاته - دورا استثنائيا في تحويل البعث - في تلك الفترة - من حزب دان لمؤسسه بالانقياد فكرا وعملا إلى متمرد خارج عليه بكل ما للخروج من معنى. إذ ما أن انعقد المؤتمر القومي السادس في دمشق في أكتوبر 1963 إلا ووجد عفلق نفسه غريبا عن حزبه الذي أسسه ورعاه لعقدين من الزمان. تجلى هذا الانفصام في تبني المؤتمر للمنطلقات النظرية والتي لم تكن أكثر من لبوس بعثي لماركسية لينينية مقنعة. ثم شهدت كواليس المؤتمر ترتيبات هدفت لإضعاف قبضة عفلق لدرجة الوهن كتمهيد للاستغناء لاحقا. والشاهد أن نجاح هذه الترتيبات ما كان له أن يرى النور لولا تواطؤ اللجنة العسكرية السورية معها. رد عفلق في بغداد بموافقته الصامتة على شبه انقلاب - عسكري الطابع - جرى يوم 11 نوفمبر وفيه قام عسكريوه الموالون باعتقال القيادة المنتخبة وتسفيرها إلى أسبانيا. ارتج الأمر على اللجنة العسكرية والتي فوجئت بأن تضاريس المشهد الحزبي العراقي لا تبشر بخير بسبب مدى الكراهية والنقمة المستفحلة في أوساط الجيش العراقي - سواء فيه البعثي أم غيره - من قيادة السعدي اليسارية والتي جعلت من حرسها القومي جيشا موازيا تدين له الدولة والمجتمع عبر قبضته الخشنة والمتطرفة.
رد الحرس القومي الموالي لليسار البعثي بخطوات عسكرية مناوئة فجرت الموقف برمته رغم قدوم ميشيل عفلق مصحوبا بأمين الحافظ وصلاح جديد للوساطة. عاشت بغداد أسبوعا من أزمة عارمة فككت الحزب إلى شظايا بل أوصلت معظم عسكرييه لدرجة التحالف مع رئيس الجمهورية غير البعثي - عبد السلام عارف - للإطاحة بحكم الحزب برمته. والحاصل أن انقلاب عارف في 18 تشرين الثاني/نوفمبر ما كان له أن ينجح بالحسم والسلمية التي تم بها لولا أن من نفذه بالأساس كان البعثي حردان التكريتي مؤيدا من رئيس الوزراء البعثي أحمد حسن البكر ومتفاهما مع ضباط كبار حسبوا على البعث بدرجة أم بأخرى مثل طاهر يحيى ورشيد مصلح. لم يحس البعث السوري بكل أجنحته بمدى ضعفه مثلما أحسّ في أواخر 1963. وجد عفلق نفسه دون رديف عراقي بعثي إذ أن ما انتهى إليه الحال في بغداد كان تشظي واندثار البعث برمته رغم مشاركة بعض رموزه في الانقلاب انحيازا لولائهم العسكري قبل الحزبي. هو الآن أصبح وجها لوجه أمام يسار متمرد سوري وأمام لجنة عسكرية ظنها في الربيع والصيف المنصرمين عدته وعتاده في الوصول لحلمه الكبير بينما لمس لمس اليد في الخريف أنها قلبت له ظهر المجن وانحازت إلى هذا اليسار المتمرد. بالمقابل وجدت اللجنة العسكرية نفسها أمام حليف مرهق في هذا اليسار إذ كان صنوه العراقي سببا رئيسا في وصول حكم الحزب في العراق إلى نهاية مفجعة وهو الذي لم ينقض عليه في الحكم إلا شهور تسعة وبالتالي فهذا نذير شؤم من نجاعة استمرار التحالف مع هكذا يسار. وعلى المقلب الآخر وجد اليسار المدني نفسه يتيما على مائدة اللئام إذ ليس بين يديه أدوات عسكرية لإصلاح الميزان لصالحه - رغم بعض التعاطف المذهبي الطابع من سليم حاطوم ومجموعته الصغيرة - وهو ليس مع ميشيل عفلق بخير ولا مع اللجنة العسكرية بخير. عند هذا المفصل وجدت اللجنة العسكرية ضالتها في القطريين الذين لا زال جسمهم الأكبر خارج الحزب رغم مسارعة العديد منهم للعودة له بعد 8 آذار. والثابت أن القاسم المشترك بين عسكريي اللجنة وبين مدنييي القطريين كان أرضية طبقية واضحة فمعظم الطرفين من الريف بل وأن نسبة كبيرة منهما من خلفية مذهبية متقاربة (الأقليات العلوية والإسماعيلية والدرزية).
من رموز القطريين كان هناك منير العبد الله وسليمان الخش ومصطفى رستم وأسعد صقر وفوزي رضا ويوسف زعين ومحمد عيد العشاوي وفايز الجاسم وأنيس كنجو وعبد الحميد المقداد ومروان حبش وعادل نعيسة وإسماعيل عرفي ومصلح سالم وكامل حسين وإبراهيم ماخوس و حميد مرعي و حسام حيزة. مثل ماخوس هذا التيار في أول وزارة بعد 8 آذار وزيرا للصحة ثم لحقه زعين في نوفمبر وزيرا للإصلاح الزراعي. قام اليسار بعد نوفمبر بطرد صلاح البيطار من عضوية الحزب في خطوة قصد فيها المزيد من التحدي لعفلق والذي رد بتعيين البيطار نائبا لرئيس مجلس الثورة.