آخر الأخبار

ركود الحركة السياسية وسيادة الأحادية التي لا تختلف عن الموت كثيرا

فكرة أرى ضرورة مناقشتها بجديّة وأناة، لأنني أحسبها تلحق أشدّ الضرر بالسعي إلى الإصلاح السياسي الديمقراطي الذي تريده القوى الوطنية والقومية والتقدمية العربية، وهي الفكرة التي تتهم من يدعون إلى الديمقراطية في السنوات الأخيرة بأنهم يلتقون مع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية التي فطنت في هذه الفترة إلى غياب الديمقراطية في الدول العربية، وأخذت تطرح دمقرطة منطقتنا، وهي في الحقيقة لا تريد إلاّ تحقيق الهيمنة الكلية سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً.
ويتجه أصحاب هذه الفكرة إلى التشكيك بصدق الدعوة إلى الديمقراطية في بلادنا، بل إنهم كثيراً ما يدينون من يسمونهم (الليبراليين الجدد في البلاد العربية) ويربطون تحركهم الفكري والثقافي والسياسي بالسياسة الغربية.
مؤدّى هذه الفكرة، هو تعويق الدعوة إلى دمقرطة المجتمع العربي، لأنها تترك هذا الأمر للقوى الحاكمة، أو لمن يريدون أشكالاً من الحكم لا تختلف عن الأنظمة القمعية القائمة.
من هنا أجد الحوار حول ماهية الديمقراطية المطلوبة والممكنة في مجتمعنا العربي ضرورياً وملحاً.
وبرغم أنه لا يجوز لأحد أن يستبق الحوار، ويضع له خطاً أو شروطاً، فإنني أجيز لنفسي تأكيد بعض النقاط التي أراها نقاط ارتكاز في بحث مسألة الديمقراطية في وطننا العربي، وبلادنا، وأدعو إلى الانطلاق منها.
1ـ من الضروري أن يكون الحوار شاملاً، تشترك فيه كل القوى والفعاليات والأشخاص الذين يرغبون، وأن يجري بعيداً عن حالة الطوارئ والأحكام العرفية، فلا يؤاخذ المواطن بسبب رأيه إذا جاء مخالفاً لرأي الحكومة.
2ـ الفصل بين الدعوة إلى الديمقراطية والسياسة الأمريكية المراوغة، فإذا كانت الولايات المتحدة تغلف سياستها ومصالحها بغلاف الدعوة إلى الديمقراطية، فإن ذلك لا يعني أن الديمقراطية عندنا بخير، وأن من يلحّ على الإصلاح الديمقراطي يلتقي مع السياسة الأمريكية وأهدافها.
3ـ إن الديمقراطية صالحة ومفيدة لنا، كما هي صالحة ومفيدة لكل المجتمعات. وإذا كان بعض الباحثين يرون أن ما في مجتمعنا المتخلف من نزعات عشائرية وطائفية سيحرف الديمقراطية عن مسارها، فإن هذه النزعات تنمو في ظل غياب الديمقراطية، فتضييق مجالات الحراك السياسي وكبح حرية الرأي وإضعاف النشاط الحزبي، كل ذلك يدفع الناس إلى اصطفافات غير سياسية، كأن يلوذ الإنسان بطائفته أو عشيرته أو أسرته ويفصّل تفكيره على مقدار مصالحها الضيقة.
4ـ إن مجتمعنا، برغم تخلفه، وبرغم العقل التسليمي السائد بين الناس، هو مؤهل لممارسة الديمقراطية، والإفادة من مزاياها، ومستعد لتقبّل الإصلاح السياسي. ففي مجتمعنا حضور حقيقي للتيارات الفكرية والثقافية التقدمية والعلمانية، كما أن بلادنا مرّت بمراحل سابقة انتشرت فيها الممارسة السياسية المستندة إلى مبادئ الديمقراطية وحققت نتائج نهضوية هامة.
وإذا كان ثمة من يقول إن الديمقراطية السياسية مرتبطة بقوة البرجوازية، وبالتالي فإن الديمقراطية عندنا هدف معلّق بالهواء، لأنه بلا حوامل اجتماعية واقتصادية، فإننا نقول إن مبادئ الديمقراطية حققت مع الزمن والتجربة نوعاً من الاستقلالية النسبية، أي إنها استقلت عن النظام الرأسمالي، وغدت ثوابتها قابلة للتطبيق وفق الشروط الواقعية لكل مجتمع.
5ـ رفض فكرة الفصل بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية. فهذا الفصل وهم وقعت به الحركة اليسارية والقومية في القرن العشرين، وقد ثبت أن خير مناخ للنضال من أجل العدالة، أي الديمقراطية الاجتماعية، هو مناخ الديمقراطية السياسية.
6ـ الاتفاق على مبدأ قبول الآخر. ولهذا المبدأ ثلاثة مستويات:
أولها: الإقرار بحق الآخر في الوجود والعمل.
ثانيها: البحث عن نقاط التلاقي معه.
ثالثها: تمكينه من ممارسة حقه في السعي بالوسائل الدستورية للوصول إلى تأييد شعبي يسمح له بالوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها.
والآخر الذي نعنيه ليس المختلف فقط، بل النقيض أيضاً. وهذا يعني الاعتراف بالمعارضة وفتح مجالات العمل السياسي والفكري أمامها، فالحركة السياسية لا يمكن أن تستقيم وتنهض، وتُنهض المجتمع، إلا بجناحَيْ: الحكم والمعارضة، وبجدل الوحدة والصراع.
لقد كانت تجارب العرب في العقود الماضية مريرة، فاليميني يقمع اليساري، واليساري يلغي اليميني، بل إن أبناء التيار الواحد يحتربون فيما بينهم، وكانت النتيجة ركود الحركة السياسية وسيادة الأحادية التي لا تختلف عن الموت كثيراً.
7ـ الربط بين الديمقراطية السياسية والتربية العقلانية والعلمانية. لأن نشر الفكر العلماني والنزوع العقلاني في المجتمع هو الضمانة الكبرى لكي تؤتي الديمقراطية ثماراً مفيدة، وترسّخ تقاليدها، ولا تكون عرضة لأن تدوسها قوى تصل إلى الحكم من خلالها وهي غير مؤمنة بها. ولعل هذه التربية هي المهمة الأولى للقوى التقدمية الليبرالية والقومية والاشتراكية سواء أكانت حاكمة أم غير حاكمة.
8ـ السير في طريق دمقرطة الحياة الداخلية للأحزاب التقدمية والعلمانية، القومية والاشتراكية، وحلّ مشكلة هيمنة الأحادية فيها، والاعتراف بموضوعية الاختلاف ونشوء التيارات داخلها، وتأمين حرية التفكير والتعبير لأعضائها، وصون حق الأقلية في نشر آرائها تجاه مختلف القضايا على قدم المساواة مع الأكثرية.
إن معالجة هذا الأمر ضرورية كي تقوم الأحزاب بدورها في دمقرطة المجتمع، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن يصادر الحرية داخل تنظيمه لا يمكن أن يسعى إليها بفاعلية وصدق في مجتمعه.
هذه بعض النقاط التي نرى ضرورة أن يستند إليها الحوار حول الديمقراطية، وهي نقاط منهجية تبتعد عن التفاصيل، والأمر متروك في النهاية إلى ما يصل إليه المتحاورون من نقاط لقاء لا تنفي الحقّ في التباين والاختلاف، وفي التعبير عن الرأي والسعي إلى نشره بالوسائل الحضارية والدستورية.