حملة غريبة ضارية شارك فيها كوفي عنان امين عام الامم المتحدة على مفهوم سيادة الدولة، اذ تم اعتباره مفهوماً تقليدياً يحتاج الى التطوير كي يتمكن المجتمع الدولي من التدخل حماية لحقوق الانسان، وايجاد مفهوم المحاسبية الدولية كبديل لمفهوم سيادة الدولة القديم،
واستفادت واشنطن من حالة الارتباك والفوضى التي ميزت فترة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي كي تتوسع في تفسير مفهوم التدخل الانساني وتخلط بشكل متعمد ما بين ارادتها المنفردة وارادة المجتمع الدولي، وما بين مصالحها الخاصة وأطماعها الذاتية وبين الشرعية الدولية.
وبدأ تيار الليبراليين الجدد يبشر بانتهاء سيادة الدولة الوطنية ويسوغ استباحتها، تحت لافتة العولمة، وفي عالمنا العربي قام هؤلاء باحداث قطيعة مع افكار التحرر الوطني والوحدة العربية كما بدأ رأس المال في عبور حدود الدول متنقلاً من مكان الى آخر وساخراً من مفاهيم السيادة،
وساعدت عملية العولمة في إدخال تغييرات عميقة على هيكل وموازين القوى الدولي، فقد زاد نفوذ الشركات العابرة للقوميات والمنظمات غير الحكومية وتقلص نفوذ الدول والمنظمات الدولية الحكومية، وزادت اوزان القوى الاقتصادية والتكنولوجية مقابل تقلص القوى العسكرية والديمغرافية التقليدية،
وتحول مجلس الأمن الدولي ـ الذي يفترض ان يحمي السلم العالمي ـ الى ما يشبه حكومة ديكتاتورية غير شرعية وغير مسئولة ولا يمكن استخدام أي من أنواع الرقابة عليها من قبل أي جهاز دولي آخر. ورغم ان السيادة الحقيقية كانت مفتقدة زمن الحرب الباردة وكانت كل الدول تتأثر بسياسات الدول الكبرى في الاقتصاد والسياسة والثقافة إلا ان مجرد اطار شكلي كان يضع الكثير من العراقيل امام كل من يريد التدخل في الشئون الداخلية لها.
ولعبت العولمة الاعلامية دور الفأر الذي يقرض مفاهيم السيادة وساعدت في ايجاد روابط لحقوق الانسان ومنظمات حكومية لا تتقيد بمفهوم السيادة ولا تعيرها اعتباراً بنفس الطريقة التي اسقطت بها منظمة التجارة حصون السيادة الاقتصادية واخترقت بها كل الاجراءات الحمائية.
نخلص مما سبق ان الدولة تعرضت لضغوط تفتيتية منذ انهيار جدار برلين وهناك بالفعل دول انفرط عقدها وبدأ حديث أقرب إلى الواقع يتحدث عن تآكل مفهوم الدولة وتقادمه أو بالحد الأدنى ان الدولة لم تعد مطلقة اليدين في ان تمارس كل شيء دون تدخل عالمي كما كان في الماضي.
ومثلما ان هناك دولاً انهارت كما هو حال الاتحادين السوفييتي واليوغسلافي فإن هناك دولاً تكيفت مع المفاهيم الجديدة للسيادة، وفي كتاب بعنوان الدولة ما بعد الحديثة والنظام العالمي لروبرت كوبر يقسم الدول إلى ثلاثة أقسام.. دول ما قبل الحديثة وهي دول هشة وغارقة في الفوضى،
وهي لم ولا تمتلك احتكار العنف الشرعي ومن ثم فإن الكلام عن سيادة لها عديم المعنى كما في حالة الصومال وليبيريا وأفغانستان، ودول حديثة من حيث انخراطها في دينامية التحديث التي تمثل القومية دافعها وهذه الدول تحرص على احتكار العنف الشرعي ولا تتورع عن توظيف احتكارها للعنف في علاقاتها مع الدول الأخرى
ومن أمثلتها الصين والبرازيل والهند، أما النوع الثالث فيتمثل في الدول ما بعد الحديثة والتي باتت تنبذ العنف في تسوية خلافاتها وهي الأكثر استعداداً لمقايضة سيادتها بأرباح ومكاسب تجارية ومثالها الاتحاد الأوروبي.
ويدلل المؤلف على ذلك بتخلي دول أوروبا عن بعض المظاهر الأساسية للسيادة القومية طلباً لشكل أكثر تعقيداً يتمثل في السيادة الأوروبية.
غير ان الكلام النظري شيء والواقع شيء آخر، فالغرب لم يكتف بالتدخل لتصحيح اقتصادات الدول الضعيفة، بل انقلب في الحالة الأميركية إلى تورط عسكري، وغابت خطوط فاصلة كثيرة بين ما هو شأن داخلي ينبغي ألا يتدخل فيه أحد وبين ما هو شأن دولي يمكن البحث عن شرعية قانونية للتدخل فيه من خلال المنظمات الدولية أو باستخدامها كواجهة شكلية.
وأوجد ذلك الواقع حالة فكرية تعتبر ان فكرة السيادة المطلقة لم تعد أمراً مقبولاً في زمن العولمة وان اقتطاع بعض ما كان يعتبر شأناً داخلياً محصناً في الماضي ليصبح شأنا دولياً أصبح مسألة ضرورية، ويفسر كوفي عنان في تقريره لعام 1999 ما كان يحدث من تغيير بقوله «ان مفهوم سيادة الدولة يمر بعملية تحول كبرى، وان الدول ينظر إليها باعتبارها أدوات في خدمة شعوبها وليس العكس ومن ثم فإن هناك حاجة لإعادة تعريف المصلحة الوطنية بشكل يتسق ومتطلبات القرن الواحد والعشرين.
وهناك آراء متعددة حول مستقبل سيادة الدولة. فهناك مفكرون سياسيون «على رأسهم هيدلي بول» يرون ان الحل يكمن في العودة إلى ما قبل معاهدة وستفاليا. ففي مؤلف بعنوان «المجتمع الفوضوي» يقول بول ان فكرة حكومة عالمية تبدو بديلاً مرجحاً وان تصورا بدأ يتردد في السياسة العالمية المعاصرة يقوم على تجسيد لنظام كان سائداً في القرون الوسطى حيث ولايات قضائية متداخلة وسلطات مجزأة وولاءات متعددة..
بحيث تكون السلطة أفقية وليست رأسية، بحيث يمكن تصور اختفاء الدول ذات السيادة واستبدالها بمكافيء علماني حديث من نوع منظمة سياسية عالمية كتلك التي كانت موجودة في العالم المسيحي الغربي خلال القرون الوسطى.
ويضرب مثالاً على ذلك بالقول: في نظام كهذا يصبح من شأن الحكومة البريطانية ان تتقاسم سلطاتها مع الإدارات في ويلز واسكتلندا ويوركشاير ومع سلطة أوروبية في بروكسل فضلاً عن سلطة عالمية في نيويورك وجنيف.
وهناك من يرى بأن الدولة الحالية سوف تستمر وان تغيرت طرق وأساليب أدائها لدورها، لكن الأكثرية يرون ان فكرة الحكومة العالمية عادت لتطرح نفسها مجدداً باعتبارها شيئاً ضرورياً وحتمياً، وهناك خيارات ثلاثة تطرح في هذا الشأن.
ـ الأول حكومة خفية تمثلها شبكة من التحالفات بين شركات عابرة للقارات ومؤسسات مجتمع مدني وذلك بالتنسيق مع دول الثماني الكبار.
ـ الثاني حكومة تنبثق عن سلطة تشريعية دولية وسلطة قضائية وتمارس عملها في ظل رقابة سياسية وقانونية.
ـ الثالث: حكومة معلنة مفروضة بحكم الأمر الواقع تمارس تدخلها منفردة أو من خلال حلف الاطلنطي أو مجلس الأمن وتمثلها الإدارة الأميركية.
ومع ان الخيار الثالث يبدو أقرب إلى ما يجري على أرض الواقع فإن هناك تمييزاً جوهرياً بين نوعين من الدول في الوقت الحالي.
ـ دول تحظى بإدارة جيدة.. توفر لها قوة عسكرية أو تقدماً اقتصادياً وتنتزع اعترافاً من المجتمع الدولي بنجاحها ومن ثم فإنها تُفقد الولايات المتحدة ذرائع التدخل في شئونها.
ـ دول تحظى بإدارة سيئة أو فاقدة للشرعية، ولا تقوم على أسس سياسية ودستورية صحيحة، كما ان حكوماتها في أغلب الأحوال فاشلة في إدارة المجتمعات التي تديرها بطريقة رشيدة اقتصادياً وعسكرياً ومن ثم فإن ذرائع التدخل الأميركي في شئونها موجودة بوفرة، وما لم تكن مصالح أميركا في مصادقتها فإنها لن تتورع عن معاداتها وممارسة كل أشكال الضغط الممكنة ضدها ابتداء بالعقوبات الاقتصادية وانتهاء بالتدخل العسكري المباشر ضدها.
ويبدو من ممارسات الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 ان المباديء الإنسانية التي تشهرها أميركا في وجوه دول العالم ليست أكثر من ذريعة، فحينما تناقضت مع مصالحها بعد الأحداث انقلبت عليها وأخذت تدافع عن سلطات مطلقة للأنظمة السياسية التي تحارب أعداء أميركا الحاليين