رواية : د. عبد القدوس أبو صالح
في هذه الحلقة من مذكراته يواصل الدكتور محمد معروف الدواليبي سرد قصة فوزي القاوقجي وكيف ان الألمان الذين اشتبهوا بأمره وضعوه تحت المراقبة حتى انكشف أمره. ويورد الدواليبي حوادث ووقائع تثبت تعامل القاوقجي مع الانجليز في الوقت الذي ظن فيه الناس انه «بطل يقاوم الانجليز». كما يستعرض الدواليبي الخطة التي رسموها لتهريب المفتي الحاج أمين الحسيني من معتقله بفرنسا. ويصف الاجراءات الأمنية الصارمة التي كانت الشرطة الفرنسية تفرضها على القرية حيث سجن الحسيني.
* ألم تكشف ألمانيا أمر القاوقجي؟
- اشتبهوا به بعد الحادث، ووضعوه تحت المراقبة إلى أن انكشف أمره، وقبضوا على رسوله الخاص به، وأمسكوا الرسالة التي كان ينقلها، وأعدموه. ولكن بعد فوات الأوان، إذ كانت المعامل الذرية كلها قد نُسِفت، وكان غوبلز وزير الإعلام الألماني يقول: سننتصر، وانتصارنا متوقف على اختراعنا للأسلحة، وما كان يدور في خَلَده أن أسرار مخترعاتهم تصل إلى إنجلترا أولاً بأول.
كانت هناك حوادث ووقائع تثبت تعامل فوزي القاوقجي مع الإنجليز في الوقت الذي ارتسم في أذهان الناس أنه بطل يقاوم الإنجليز، ومن هذه الوقائع: مرابطته في الصحراء للتصدي لكلوب باشا. وحدث هذا بعد إخفاقه في ثورة سنة 1936 في فلسطين، ولجوئه إلى العراق الثائر ضد الإنجليز بزعامة رشيد عالي الكيلاني. كان أيضا يهدف فوزي القاوقجي إلى الإيقاع بين الحاج أمين الحسيني ورشيد عالي الكيلاني; لأن إيقاع الاثنين ـ وهما خصمان لإنجلترا ـ في الحبال يسقط الاثنين، ويحمل ألمانيا على التخلص منهما، أو جعلهما على الهامش، وهذا ما كان يعمل له فوزي القاوقجي بالتآمر مع الإنجليز.
* أو لم يفكر الألمان بإعدام فوزي القاوقجي؟
ـ إعدامه كان سيحدث ردة فعل عند الحاج أمين وعند العرب; ولذلك اكتفوا بوضعه تحت المراقبة، وتبين لهم أن هناك رسائل وخرائط كان يرسلها إلى أماكن معينة.
* كيف اشترك فوزي القاوقجي بعد ذلك في حرب فلسطين أيام شكري القوتلي؟ وكيف كانت له قيادة الجيش سنة 1948 لما ذهب المتطوعون الإسلاميون وعلى رأسهم الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله؟
ـ ما كان يعرف حقيقة فوزي القاوقجي غير المفتي، والمفتي رفض أن يسلموه الجبهة، وياسين باشا الهاشمي كان يعتقد أن المفتي هو الذي أفشى سر الأسلحة، والحقيقة أن المفتي بريء من هذه التهمة، وعنده المعلومات الكافية عن القاوقجي، وصادف أن توفي ياسين باشا الهاشمي فوضعوا أخاه طه الهاشمي قائداً للجيش، ومعه القاوقجي لأن سمعته ما زالت طاغية. وقد اعترض المفتي على اشتراك القاوقجي في القيادة فلم يردّوا عليه، ولم يأبهوا باعتراضه. وهكذا كان شأن القاوقجي الذي منع السلاح عن عبد القادر الحسيني حتى قُتِل وسقطت القدس، وبعد ذلك أعطى الإنجليز دبابات لسورية ودبابات للقاوقجي، فدخل بها من الخليل وسلمها لإسرائيل عند انسحابه من الجليل، وكان أخي مصطفى معه، فما أخذا من دبابات معاً بقيت مع أخي، أما الدبابات التي تسلمها القاوقجي وحده فسلّمها إلى اليهود. ولما قُتِل حسني الزعيم، وانتُخِبت الهيئة التأسيسية، وجاء هاشم الأتاسي إلى الحكم في سنة 1950، جاء وفد من العراق من أجل ضم سورية إلى العراق، وهو مشروع كنت قاومته وعارضته. وفي هذا الوقت قَدِم من بيروت فوزي القاوقجي وعادل العظمة، ليروِّجا للمشروع، فأسرعت وأبلغت هاشم الأتاسي رئيس الجمهورية وناظم القدسي رئيس الحكومة بمجيئهما، وقصصت عليهما قصة القاوقجي، فقال هاشم الأتاسي: لقد بلغني هذا الشيء، وقال ناظم القدسي: يلزم أن نوقفه، فقلت: لا توقفوه، فإيقافه سيسبّب مشكلات; لأنه رجل يتعاون مع الإنجليز والجيش الإسرائيلي، ولكن الرأي العام يعدّه بطلاً مجاهداً، فاعتقالكم إياه سينكره الرأي العام، ويتوجه إليكم بتهمة التنكيل بالأبطال المجاهدين. فدعوه لي، سأحمله على الهرب. وجئت إلى فندق أورينت بالاس حيث كان ينزل هو وعادل العظمة، وقلت له: يا فوزي بك، لقد قدّم الجيش السوري تقريره وذكر فيه أنك مسؤول عن الإخفاق في الجليل، وهو يجمع الآن الوثائق التي تدينك، وإنك في نظره متهم. وإنك لتعلم مكانتك عندي من دخولك بيتي ورؤيتك صورتَك معلقة على الجدار، وإني أنصحك الآن ألا تبيت هذه الليلة هنا. وما إن سمع مني هذا الكلام حتى جمع ثيابه وأغراضه وغادر الفندق هو ونبيه العظمة، وكفى الله المؤمنين القتال. وما قلته له من اتهـام الجـيش إيـاه كـان حـقيقة، فـأخي مصطفى ورفــاقه أثبتوا للجـيش أنـه كان يتعاون مع إسرائيل. وبعد ذلك عاد إلى مسقط رأسه طرابلس، وبقي فيها حتى مات.
تهريب الحاج أمين الحسيني من فرنسا
* وكنت هرّبت معي أيضاً من ألمانيا سوّاق الحاج أمين الحسيني خالد رمضان، وهو من حمص.
* هل جاء معكم إلى باريس؟
- نعم، هرّبته معي ليساعدني، فكنا أنا وزوجتي وابني (محمد) وخالد رمضان.
* هل كان تهريبه بالطريقة نفسها، بأنه من رعايا دولة تحت الحماية؟
ـ كان يمشي معنا، ومنذ تسلم المراقب (كروز التبغ) لم يعد يسأل، وخرجنا وخرج معنا. وقال لي السفير السوري عدنان الأتاسي: يجب أن تختبئ. فقلت له أنا مختبئ عند يوسف باشا. ولكن المهم أن نبذل جهدنا في تهريب الحاج أمين: قال يا أخي السفراء العرب كلهم يسألون عنه، وفخري باشا بأمر من فاروق يسأل عنه، هو في قبضة العسكريين، ولا يعلم أحد عنه شيئاً، فيئست من عدنان الأتاسي، واتجهت إلى خالد رمضان سواق المفتي، فأعطيته بعض النقود وطلبت منه أن ينزل في فندق، وأفهمته أن مجيئنا بالأصل من أجل معرفة مكان سجن المفتي وتهريبه، ولا توجد طريقة لذلك كله إلا إذا سلّمتك للسلطات فتعتقلك، وفي الغالب إذا اعتقلوك أخذوك إلى حيث يوجد المفتي، وعندئذ ما عليك إلا أن تبعث إليّ بطريقة من الطرق مبيناً مكان وجودكم. بذلك ينفتح لنا الطريق. ونحن على كل حال في قبضة الفرنسيين، وسنبقى في خطر ما دمنا في قبضتهم، وعلينا أن نعمل. أما الطريقة التي سنتّبعها لتسليمك للسلطات فهي الطريقة الآتية: سآخذك إلى رجل اسمه قدّور، لجأ إلى فرنسا، وله صاحب مسؤول من البرابرة، وهو الآن شيخ الجامع، ويعدّه الفرنسيون رئيساً على كل المسلمين في باريس.
* هل هو متعاون مع السلطات الفرنسية؟
ـ نعم، ومركزه في الجامع، ونحن الطلاب كنا مقاطعين الجامع لمعرفتنا به. قلت له: سآخذك إلى قدور هذا شيخ الجامع، فتدخل عليه وتقبّل يده وتقول له: أنا سوّاق الحاج أمين الحسيني، لجأت إليك بصفتك شيخ الجامع لتساعدني بشيء من النقود لئلا يعتقلني الفرنسيون، وتقول له: إنك رجل من علماء الدين، والحاج أمين من علماء الدين، وهو معتقل، وأنا معرّض للاعتقال إذا سمع بي الفرنسيون، لأنني هارب. وقلت له: بهذه الطريقة سوف تُعتَقل في الغالب، وسيأخذونك إلى عند الحاج أمين، ومن هناك تَهرّب لي رسالة فيها مكان وجودكما، فاستجاب الرجل، وأخذته ومعنا أم محمد، لتكون معنا دوماً امرأة تبعد النظر قليلاً عنا، وأوصلته بالحافلة إلى الجامع، وعينت له مكان غرفة الشيخ قدور، وبقيت أنا وأم محمد في موقف الحافلة حتى لا نلفت الأنظار. وبعد عشر دقائق جاء خالد رمضان وقال: لقد فعلت ما رسمته لي: قبّلت يد الشيخ وسردت عليه قصتي، فقال: يا بني أعطني عنوانك، وأنا أتصل بك. ركبنا عندئذ الحافلة، ونزلنا قبل الفندق الذي ينزل فيه بمسافة مائة متر تقريباً، وقلت له: اذهب الآن من هذا الرصيف، وأنا أمشي من الرصيف الآخر، والطريق عريض وبين الرصيفين ثمانون متراً تقريباً، مشيت أنا وأم محمد نراقبه من بعيد، فما إن وصل إلى الفندق حتى خرج إليه رجال الأمن، وسألوه عن هُوّيته، وكانوا قد سبقوه إلى الفندق وأنزلوا حقيبته، وقبضوا عليه، واقتادوه في السيارة إلى السجن. فقلت في نفسي: هذه أول مرحلة. ولبثت أنتظر يومين فثلاثة فأربعة.. فعشرة، ولم يجئني شيء. كنت واثقاً أنه سيصل إلى الحاج أمين، ويهرّب لنا خبراً عنه، وما كان في وسعي أن أفعل غير ذلك; فالسفراء لا يعرفون شيئاً عن مكان الحاج أمين، وأنا مطارد يفتشون عني، وما علينا إلا أن نعمل. لقد نفذنا من ستراسبورغ بحيل ووصلنا إلى هنا، ونحن الآن ندبّر الحيل الأخرى التي توصلنا إلى هدفنا وهو تهريب الحاج أمين. كنت أوصيت خالد رمضان أن يرسل رسالة إلى بوابة البناية، وكنت قد أكرمتها، وأوصيتها إذا جاءتها رسالة من صديق لي أن ترسلها لي إلى عنواني، ووضعنا لهذا الصديق اسماً مستعاراً، وكنت أمر عليها كل يومين فأسألها هل وصل إليك شيء؟ وبعد خمسة عشر يوماً سلمتني رسالة وصلت إليها، ففتحتها فإذا فيها: نحن موجودون على نهر اللوار في جنوب باريس، في قرية صغيرة، في منزل مستقل (فيلا) هي سجن خاص بالمفتي، ومع المفتي راسم الخالدي وابن أخته إسحاق درويش، على مسافة 30 كم تقريباً من باريس، والقرية فيها عدة بيوت، وفيها شرطة.
* هل عينوا لكم اسم القرية حيث كان الحسيني معتقلا؟
- كتبوا اسم القرية، ورقم الفيلا. وللفيلا نوافذ على الشارع، وفي داخلها شرطة وفي خارجها أيضاً، يوقفون كل شخص يمر ويسألون عنه، فانتبهوا واحترزوا. ويطلب الحاج أمين منكم أن تأتوا وتهرّبوا إلينا رسالة، وليكن مجيئكم بعد الاتصال بنا، وكونوا حذرين. فقررت في اليوم الثاني أن آخذ سيارة وأذهب إلى القرية. وحتى الآن ما كنا نقول للعجوز عمة الملك فاروق (ناجية ذو الفقار) إننا نبحث عن المفتي. فلما قررت الذهاب إلى القرية لدراسة وضع سجن المفتي، أجمعت أن أخبر زوجتي والعجوز ناجية ذو الفقار بنيّتي; لأن ذهابي محفوف بالمخاطر، فقد أُعتَقل ولا أعود، فقلت لهما: القصة كيت وكيت. وهنا انفجرت زوجتي بالبكاء، وقالت ناجية ذو الفقار: لا خروج من البيت، وغلّقت الأبواب، فأجبتها: يا أختي لا يجوز أن أتهاون في مسعاي، فقد حملت سائق المفتي على دخول السجن لهذه الغاية، فقالت أم محمد: أنا أذهب. أما أنت فلا تذهب. وفعلاً كان اقتراحها أبعد من الشبهة.
وفي اليوم الثاني، وكان الوقت في حزيران، يبدأ اليوم بصحو، وبعد ساعتين تتكاثف الغيوم وتهطل الأمطار كأفواه القرب، في هذا اليوم خرجت أم محمد ترتدي ألبسة صيفية، وفي منتصف الطريق جاء الغيث وانسكبت الأمطار غزيرة سخية، فبدت المرأة كأنها خارجة من نهر، تقطر ماء من رأسها إلى أخمص قدميها، ومع ذلك تابعت مسيرتها حتى وصلت القرية، وبلغت الشارع الذي فيه المنزل، ووقفت أمامه، ولكن غزارة الأمطار لم تبق لها مكاناً تقف فيه، فلجأت إلى منزل ثانٍ ومعها دراجتها لتستتر من الأمطار في دهليزها. وكان المفتي ومَنْ معه منذ إرسالهم الرسالة الأولى في مراقبة دائمة للطريق من الشباك ليلاً ونهاراً. وكان الحراس لا ينقطعون عن الحراسة والمراقبة ليلاً ونهاراً، ولكن غزارة الأمطار ألجأتهم إلى الدخول. وفي هذه الأثناء كان دور خالد رمضان في المراقبة، والشرطة حوله يجلسون مع المسجونين، فرأى أم محمد، فصاح: أم محمد، أخذته الوهلة، فاستدعى بصياحه انتباه الشرطة فركضوا مستفسرين غير فاهمين معنى أم محمد، وهنا أنقذ المفتي بذكائه الموقف، إذ تبع الشرطة ووقف وراءهم وأشار إليها، وهم يضحكون، وأوحى إليهم أنها امرأة مسكينة، غطّتها المياه من كل جانب، فهي تقطر ماءً من شعرها وملابسها، فأثار استغرابهم لمنظرها، وبعد قليل أغلقوا الشباك وعادوا إلى أماكنهم. أما الحاج أمين فقد صعد إلى الدور الثاني وكتب رسالة، لفّها بعدة أوراق وأشار إلى أم محمد، وكانت لا تزال واقفة والأمطار تهطل بغزارة، وألقى بها إلى أم محمد فأخذتها، والشرطة كلهم في الداخل، وركبت دراجتها وعادت وسلمتنا الرسالة، وفيها أن المفتي بحاجة إلى شيء من المال. وذهبت إلى عدنان الأتاسي وأطلعته على الرسالة بتوقيع المفتي، فبُهِت. وقال: نحن منذ شهر نسأل عنه من دونما جدوى، وأنت لقيته وأتيت برسالة منه في عدة أيام؟ وفتح الخزينة وأعطاني مائة ألف فرنك فرنسي، وقلت له: إن المفتي يوصينا بألا نذهب إليه إلا بعد الساعة الثانية ليلاً، ولذلك أريد سيارتك الدبلوماسية، فهي على الأقل لا توقفها الشرطة أو هي أقل مراقبة من غيرها، فقال: أعطيك السيارة، ولكن لا أعطيك سائقها، فقبلت. وكنت على اتصال بأحد أبناء الشام، اسمه عزت شيعي، وهو تاجر، وكان يربح ويقيم لنا معشر الطلاب سهرات، فباع صفقة سيئة للجيش الألماني فيها غشّ، فقبضوا عليه وكادوا يعدمونه، وجاءتني امرأته تبكي، فاتصلت بالحاج أمين في برلين، فتوسط له وأُفرِج عنه.
جئت إلى هذا الرجل وقلت له: يا عزت الرجل الذي أنقذ حياتك ذات يوم هو بحاجة الآن إلى إمداده بالمال في الساعة الثانية ليلاً، وكنت أعلم أنه ساكن في القرية نفسها منذ مجيئه من سورية قبل عشرين سنة، لأنها بعيدة ورخيصة الأجور، وتسير إليها قطارات وحافلات، فإذا كنت تجيد قيادة السيارة فسأحضر لك سيارة دبلوماسية تقودها إلى قريتك التي تسكن فيها، فوافق الرجل، ولم ينسَ أننا أنقذنا حياته ذات يوم، وذهب معي إلى السفارة السورية، فأخذنا السيارة إلى بيتي، حتى إذا كانت الساعة الثانية ليلاً، ركبنا أنا وأم محمد معه، وسار بنا وهو يرتجف من الرعب، حتى وصلنا إلى القرية، وأوقفنا السيارة في غابة من الغابات. وقالت أم محمد: لا تنزل أنتَ. أنا سأنزل. وجلسنا نحن الاثنين في السيارة، وذهبت هي، وكنا قد وضعنا المبلغ 100 ألف فرنك في صرّة وفيها حجر. وبعد الساعة الثانية حسب الموعد ألقت الصرّة من الشباك، وعادت برسالة من المفتي تقول: إن لديه أشياء يريد أن يكتب بها إلينا، ولكن يخشى من القبض على الرسالة، لأنها تتضمن أسراراً خطيرة لا يجوز كشفها، ولذلك يلحّ عليّ أن يرتّبوا ترتيباً أدخل به السجن.
* أتدخل أنت لتذهب إليهم؟ ـ نعم، وأنا لم أنس بعد، أن بيتي مصادر، وأنا هارب! كان الترتيب أن آتي ليلة 14 تموز بعد الساعة الثانية ليلاً، فأجتاز طريقاً محجَّراً يوصل إلى الباب الداخلي للفيلا، فأدفع الباب، ويكون المفتي جالساً وراءه، فأدخل إليه. ذهبت إلى أحد أصدقائنا المراكشيين المشتغلين بالحركة الوطنية هو عبد الهادي الدوري، وهو رجل كسّاب وهّاب، عنده دار تجارية في باريس، ودار تجارية في بروكسل، ودار تجارية في الرباط، وينفق على الحركة الوطنية، وقلت له: إنني بحاجة إلى سائقك، وهو سائق مأمون; لأن اجتماعاتهم كلها ضد فرنسا، وكنت بحاجة إلى سيارة وسائق; لأن عدنان الأتاسي لم يعد مستطيعاً إعطائي السيارة، وعزت شيعي انقطع عن المجيء، ولا بد لي من سيارة، فقال لي عبد الهادي: أعطيك السيارة والسائق. وفي ليلة 14 تموز خرجت بها أنا وأم محمد بعد منتصف الليل من باريس ولكننا لاحظنا دَرّاجة نارية تتعقّبنا أينما مشينا، يميناً أو شمالاً، وظلت تتابعنا إلى مسافة 30 كيلومترا، لقد لفتنا نظر الدورية، إذ رأت سيارة تخرج بعد منتصف الليل وتخرج من باريس إلى القرية، ونحن في أيام أواخر الحرب. فقلت للسائق: قف مكانك ولا تتكلم، ونزلت إلى الدورية، فأبرزت جواز سفر زوجتي وقلت لهم: نحن فرنسيون، نفد من عندنا البنزين، أرجو أن تساعدونا بإعطائنا ليتراً من البنزين، أو تدلونا على محطة بنزين قريبة، فنحن نسير من مكان إلى مكان ولا نجد مكاناً لبيع البنزين. فأجابوا: ما لك إلا أن ترجع، وتذهب إلى الجهة الفلانية حيث محطة للبنزين. حييناهم، وتركونا وانصرفوا. عدت إلى أم محمد وقلت لها وللسائق: انتبها جيداً حتى أعود. ودخلت في ظلمات الليل إلى المنزل بأقدام ثابتة واجتزت الممشى الحجري، ووصلت إلى الباب الداخلي، دفعته، فخرج الحاج أمين، وكان الدهليز مظلماً، ودخلنا غرفة وراء الباب فيها مذياع (راديو)، وسألته كيف استطعت أنا الدخول، وأين الحرس؟ قال: اطمئن، في ليلة 14 تموز أكرمنا الحرس، وجلس معهم إسحاق درويش، فسقاهم كثيراً حتى أسكرهم، وأخذنا المفاتيح منهم وفتحنا الباب، فاطمأننت، ولكن لم نكد نجلس نتحدث، على صوت الراديو الخفيف، وعلى ضوئه الخفيف أيضاً، حتى سمعنا صوت انغلاق الباب، وهذا معناه أنهم استيقظوا، فطار عقلي من الفزع، ونظرت فرأيت نافذة مرتفعة عن الشارع مسافة ثلاثة أمتار، ولم يبق أمامي إلا أن ألقي بنفسي من الشباك الذي نرسل منه الأموال والرسائل، فلحقني الحاج أمين يريد أن يمسكني، ولكنني تدلّيت متراً ونصف ثم ألقيت بنفسي، ورجعت إلى السيارة.
* هل عرفتم فيما بعد كيف أغلق الباب؟ ـ نعم، عرفنا فيما بعد أن أحد أولئك السكارى حصره البول فانتبه لقضاء حاجته، فرأى باب المنزل مفتوحاً، فطار عقله، ووجد باب الغرفة مفتوحاً أيضاً، ودخل علينا ووجد اثنين في الغرفة، فذهب ليأتي برفاقه ليقبضوا على الرجل الثاني، ولما جاءوا لم يجدوا سوى المفتي; لأنني كنت قد ألقيت بنفسي من الشباك وهربت، فسألوا المفتي: أين الرجل الثاني، فضحك المفتي وقال: أنتم سكارى، خُيِّل إليكم أن شخصاً آخر معي في الغرفة، وأنا وحدي، لا أحد معي، فاتهموا رفيقهم بالتخيل من شدة سكره، وانصرفوا. علمت ان قضية الحاج أمين في يد قونصوه المفوض السامي، وهو سفير في الخارجية الفرنسية، والأوراق السرية المتعلقة بقضية المفتي لا يطلع عليها غيره. فقلت لعدنان الأتاسي السفير السوري: أحب أن أتعرّف على قونصوه، فعرّفني عليه. اجتمعت بقونصوه، وكانت القضية السورية قد انحلّت، وبلغ قونصوه أنني شخص عمل شيئاً في هذه القضية، فقلت له: ما مصلحتكم في اعتقال الحاج أمين؟ لقد كانت إنجلترا تشوّش عليكم في قضية استقلال سورية حتى إنكم ضربتم دمشق، وهي تشوّش عليكم باعتقالكم الحاج أمين. إنها تريد أن يبقى معتقلاً عندكم! قال: أنت مخطئ. إنجلترا وأميركا تطالبان باستلامه ونحن نرفض. قلت: إنهم يكذبون; لأنهم لو تسلموه لقامت عليه ضجّة في العالم، تنتقل منكم إليهم. إن لنا قضيتين، قضية سورية، وقد وصلنا فيها إلى حل، وقضية الحاج أمين، وينبغي أن نصل فيها إلى حل; ذلك أن الحاج أمين زعيم الحركة الوطنية ضد الاستعمار، ليس في فلسطين والعالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي; لذلك جعلت إنجلترا قضيته نقطة الجرس الذي تلعب فيه. وإذا كنت غير مقنع بما أقول فخذ موافقة الجنرال ديغول فقط، وقل للسفير البريطاني: سنسلمكم الحاج أمين، وانظر ردّة الفعل، قال: يا أخي لا تحملنا على أمر صعب. قلت: والله إنهم يكذبون. قال: ما دليلك؟ قلت: لما استقللنا قامت ثورة في فلسطين سنة 1936 دعمتها سورية. وكان الفلسطينيون يريدون أن يستقلوا بثورة كما استقللنا نحن بثورة. فلما توقفت ثورتنا من أجل المفاوضات توقفت الثورة في فلسطين، وبدأ المفتي يعدّ لثورة ثانية قبيل الحرب. فإذا كانت الثورة ستتفجّر بعد سنة فاعتقال المفتي يفجرّها في اليوم التالي لاعتقاله. ففكر الانجليز أن يشعروه عن طريق ابنه أنه سيعتقل فاضطر للهرب، وبدأت الثورة الثانية، وجاء إلى بيروت، حتى إذا أعلنت الحرب بدأ الضغط من الإنجليز على لبنان لتسليمه، فهرب إلى العراق حيث انجلترا هناك فما اعتقل في العراق، ولو اعتقل في العراق لقامت ضجة ضد إنجلترا في العالم العربي والإسلامي. لقد طلبه الانجليز من لبنان المسيطرة فيه فرنسا، ولما لجأ إلى العراق المسيطرة فيه إنجلترا لم يطلبوه. وهذا دليلي على أن الإنجليز لا يريدون أن يتعرضوا لنقمة العالم العربي والإسلامي، ويريدون ذلك لفرنسا. ذهب قونصوه وحدّث ديغول بالفكرة التي أبديتُها دليلاً على أن إنجلترا لا تريد تسلّم الحاج أمين، فقال له ديغول: جَرِّب. استدعِ السفير الانجليزي وحدّثه بالفكرة، فاستدعى قونصوه السفير الانجليزي وقال له: لقد كلّفني الجنرال ديغول أن أبلغك بأننا بعدما أعلنّا استقلال سورية لم تعد لدينا رغبة في التدخل في الشؤون العربية، وأننا قررنا إطلاق سراح الحاج أمين وتسليمكم إياه، فأجابه السفير الانجليزي بقوله: يا سيدي أرجوك، أنا عندي تعليمات أننا لا نريد أن نتسلّمه، ونريد أن نطمئن ببقائه عندكم. قال له: بلِّغ حكومتك. فبلّغ حكومته، وجاء الجواب: لا، لا نريد استلامه، نريد فقط أن تطمئنونا بأنه لا يخرج من عندكم! وأبلغ قونصوه الجنرال ديغول جواب الحكومة الانجليزية، فزادت مكانتي عند الجنرال ديغول; إذ رأى سداد رأيي في القضية السورية، وفي هذه القضية الثانية قضية المفتي، كما توثّقت صلتي بقونصوه، وأصبحت أتردد على بيته بعد الامتحانات كصديق، وذلك لاعتقاده بصحة الخطط التي أرسمها.