النضج, بمدلوله السياسي, وحتى الأيديولوجي, والاقتصادي, وغيره..يرتبط وينطلق من التحليل الموضوعي لطبيعة النظام القائم. وهل هو نظام يلبي طموحات الشعب?. هل هو نتيجة اختيار شعبي? هل يمثل الأغلبية? هل يصوغ ويحقق الأهداف المرحلية والستراتيجية للأمة?. هل هو بقدرة مواجهة التحديات المحدقة بالوطن..?, وأسئلة كثيرة من هذا العيار وغيره.
وعمليات الخلط التي أقامها بين النظام والوطن, والوطن والفرد, والحزب المطية, وتغييب الشعب, والآخر, وتعميم الخوف والإرهاب والقتل والاعتقال .. ناهيك عن ممارساته في الميدان الاجتماعي, والسياسي.. وغير ذلك كثير مما تناولناه بعديد الدراسات والبيانات والموضوعات, التي حاولنا فيها الابتعاد عن الصراع الإرثي, وعن منهج التفسير البوليسي, والتصنيف الاتهامي المعلب.
وباختصار, ها هي عقود تتكدس على وجوده وممارساته..فإن قضية التغيير, من حيث نضوجها, أو مشروعية طرحها ليست جديدة. إنها قديمة قدمه, وقدم استبداده ونفيه للآخر, وإغلاقه جميع الهوامش الديمقراطية بقوة الأجهزة القامعة.
وبظل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية, والمحاكم الخاصة, وتعميم الرعب الذي طال بالتصفية, والخطف والاغتيال, والاعتقال من جميع القوى الحية: المعارضة والمخالفة لنهج التحكم, والنهب والفساد والإفساد المنهجين..
ونعرف أن شعارات التغيير الجذري باتجاه إقامة نظام وطني ديمقراطي..ليست جديدة. فقد سبق طرحها منذ أزيد من عقدين ونصف. وكانت حينها تبدو المخرج الطبيعي للاختناق الحاصل. قبلها وبعدها: ظل شعار التغيير مرفوعا, ويعبر عن نضج مقوماته, وعن ضروراته لتخليص بلدنا مما لحقه..حتى لو كان بالمنحى التاريخي.
هكذا, , ويضع قطرنا على سكة موقعه الطبيعي: داخليا وعربيا وعالميا. وقد قابل النظام هذا البيان بحملة اعتقالات حاقدة, واسعة . سؤال مرتبك, وقد يكون ملتبسا. وهنا يجب أن نفرق بين التغيير كموجبات, وبين تحقيقه, وكيفياته.
وكما أشرت, التغيير ضروري, والتغيير مطلب حق لإنهاء الاستبداد, والتحكم المفروض بإرادة الأجهزة, وليس باختيارات الشعب. ناهيك عن العوامل الأخرى التي ذكرناها. وهو هنا ناضج بمعنى الاستحقاق التاريخي.
لكن التغيير كواقعة يطرح أسئلة عويصة حول المغير والمتغير..وحول الكيفيات والأشكال, والمال..
إن واحدا من, أسباب الديمومة يرتبط مباشرة بعدم وجود البديل: المغير..الذي لن يهبط من السماء..ولن يأتي من تلقاء النظام.
وطالما تناقشنا, خاصة في سنوات الانفجار الدموي, عن الشكل المناسب للتغيير .. حيث أغلق النظام طرق الانقلابات العسكرية التقليدية, لمن راهن عليها, ولم نقتنع يوما بطريق العنف المسلح التي جربها البعض وأدت إلى تقوية النظام.. وعندما لم يكن أمامنا سوى النضال الديمقراطي المتراكم, كنا نعي قدرة النظام على كسره, وتفتيته, وعلى إلحاق الهزيمة بقوى البديل السلمي.. الأمر الذي يعتبر واحدا من أسباب تهميش المعارضة, وأزمتها المتعاقبة, واستقرار النظام طوال هذه العقود.
وإذا كان المقصود بنضج أسباب التغيير من داخل النظام, أو عبر الضغط الخارجي وتماوجاته, ومداه فعلينا بعد هذه العقود, أن نفهم, وأن نوحد فهمنا لطبيعة النظام, كي نصل إلى نتائج صحيحة. وكي لا نقع في مراهنات أو استنتاجات خطأ, أو كي لا نبقى في ذيل الأحداث.
النظام, من حيث موقعه وهو عاجز عن تحقيق الهيمنة اجتماعيا, وعن الدخول في منافسة مشروعة مع قوى الشعب في انتخابات حرة, متكافئة. لذلك يلجأ إلى القوة فرضا, وإلى قوانين الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الخاصة, مثلما يلجأ إلى دريئة الصراع العربي ¯ الصهيوني..الذي لم يقم بواجبه فيها وأرضنا محتلة, وجبهتنا صامتة منذ عدة عقود..ناهيك عن التخوين, والاتهامات المعدة لكل صوت معارض.
إلى علاقة الداخل والخارج في هذا التغيير?
اعتقد أن المقصود هو الخارج المعارض, وليس الخارج على إطلاقه.
أساسا, وفي جميع المراحل, فإن الداخل هو الأساس. بيت القصيد والرافعة. المحور والموجه لكل عمل خارجي يفترض أن يتم بالتنسيق معه, ووفق , متطلباته..
وبغض النظر عن الدور (حجمه وفعاليته) الذي قام به الخارج على مدى العقود المنصرمة, فقد كان مرآة للداخل وما اعتوره من ضعف, ومهمشية, وتقطع..وبعض الخلافات التي يمكن فهمها كنتاج.
والأكيد أن الخارج (السوري) بما هو اليوم يضم تواجدات كبيرة لقوى المعارضة, إن كان منها مايلتقي مع قوى (التجمع) بهذا الشكل التنظيمي, أو السياسي, أو ذاك, أو تلك المحسوبة على قوى خارجه(كجماعة الإخوان المسلمين), وبعض القوى الأخرى, إلى جانب آلاف المثقفين والإطارات, والعاديين.. الذين يهمهم أمر بلدهم لجهة إنهاء معيقات تطوره, وموانع اغترابهم وقلقهم وخوفهم, ولصالح نظام ديمقراطي تعددي يقوم على المساواة بين الجميع, والمواطنة للجميع.
نحو الابتعاد عن العمل السياسي, والغرق في اهتمامات أخرى..وضعف القابلية, والثقة بالقائم, وبالأمل من إمكانية التغلب على نظام كلي شديد البطش.
وباختصار: فإن قوى المعارضة, ومن خلفها, أو معها, أو أمامها..الحالة الشعبية..ليست بأي مستوى من الجهوزية للدخول في عملية تغيير جذري..ولن تكون قادرة على التأثير الملحوظ في الأحداث الجارية, وفيما يتعرض له الوطن من أخطار..قائمة, أو محتملة.
لكن هذه الحقيقة ليست قدرا أبديا لا يمكن زحزحته, أو تغييره. فالأوضاع الشعبية ومحركاتها, ووتائرها, وهباتها, وانتفاضاتها, وحتى الثورة... لاتخضع أبدا لحسابات الجمع والضرب والطرح والتقسيم..إنها نتاج مؤثرات قد تأتي دفعة واحدة. وقد تنفجر في لحظة ما, ولسبب يصعب تقديره, خاصة وأن الاحتقان الشديد, والتوق إلى الحرية والحياة الكريمة, ومجاراة الشعوب الأخرى.. محفزات لتجاوز حالة الاختناق الراهنة. من دون أن نغفل أثر الزلزال اللبناني, وما رافقه من تداعيات وحركات شعبية متعاظمة.
والشعب السوري حي وحيوي, يمتلك ثقافة راسخة, وذهنا متطورا قادرا على التفاعل السريع مع المتغيرات..(إذا ما توفرت القيادات, والصيغ المناسبة, وإذا ما أحسنت قوى التغيير فهمه من داخله).
ما الأدوات والوسائل التي ترجحون اعتمادها من اجل التغيير?
إذا كانت المعارضة الوطنية الديمقراطية, ومعها الشعب, من دون القدرة على التغيير.. فمن الطبيعي أن يتجه الذهن إلى أدوات أخرى, وفق احتمالات تتداخل, وقد تتشعب.
المؤسف أن (تسريع نضوج الأوضاع), واضطرار النظام إلى جملة من التنازلات.. لا تأتي بفعل آلية داخلية, أو كنتاج لمستوى أطراف معادلة وطنية..وإنما بفعل الضغط الخارجي, وما يحمله من مشاريع تتجاوز النظام إلى البلد.
هنا تتكشف سنوات الفرص الضائعة من تلك الوعود وفي خطاب القسم حول العهد الجديد, والانفتاح, والإصلاح.. و..الخ.
الحالة السورية تختلف (كثيرا, ونوعيا) عن الحالة العراقية, إن كان( في هذا المجال) لجهة قوى المعارضة الرافضة للتعامل مع الخارج, والذي تنظر له كعدو رئيس للأمة. أو لجهة الاحتلال العسكري, وأسبابه (مع ضرورة التدقيق في طبيعة القرار الأميركي, وهل يصل مثلا إلى حد التفكير بإسقاط النظام, و اشتلاع البعث, وجملة الخطاب القومي.. وبالتالي العمل البطيء لتفسيخ النظام من داخله, أو استخدام لجنة التحقيق الدولية على طريقة: أسلحة الدمار الشامل العراقية ¯ وموقع, وحدود الدور الفرنسي الذي ركب على الخط منذ أشهر).
وهل القرار الأميركي في حدود تأهيل النظام وتكييفه تماما, وتشليحه الأوراق كافة التي حاول امتلاكها: لبنان ¯ العراق ¯ فلسطين..وصولا إلى الجولان المحتل..وقابليات النظام للتعاطي مع الطلبات ايا كانت حدودها.
ومن دون الدخول في تفاصيل تبدو احتمالية, أو خاصة..فالأقرب إلى المنطق, والعقل, خاصة لمن يخبر هذا النظام جيدا, أن يأتي التغيير من داخله, ووفقا لتزواج أشكال تأخذ بعين الاعتبار قوة رأس المال, وأصحاب المصالح الكبرى وبعض العصب الخائفة على غد خطير.
قصة الاستبداد ليست وليدة اليوم. إنها تأريخية تلبست عصرنة مستوردة من مفهوم الحزب القائد, الكلية, والصلاحيات المطلقة.
لقد تأبدت هذه (الأيديولوجيا) عقودا بمسوغات عملت على شرعنتها وهي تتأبط مبادئ وأهداف كبيرة نبيلة, وهي تتماهى بمحاكاة التجربة السوفياتية, ثم وهي تضيف إليها(إبداعات ) شرقية تفهم (الدين) وفق قالب خاص, حتى وإن أظهرت نوعا من علمانية.
والاستبداد سيقاوم (حتى النفس الأخير) خاصة وأنه اليوم يحضن, ويستند إلى ثروات ومصالح وعلاقات وامتيازات عملاقة.. وصارت له خبرات, وعلاقات مافيوزية تنخر جسد وعقل المجتمع.
لكن وبغض النظر عن غايات أميركا, واليمين المتصهين, ومن خلفهما, أو ضمنهما: مشروع صهيوني يضع الوطن العربي في مرمى الاستهداف, لم يعد مقبولا في عصر العولمة, كما لم يعد قادرا على ذلك الفعل الاستفزازي أمام ثورة الاتصالات والمعلوماتية, ودور الفضائيات, ولجان وجمعيات حقوق الإنسان. ناهيك عن الاضطرار للدخول في التكتلات الاقتصادية الكبرى واشتراطاتها المعروفة الخاصة بالانفتاح الاقتصادي, وحقوق الإنسان, والتبادل الحر.. وغيره.
مما يعني أن عصر الاستبداد سيأفل, وإن بطريقة ما عندنا. وربما بأثمان غالية. وربما عبر أشكال مختلفة قد تكون التمزقات, والحروب الأهلية..والفسيفساءات المذهبية, والعرقية, والقبلية بعض وقودها...
هنا لا يجدي التحسر.. لو أننا أنجزنا, ولو أننا انسجمنا مع مسار بقية الشعوب.. ولوات كثيرة تتزاحم في مخيلتنا, ونحن في قاع القاع, والغد مخيف.. بينما ترتسم المخططات فينا, فتجوب البيوت والعقول, وتضع خارطة الوطن على مشرحة التفتيت والطحن, والاحتلال في هذا المجال فإن الخلط المقصود بين الوطن والنظام. الوطن والسلطة. بل بين الوطن والفرد: . .
قد أضعف مفهوم المواطنية, وألقى بظلال كثيفة على الانتماء للوطن.. الذي يجب أن يكون فوق كل الاعتبارات, وفوق طبيعة النظم القائمة وسياساتها..الأمر الذي يؤدي إلى خلط الأوراق والحدود بين فئات الشعب..وإلى أنواع من اللامبالاة, حتى وإن كان الوطن يتعرض لمخاطر جدية, كهذه التي تحملها أميركا المتصهينة..والتي قد تصل مرحلة الاستيعاب.. والاحتلال الاحتوائي.
هنا وأمام النهج السائد الذي يتصف باتهام أي صوت معارض بالتآمر والخيانة.. والذي يتكئ على المؤامرة الخارجية لسحب البساط من تحت أقدام قوى البديل, أو جرها إلى خندقه المحفور منذ عقود.. على المعارضة أن توضح الحدود بينها وبين مشاريع الخارج, وبينها وبين النظام, وبين النظام والوطن.
إذ لا يكفي التفرج, وفي الوقت نفسه فليس مجديا التحول إلى بوق للنظام, والاصطفاف الآلي في خنادقه (لأن الوطن يتعرض للخطر).. وكفى. ولابد من دفعه للقيام بالخطوات المطلوبة كشرط لتأمين وحدة وطنية هي الضمان, والأمل