في بلاد النصف مليون راهب، يستطيع الفقراء أن يرفعوا رؤوسهم، وأن يصطفوا في طوابير المجاعة واثقين أن أكياسهم البلاستيكية لن تعود محملة بالهواء، وأن انتظارهم لن يطول، لأن فرسان الليل الحفاة يحملون أكثر من الكلمات للبطون المقرقرة
في عتمة الليل، وقبل أن تفتح أشعة الصباح عيون الأزقة الضيقة، ينطلق رهبان بورما في حللهم البرتقالية ليلونوا صباح الفقراء بالأمل ويفرشوا أجنحة الطرق الملتوية المقهورة المنسية بالصدقات، ليضيقوا الهوة بين الأشد فقرا والواقفين على تخوم الفقر، وليثبتوا للباحثين عن الإله في الكتب العتيقة أنه حي، ويرى.
البورميون هم الأكثر كرما بين شعوب العالم - هكذا تؤكد إحصاءات معهد جالوب للاستطلاعات. ولأن الأرقام لا تكذب، يستطيع البورميون أن يرفعوا رؤوسهم عاليا، لأنهم رغم فقرهم الذي لا يخفى على متابع، استطاعوا أن يهزموا أنانيتهم في عمق الأزمات، وأن يسجلوا رقما قياسيا في عالم الإنسانية. فقد أظهرت الدراسة أن من بين كل مئة بورمي واحد وتسعين كريم، ينفقون مما يحبون على من يعرفون ومن لا يعرفون من ذوي القربى واليتامي والمساكين.
البوذيون هم الأرقى طبقا لمقياس جالوب، والرهبان هم الأقرب إلى قلوب الفقراء .. هكذا تؤكد إحصائيات ميدانية موثقة شملت 135 دولة من ملل ونحل وعصبيات شتى. وهكذا، استطاع حاملوا الصدقات أن يقطعوا قول كل خطيب ودعي وممثل، كما استطاعوا أن يردوا الروح لتمثالهم البرونزي المنتفخ ليعود بوذا إلى الحياة حاملا آلام الفقراء وآوجاعهم في حجره الفضفاض، وليؤكد للمتآمرين على نبله أنه كان مصيبا حين عاد من رحلة البحث عن إله إلى أرض المعاناة، ليذهب عن الفقراء والتعساء والموجوعبن آلامهم، ويوفر على المبتلين بالفقر والمرض ذل السؤال.
لم يعد في عالمنا المشحون بالصراعات والمؤامرات والمحن متسعا للمزايدات والملاسنات والخطب بعد أن فاقت الهوة بين البطون الملتصقة بظهور أصحابها، والبطون التي ترهلت وتقوست فوق ركب ذويها كل التوقعات. ولم يعد من حق أصحاب الرسالات السماوية الذين ملؤوا الدنيا صخبا ودما أن يتعالوا على من اتخذوا أصناما آلهة، لأن جاهلية حلف الفضول لم تخرجه من دائرة الإنسانية والرقي بشهادة خاتم الأنبياء.
البورميون الذين انتصروا عام 2008 على كارثة أقوى زلزال مدمر، وبنوا عند تخوم "نرجس" مدينتهم الفاضلة، يسجلون اليوم على مقياس الفضيلة انتصارا آخر. صحيح أنهم خسروا حين راهنوا على الرخاء بعد تخلي حكومتهم المستبدة عن السلطة عام 2011، وظنوا بالانفتاح على الغرب خيرا، فأبدلهم الله نفاقا في قلوب أغنيائهم، وسقطت الديون، لكن الهوة المخجلة بين الأغنياء والمعدمين ظللت على حالها تزداد فجرا بعد فجر، حتى قرر أصحاب الحلل البرتقالية أن يصبوا النور في عيون الواقفين على حافة الفقر والانتظار.
في بورما يقف البسطاء طابورا واحدا يطعم فيه الفقير من هو أشد فقرا وسغبا وحاجة. ولأن القوم في الفقر درجات، استطاع الرهبان أن ينقلوا أوعيتهم الممتلئة دوما من كيس إلى كيس أمام فوهات معابدهم ليوزعوا البسمة على الوجوه بالتساوي كل صباح. أما الذين فرقوا دينهم وصاروا شيعا، يضرب بعضهم رؤوس بعض، والذين جمدوا أرصدة العقائد في قلوب الناس من أجل صراعات غبية على كراس سياسية بليدة، والذين وضعوا الألواح خلف ظهورهم وعبدوا عجول الهوى والمصالح والذهب، لم يتمكنوا من تحقيق أي مركز على مقياس جالوب، ولم يستطيعوا نشر البسمة فوق ملامح فقرائهم اليابسة أي صباح.
حين يخرج الفقراء بأكياس بلاستيكية فارغة، في ثياب ملأى بثقوب تصفر فيها رياح المجاعة، ويصر الذين يحملون فوق ظهورهم أسفارا على قبض أياديهم والالتحاف بادعاءات غبية عن فضيلة الصبر، يفقد مقياس جالوب صوابه، ويرتفع سهم الوضعي من الرسالات على السماوي من الكتب. حقا، يستحق البورميون أن نرفع لهم القبعة، وتستحق شعوبنا المبتلاة بفيروس الادعاءات المخجلة أن تعود من أمام بوابات المساجد والكنائس والبيع والصلوات بأكياس بلاستيكية الفارغة.
إضافة تعليق جديد