السلوك القطيعي صفة سائدة لدى جميع انواع الكائنات الحية، التي تعيش في جماعات، بغض النظر فيما إذا كانت حشرات او اسماك او حيوانات او طيور. الانسان ايضا يعيش في مجتمعات وجماعات، ويُعرف نفسه من خلال الانتماء الجماعي، فهل يخضع لنفس " ديناميكية القطيع" الذي يتحكم بسلوك بقية الكائنات؟ هل لازال الانسان يحافظ على جذوره الحيوانية؟
ساحة المعارض في مدينة كولن الالمانية مخصصة لاحتواء 300 شخص، وغالبا ماكنت تحتوي بين جدرانها على هذا العدد، غير ان الاشخاص الذين يتجولون فيها خلال هذه التجربة ، كانوا صامتين، إذ كانوا يشاركون في تجربة متميزة لم يحدث مثيل لها في السابق، وتهدف الى معرفة كيف يتصرف الانسان في القطيع.
التجربة بقيادة عالمي البيلوجيا Jens Krause and John Dyer من العاملين في جامعة لييدس بالتعاون مع احد القنوات التلفزيونية الالمانية. تسعى التجربة لمعرفة فيما إذا كان سلوك الانسان في " القطيع البشري" يراعي ذات القوانين التي تتحكم بسلوك الحيوانات الابسط مثل الحشرات والاسماك والطيور. ميكانيزم هذه التصرفات تخضع الان لدراسة مكثفة من قبل العديد من فرق البحث العلمي.
" ديناميك القطيع" اظهر نفسه انه الدافع الرئيسي لحركة جراد الصحراء، بعد ان اعجز العلماء لسنوات. على مدى وقت طويل يعيش الجراد منعزلا، ولكن عندما يتجمع الجراد اليافع الذي لم تنبت اجنحته بعد، يبدء " بالسير" في مسيرة هائلة اكلا الاخضر واليابس. عندما يحدث هذا الامر من الضروري ايقافهم قبل ان تنمو اجنحتهم.
على مدى اسابيع قام فريق البحث بقيادة Lain Couzin, بدراسة سلوك الجراد في موريتانيا. بعد ذلك قاموا ببناء مختبر كبير، حيث الجراد كان يتحرك بحرية. لقد اكتشفوا انه عندما تصل كثافة الحشرات الى حدود معينة تنطلق إشارة التحرك. عند وجود عدد محدود، نجد ان الحشرات تبقى بعيدة عن بعضها. بوصول العدد الى حوالي 25 في المتر المربع، تنطلق المسيرة على الفور. لقد ظهر ان اصطدام الحشرات ببعضها هو الذي يطلق إشعار التحرك، تماما كما يحدث عندما نقوم بمس القدم الخلفية للحشرة لتقوم بالقفز للامام على الفور.
" ديناميك القطيع" نلاحظه ايضا لدى النمل. النمل المهاجر من نوع Eciton burchelli, يقوم بإنشاء طريق عريض للغاية، يتألف من حقل وسطي وحقلين جانبيين. في الحقل الوسطي يسير النمل العائد الى العش. هذه الحقول الثلاثة هي نتيجة مبدء بسيط في بيلوجيا النمل. كل نملة تترك خلفها اثار رائحة عن فيرمون يجذب اليه بقية النمل وبهذا الشكل يقرر شكل الطريق. إذا كانت النملة تتقدم بسرعة فذلك سيعرضها لفقدان الرائحة وبالتالي فقدان الطريق، اما اذا تأخرت كثير فتقوم بالاصطدام بالنملة اللاحقة لها. لاين كوذين قام بتصوير حركة النمل وتحليل طريقة سير 226 نملة بحركة بطيئة للغاية. لقد تمكن من " رؤية" كيف تنشأ الحقول الثلاثة، عندما تقوم النملتين المتلاقتين وجها لوجه بترك الطريق للاخرى. النملة الذاهبة لجلب الطعام هي التي تفسح الطريق للنملة العائدة الى العش، الامر الذي يحمي النملة العائدة وحمولتها الثمينة.
موجة الطيور من نوع Sturnidae, مشهورة بمنظر حركتها المدهش. غيمة من الطيور تظهر وكأنها طائر واحد يقوم بحركات مدهشة. الان اكتشف الباحثين ان قدرة الطيور على التناسق والانسجام سببها ان كل فرد من الطيور يقوم بالاهتمام بالبقاء على مقربة من 6-7 طير جار له، الموجودين في إطار مابين 0،5 - 2 متر.
عندما يقوم قطيع الاسماك بالتنقل، تحدث حركته بتناسق ودقة، الامر الذي يجعلنا متأكدين من وجود منظومة تتحكم فيها. لانرى ان احدى الاسماك تغلط الطريق او تخرج عن المجموعة او حتى تصطدم. وحتى عندما تقوم المجموعة بتغيير الاتجاه بسرعة وبدون تخطيط مسبق نلاحظ استمرار وجود النظام في الصفوف. من الواضح ان للسمك قدرات فائقة على التحكم بالتنسيق مع بعضهم البعض بالمقارنة مع سائق السيارة. الطيور والحشرات لديها القدرة ذاتها على التحكم بقدرتها على التنسيق بين افراد القطيع، الى درجة يظهر وكأن القطيع كائن واحد.
حتى الان كانت هذه الظاهرة تثير دهشة العلماء وتعجبهم، الى ان تمكن الكمبيوتر، بفضل إمكانية تلقيم معطيات الدراسات العميقة، من خلق عالم افتراضي. اعطت صورة مقربة عن الميكانيزم الذي يتحكم بهذا السلوك. يمكن القول ان القطيع يملك مايشابه " عقل جماعي" يقوم بإتخاذ قرار سريع ويحث جميع الافراد على تنسيق حركتهم كفرد واحد. هنا الكلام عن " منظومة تنظيم ذاتي" تقوم على مبدأ إداري: انه لايوجد فرد واحد من القطيع له خاصية اعطاء الاوامر للبقية عن ماذا يجب عمله. هذا النوع من التحكم لاغنى عنه للقطيع من اجل تنسيق حركته من خلال ردود فعل بسيطة.
العالم البيلوجي Lain Couzin, تمكن من الكشف عن الميكانيزم الذي يتحكم بالقطيع. على خلفية هذه الاكتشافات توصلوا الى ان العوامل التي تتحكم بحركة القطيع، والتي كانت في ظاهرها معقدة للغاية، يمكن اختصارها الى عاملين يؤسسون لخلق التواصل بين افراد القطيع:
الاول: رغبة افراد القطيع في إستغلال الحماية التي يؤمنها التواجد في القطيع.
الثاني:حاسة فطرية عند بعض الافراد، تؤدي الى انه في لحظة معينة تحصل على معلومات ذو اهمية للقطيع بأسره، مثلا ان هناك خطر يقترب.
لهذا السبب قام الباحثين بإعطاء هذه الخاصتين فقط لحيواناتهم، في العالم الافتراضي الذي صنعوه لهم في الكمبيوتر. البحث عن حماية هي خاصية الاغلبية، في حين ان بضعة افراد لديهم خاصية اتخاذ قرار، كردة فعل على ظروف معينة. الصورة التي تظهر امامنا هي ذاتها على الدوام: عندما كانت مجموعة صغيرة تملك هدفا واضحا لحركتها، كان هذا الامر كافي لجعل بقية القطيع يتبعها. في الموديلات كان واضحا ان 5% من القطيع كافي لقيادة القطيع.
المعطيات اعلاه كانت امام اعين داير و كراويس عندما قاموا بتجربة " ساحة المعارض". المهمة الاولى التي القيت على عاتق المجموعة الداخلة في الاختبار كانت بسيطة. لقد كان مسموح لهم اللتحرك كما يروق لهم في الساحة التي تبلغ مساحتها 70×120 متر. الشرط الذي كان مفروض على الجماعة هو عدم التواصل مع بعض، والاستمرار بالحركة على الدوام والبقاء على مقربة الشخص السابق له. العديد من انواع الاسماك مشهورة بحركة سيرها في حلقات. المئتين شخص في التجربة قاموا بالسلوك ذاته عندما خلقوا خطين سير حلقيين، احدهم داخلي والاخر خارجي، كل واحد في اتجاه مختلف. كان هذا السلوك هو الاشارة الاولى على ان الانسان والحيوان يتحركون بنفس الصورة.
الخطوة الثانية يسعى الباحثين لبحث مقدار الخمسة بالمئة الضرورية من اجل التحكم بالجماهير بصورة فعالة. من بين اشخاص التجربة المئتين يجري تمييز مجموعة بواسطة قبعة صفراء على الرأس، ، ويعطى لهم امر مُميز واحد: التحرك بإتجاه رقم محدد من ارقام ساعة مرسومة على لوحة على ارض الساحة. التجربة اظهرت ان خمسة اشخاص " مُتحكمين" في وسط 200 لايكفون من اجل تسيير البقية، ولكن التجربة الثانية التي كان فيها عدد " المُتحكمين" عشرة اشخاص تمكنوا من التأثير على المجموع وجذبهم ليتبعوهم. لقد ظهر ان 5% هي الحد السحري الضروري، تماما مثل النتيجة التي توصل اليها موديل الكمبيوتر.
في تجربة اخرى قام احد الاشخاص بلعب دور " سمكة قرش". الان من واجب كل فرد في القطيع الهرب، عندما تقترب منه سمكة القرش ، والابقاء على مسافة لاتقل عن ذراعين بينهم. مهمة " سمكة القرش" ان تستمر بملاحقة اقرب ضحية. التجربة اظهرت ان الجماعة تتحرك بنفس الطريقة التي يتحرك فيها قطيع السمك. قرب " سمكة القرش" ينقسم القطيع ليعاود التجمع خلفها، مما يعني ان المُهاجم تمكن من تفريق القطيع لمدة قصيرة.
من اجل عدم التأثير على النتائج جرى إبعاد وتغيير جميع الاشخاص الذين لعبوا سابقا دور " المُتحكم" من التجارب اللاحقة. ولكن الباحثين ارادو التعرف مالذي سيحدث فيما لو كانت " الخمسة بالمئة" تريد التوجه الى نقطة محددة، في حين مجموعة اقل تريد التوجه الى النقطة المعاكسة. الموديل الكمبيوتري اظهر ان الاكثرية ستسيطر انطلاقا من مبدء ان احتمال قيام الغالبية بإتخاذ قرار صحيح اكبر من احتمال الاقلية. لهذا السبب جرى اعطاء مجموعتين، احداهم من 20 شخصا والاخرى من 10 اشخاص، توجيهات متعاكسة. النتائج تظهر ان ردة فعل الجماعة على ارض الواقع كانت مختلفة عن الموديل الكمبيوتري. المجموعة اصبحت كالسلسلة ، حيث افرادها اصبحوا يتحركون للامام والى الخلف . يفسر كراويس الامر، بأنه عند وجود هدفين قريبين، فإن الجماعة تقوم بإختبار ايهما الافضل.
هذه التجارب التي جرت في كولن لم يكن هدفها تسلية مشاهدي التلفزيون، وانما كان لها هدفا واقعيا وعمليا. عندما نهبط في مطار غريب، لانعرف في البداية كيف سنتحرك والى اين سنتوجه. المجموعة التي تغادر الطائرة اولا تكتشف لوحات التوجيه وتتابعها، في حين ان بقية المسافرين يكتفون بمتابعة الدفعة الاولى، منطلقين من انهم يعرفون الى اين يذهبون. هذا الميكانيزم يشير الى ان كل فرد لديه " المعلومات" قادر ان يصبح رأس القطيع. بهذه الطريقة يتمكن القطيع من تجميع معلومات اكثر عن محيطه مما يستطيع الفرد ان يقوم به لوحده. هذا الامر بالذات هو مضمون "ذكاء القطيع". (flock intelligence).
علم " الذكاء الجماعي" امر غاية في الاهمية بالعلاقة مع العديد من القضايا، ليس اقلها الارهاب والاحتفالات الدينية والرياضية. هنا يجب معرفة طريقة اخلاء الجماهير من اماكن التجمعات. العالم الالماني المختص بالمواصلات Dirk Helbing وزميله Anders Johansson من جامعة دريسدن ، قاموا بتحليل فيلم عن حركة الحجاج المسلمين في مدينة مكة، وبفضله تمكنوا من الكشف عن الانذار المبكر الذي يكشف عنه "ديناميك القطيع".
عشرات الملايين من الحجاج تقوم سنويا برجم الشيطان. 300 شخص وقعوا ضحية هذا الطقس عام 2006. معرفة طريقة حركة الحجاج وسرعتها، وتزايد الضغط الذي يحصل ثم ردة الفعل التي تنتج عنها، يشير الى إمكانية توقع الامر قبل حدوثه بحوالي 45 دقيقة. هذا الامر يتيح الفرصة لتحويل الحجاج الى طرق اخرى لتخفيف الضغط، إضافة الى اقتراح جعل الطرق بإتجاه واحد. الاجراءت التي اتخذت، بناء على اقتراح علماء الغرب، اثبتت جدواها في السنوات التالية، إذ ان الشيطان فشل في الحصول على ضحاياه ، عام 2007 وعام 2008 .
هذه المعلومات الجديدة، عن ديناميك القطيع، جعلت من الممكن خلق نوع جديد من الروبوت. هذا النوع يسمى "Swarm-bots", وهو مجموعة من العربات المتحركة القادرة على ربط نفسها ببعض في ظروف معينة. كل عربة تملك محرك، وعدسة تحسس وذراع. بواسطة ضوء ملون وكاميرا يمكن ان يتبادلوا اشارات بسيطة. العربات تتحرك كالقطيع، وعندما تواجههم صعوبات معينة، مثلا ارتفاع لاتستطيع عربة واحدة تجاوزه، يقوموا على الفور بالالتحام وتشكيل سلسلة، ليتمكنوا من سحب بعضهم البعض. جميع العربات لديها قواعد عمل بسيطة، مثلا: إذا كنت غير قادر على العبور اشعل الضوء الاصفر، او: إذا رأيت الضوء ارسل ذراعك وارتبط به. هذه " القطعان" ستستخدم في رحلات الفضاء القادمة.
مصادر:
Modeling and Simulation
keep pilgrims safe
إضافة تعليق جديد