آخر الأخبار

المملكة السورية ج 3 -الأخيرة

ذكرنا في الجزء الاول من مقالنا أحداث اعلان استقلال سورية و تنصيب فيصل ملكا عليها و عمل الحكومات الوطنية الجاد للنهضة بأحوال البلاد و ذكرنا في الجزء الثاني عمل رجال المؤتمر السوري على وضع دستور حضاري لتظيم الحكم في البلاد و ردود فعل الفرنسيون و حشدهم لقواتهم على الساحل بقيادة غورو و استعدادات الوطنيون للدفاع عن بلادهم بعدما لم يجدي قبول فيصل لبنود انذار غورو في منع الزحف الفرنسي ....و نتابع الاحداث ...
ذكر الغزي أنه في حلب و في غياب معظم الزعماء الوطنيين المشاركين في المؤتمر السوري و المقيمين في دمشق وقتها ، عقد أعيان المدينة في محلة العزيزية اجتماعاً ، و أرسلوا إلى الجنرال دولا موت بعدما تقدم بجيوشه من جرابلس و تمركز قرب حلب في منطقة المسلمية ، للقدوم و استلام حلب بلا قتال .
تحركت القوات الفرنسية باتجاه حلب و احتلتها في 23 تموز 1920 ، و عينت حاكما عليها الوالي كامل باشا القدسي الذي كان يبلغ من العمر ثلاثة و سبعون عاما ، و هو من الضباط العثمانيين السابقين ، و الذي ما لبث ان استقال لاحقا ، ثم توفي عام 1925.
أما في دمشق فقد أعلن الوزير يوسف العظمة : ( يجب ان نموت شرفاء ) ، وقال مقولته المشهورة: "لئلا يسجل التاريخ بأن قوات الاحتلال الفرنسي دخلت دمشق دون مقاومة اسمحوا لي أن أذهب لأموت" وأوصاهم بابنته الوحيدة الطفلة ليلى التي قدمت من الآستانة قبل اسبوعين مع أمها التركية ، و يروي ساطع الحصري في مذكراته ان الملك فيصل كان يدفع لها راتباً شهرياً حتى آخر أيامه .
و في صباح 24 تموز 1920 و بعد مرور عشرة أيام على إنذار غورو ، جمع يوسف العظمة من تطوع من رجال الجيش المنحل ، مع الأهالي ، و بلغ عددهم حوالي الثلاثة آلاف رجل مع أسلحتهم البدائية ، و كان مع المجاهدين مائتين من رجال العشائر ، و تصدى للجيش الفرنسي بقيادة رئيس الحملة الجنرال غوابيه والبالغ ثلاثين ألف جندي مجهز بالدبابات والمدافع و الطائرات و الرشاشات ، في معركة ميسلون البطولية المعروفة .
و قد صرح رئيس الحملة الفرنسية لاحقا ان العظمة خصم لا يستهان به ، و عرف كيف يختار مكان دفاعه و حصنه أحسن تحصين .
و كان الشيخ نوري الشعلان زعيم الرولا من عشيرة عنزة ،و الذي شارك مع الجيش الفيصلي في تحرير بلاد الشام من العثمانيين ، قد تعهد بإرسال رجاله للمشاركة في المعركة و عددهم بالآلاف ، فلم يفعل ذلك ، و قامت عصابة من الخونة يتزعمها المدعو حسين الشماط بالسطو ليلا على أسلحة الجناح الأيمن لجيش المجاهدين فلم يشترك في المعركة .
و تعرض الجناح الأيسر للجيش للخيانة ، فقد قام رجال المدعو أبو داوود و هو من زعماء قرية حلوى ، المجاورة لميسلون ، بالانضمام إلى الجناح الأيسر للمجاهدين ، ثم فجأة الانسحاب و إطلاق النار على المجاهدين من الخلف .
و حمل يوسف العظمة بندقيته و قاتل في الصفوف الأولى للمجاهدين ، و صمدت القوات العربية حتى نفذت الذخيرة فتقدمت القوات الفرنسية و قامت دبابة بإطلاق النار على يوسف العظمة فأردته قتيلا ، و هو أول وزير دفاع عربي يقاتل بنفسه في الصفوف الأولى و يستشهد أمام جنوده ، و هو الضابط الوحيد الذي استشهد من ضباط الجيش العربي في تلك المعركة .
قصفت الطائرات و الدبابات و الرشاشات الفرنسية المجاهدين بعنف ، و بعد ثمان ساعات ، انتهت المعركة و استشهد فيها ألف و خمسمائة مجاهد ، و قد استعمل الفرنسيون السلاح الأبيض لذبح المجاهدين الجرحى ، و اعترف الفرنسيون بمقتل اثنين و خمسين جنديا فرنسيا و مائتي جريح بينهم ثلاثة ضباط ، و شارك مع الجيش الفرنسي جنود مراكشيين و جزائريين و سنغال.
و انتظر غورو إلى صباح اليوم التالي للمعركة ، ثم دخل دمشق محاطا بأبهة كبيرة على رأس جيش استعراضي ، و قام بعض الخونة بفك الخيول عن عربته و جروها على أكتافهم ، ابتهاجا بقدومه ، ثم توجه غورو إلى قبر صلاح الدين الأيوبي في المسجد الأموي ، ليعلن كلمته المشهورة ( ها قد عدنا يا صلاح الدين ).
أما الجنرال غوابه قائد الحملة ، فقد ذكر في مذكراته التي نشرها لاحقا في مجلة ( جيوش الشرق الفرنسية) أن جده الأكبر شارك في الحروب الصليبية و قد أسره العرب ، و أمضى في دمشق ثلاثة سنوات في الأسر ، ثم استطاع الفرار و العودة للجيوش الصليبية ، و ان العدالة العليا هي التي سمحت لحفيده ان يدخل بعد ثمانمائة سنة ، دمشق ظافرا منصورا .
و في 25تموز 1920 ، و هو ذات يوم دخول غورو لدمشق ، أمر الملك فيصل بتشكيل وزارة عُرف أغلب أعضائها بصداقتهم لفرنسا ، و تشكلت وزارة برئاسة علاء الدين الدروبي و كان رئيس مجلس الشورى عبد الرحمن اليوسف و وزير الحربية جميل الالشي .
قام قائد الحملة الفرنسية الجنرال غوبه ، بإعلان تجريد فيصل من سلطة الحكم ، و طلب منه مغادرة سوريا ، و أعلن الاحتلال غرامة حربية تجمع من مواطني سوريا ، قدرها مائتا ألف دينار سوري ذهبي ، كانت حصة دمشق أربعين ألف دينار و مثلها حصة حلب .
و بعد ثلاثة أيام ، في 28 تموز 1920 غادر الملك فيصل دمشق باتجاه درعا ، و هي مفترق طرق سكك حديدية ، و احتار بين ان يتجه جنوبا باتجاه الأردن و الحجاز بلاد أباه و أخوته ، او غربا باتجاه البحر ، للسفر إلى أوربا .
ثم قرر بعدما هدده الفرنسيون بقصفه بالطائرات في حال بقائه في درعا ، و وزع فيصل مبلغ سبعمائة ليرة ذهبية هي آخر ما يملك على الرجال اللذين احتشدوا لتوديعه ، و توجه غربا نحو حيفا الواقعة تحت السلطة البريطانية ، ثم نحو الميناء المصري بور سعيد ، و كان معه من الوزراء ساطع الحصري و إحسان الجابري ، و عبروا البحر جميعاً باتجاه ايطاليا ، رغم ان فيصل صرح سابقا أمام الجماهير : ان غايته من الثورة استقلال الأمة العربية فأما ان يبلغ هذه الغاية او يموت دونها .
و بعد خمسة أيام ، في 3 آب 1920 أصدر الفرنسيون قراراً بجمع السلاح من الأهالي ، و فرضوا على دمشق تسليم تسعة آلاف بندقية ، و نص القرار ان من تضبط لديه بندقية لم يسلمها يغرم بمبلغ خمسين دينار ذهبي سوري ، و ان من يشي عن وجود بندقية مخبأة عند غيره ، يكافىء بمبلغ عشرون دينار .
و قبل إخراج الدينار الذهبي السوري للوجود ، و في 12 آب 1920 صدر قرارا بوقف العمل بالإصدار ، و كان قد صدر احد عشر دينارا فقط ، و تقرر الاحتفاظ بها بالمتحف .
و صدرت العملة السورية الورقية من البنك السوري الذي أوجده الفرنسيين و مقره بيروت ، من فئات غرش و خمسة غروش و عشرة و خمس و عشرين و خمسين غرش ، و ليرة واحدة و خمس ليرات و خمس و عشرين و خمسين و مائة ليرة و استعملت سورية و لبنان ذات العملة الورقية لسنوات.
و في هذه الأيام تبلغ قيمة الليرة السورية الورقية الواحدة - إصدار عام 1920 - لدى هواة جمع العملات ، مبلغا قد يصل الى خمسين ألف ليرة سورية .
وتقرر انه اعتبارا من الأول من كانون الثاني 1921 تصبح العملة السورية الورقية وحدها المقبول بها ، و جمع الفرنسيون من سوريا بفضل هذا القرار عشرون مليون ليرة عثمانية ذهبا ، و ملايين الريالات الفضية ، و أبدلوها بأوراق نقدية لا يمكن استبدالها بالذهب في حال تمت مراجعة المصرف الذي أصدر العملة .
و أعلن رئيس الوزارة علاء الدين الدروبي إنزال العلم السوري ذو النجمة البيضاء ، و إعادة الراية العربية مؤقتا ، لحين اختيار علم جديد لسوريا سيرفع لاحقا و لونه ازرق سماوي و في وسطه دائرة بيضاء و في زاويته العلم الفرنسي ، و أعلن عن حل المؤتمر السوري ، و اعتباره كأن لم يكن .
في 21 آب 1921 أعلن الفرنسيون إنشاء دولة جبل لبنان الكبير الذي يسكنه تاريخيا الموارنة ، و قد وسعت هذه الدولة على حساب الأراضي السورية بعدما كانت محصورة بجبل لبنان فقط ، فضمت مجموعة من الاقضية التابعة تاريخيا لسوريا ، و هي بيروت و بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا ومرجعيون و طرابلس وصيدا وصور ، و حرمت سوريا بذلك من ميناءي طرابلس و بيروت على البحر.
و في ذات اليوم أُعلن عن انفصال حكومة حلب عن حكومة دمشق ، و أُعلن قيام دولة حلب برئاسة كامل باشا القدسي الذي استقال لاحقا ، ثم خلفه عليها مصطفى برمدا، و حدودها الجنوبية تصل إلى ما بعد خان شيخون ،.
ثم أعلن الفرنسيون قيام دولة على الساحل السوري و عاصمتها اللاذقية ، ثم أقيمت لاحقا دولة جبال الدروز ، و كان لسنجق اسكندرونة ( لواء اسكندرون ) وضع خاص ، منحت بموجبه الأقلية التركية نظام إداري خاص .
و تعاونت حكومة الدروبي مع الفرنسيين بكل طاقتها ، حتى لقي رئيسها علاء الدين الدروبي و زميله عبد الرحمن اليوسف جزاءهم العادل ، فقد قضوا ذبحا في محطة قطار قرية خربة غزالة في حوران ، على أيدي الوطنيين الشرفاء ، فقامت فرنسا انتقاما منهم بقصف القرية و تدميرها.
لقد قامت المملكة السورية المستقلة لمدة أربعة أشهر و عشرون يوما فقط ، من 8 آذار 1920 و حتى 28 تموز 1920 ، عمل الوطنيون خلالها على تحقيق أحلامهم بالاستقلال و الاتحاد و التعريب و التعليم لرفع شأن وطنهم ، و عمل الملك فيصل خلالها على محاولة تحقيق أحلامه أيضا ، و لكن القدر و البريطانيين و الفرنسيين لم يسمحوا لهم بذلك ، و اتجه رجال سورية الوطنيون إلى الثورة المسلحة ، و هبوا للقيام بالثورات السورية في كافة المناطق ، و اتجه فيصل لأوربا ليعمل على ان يسلمه البريطانيون ملكية العراق لاحقا ..

المراجع :
- الإيضاحات السياسية ، غالب العياشي طبعة عام 1954
- مقررات حكومة سوريا : يوسف صادر ،طبعة عام 1933
- تاريخ سورية 1918-1920: الدكتور علي سلطان مدرس التاريخ الحديث في جامعة بروفانس بفرنسا ،طبعة عام 1987.
- يوم ميسلون : ساطع الحصري.