آخر الأخبار

العشق في الزمن الحرام-1


إلى السمارة قريتى الصغيرة .. وزمن قد ولىّ
أحـمـد ....

 
 
(1)
وحيدا تقبع بين جدران غرفتك .. تلتهم العين المتعبة كل مافيها ... المكتب .. الأوراق ... الأقلام .. اللوحات المهملة فوق الحيطان ... المكتبة .. الأزهار الإسفنجية .... منفضة السجائر .. شرائط الكاسيت .. والغبار ... ورائحة الخمول ... تسأل النفس فى حيرة .. لماذا فقد كل شىء معناه ؟ تخلع نظارتك للحظات تمسح خلالها عينيك المتورمتين علك ترى الأشياء كما كانت ... لكنك تنسى أن كل شىء لم يعد كما كان ... فلن تشعر بطعم موسيقى مونامور . التى تذوب فيها عشقا . وهى تتسرب أسفل الجلد مدغدغة كل حواسك منسابة فى ملائكية . محلقة بك بين السحب لترقب من فوقها ليل قريتك الهادىء .. ولن تجلس أنت وأطفال العائلة حول المدفأة فى ليالى الشتاء مستمرئا دفئها الذى يجعل الخدر يسرى فى جسدك بنعومة لتحكى لك جدتك حدوتة الشاطر غريب وهو يقطع آلاف الأميال فوق جواده الأبيض  حاملا سيفه اللامع باحثا عن ست الحسن والجمال وعن زمن آخر أكثر أمان .. ولن تستطيع الهروب من المنزل خلسة متجها إلى الترعة لتجد أسماء فى انتظارك هناك عند الصفصافة لتسبحا معا وتتعلقا كعصفورين صغيرين بأغصان شجرة الصفصاف..
الليل أسود .. الشوارع تمتلأ بالغرباء ... الليلة كل سنة وأنت طيب مولد الطاهرة الشيخة سلمى ... تحدق النظر فى خيوط العنكبوت التى احتلت أركان غرفتك ... يتراءى لك القطار العملاق آتيا من بعيد ... أسود كالشبح ... يخترق سحب ضبابية كثيفة ... وقطعة بشرية عارية .. لايد لها أو قدم ... كلها رأس كبير.. لها عين وفم وأنف وأذن .. تقف أمام القطار ... لاتأبه بصفيره أو بالموت الزاحف أسفل عجلاته ... يمر من فوقها ... يخلفها ألف قطعة أخرى حية .. تنزف دماء غزيرة .. تتألم .. وتقف كلها أمام ألف قطار قادم عملاق يخترق سحب ضبابية ... والقطع الحية لايد لها أو قدم .. كلها رأس .. لها عين وفم وأذن ... تحدق فى تلك القطعة .. تفتش بين رفوف الذاكرة المغبرة محاولا البحث بين جنباتها عن ذلك المكان الذى التقيت فيه بذلك الوجه المرسوم لتلك القطعة البشرية ... لكنك تتوه بين جحافل الزمن وتضيع كالثوانى بين السنين   
والمحقق صرخ فى وجهك فى تشف :
ـ لافائدة من الإنكار فقد ألقينا القبض على كل مجموعتك  
..........
تحاول القبض على اللحظات الراهنة حتى لاينفلت منك العقل غارقا فى ربوع الماضى .. لكنك أبدا لاتستطيع ... تحاول إبعاد أشباح قادمة من بعيد وصور متداخلة . مدققا السمع فى أصوات الميكرفونات الآتية إليك من المولد ..
ياشيخة سلمى مدد   
ياسيدى على مدد   
يارئيسة الديوان نظرة   
وفى الصمت لازلت غارقا .. لكن تفكيرك أبدا كان هناك .. فى أعماق الماضي البعيد
..........
ـ اقرأ لى قصتك الأخيرة
ـ هبينى قبلة الحياة
ـ يالك من طفل غرير
ـ إنها بعنوان " دموع رجل "
ـ دموع مرة أخرى يالى من تعسه
ـ " شعر بوحشة تنتابه وهو يدور بين أركان المنزل حائرا .كل شىء يذكره بها .. صورها ... ملابسها  ... عطرها ... من صورتها الموضوعة فوق خوان جانبى اقترب .. بين يديه احتضنها .. من صدره قربها .. ضمها إليه .. تساقطت دموعه فوق إطارها الفضى .. اختلطت دموعه بوجهها .. وبكت هى الأخرى معه . "
وبعد أن انتهيت من قراءة قصتك شعرت ببريق العين السوداء ينطفىء ... وعندما سألتها عن السبب أجابتك :
ـ لازلت رغم وجودك بين أحضاني تشعر بالغربة
........ وكنتما تلعبان عريس وعروسة . وزفكما الأطفال . وعلى شاطىء الترعة أسفل شجرة الصفصاف خلعتما ملابسكما . ووسط المياه سبحتما معا .. وقالت لك :
ـ أريد الغوص للأعماق فربما عثرنا على منزلنا الكبير
وحاولتما ... وخرجتما مرة أخرى ... انطرح الجسدان الصغيران على الطريق ... هى تبكى وتتقيأ ماشربته من مياه ... وأنت تزيل ماتعلق على رأسها من طين . وطمأنتها إلى أنكما ستصلان لمنزلكما الكبير الذى تحلمان به .. فقط يأتي الحفار ويزيل الطين الموجود فى أعماق الترعة فى العام القادم   
لازلت غارقا فى صمتك ..
تستمع إلى همسات الجيران
ـ ابنك محسود
ـ مفيش غير الشيخة كريمة تعمل له حجابا
تتمنى أن يشفيك حجابها من الألم القابع فى الأعماق .. تتأوه من شدة الوجع صارخا دون أن يسمعك أحد
"رباه لماذا يتحطم فينا كل شىء جميل ؟ "
ـ قصصك ثورية وفى هذا دليل ادانة ضدك
وقبل أن تستقل السيارة مودعا أرض السمارة جاءتك رسالة أسماء
كانت سطورها مرتعشة . ولهيب الأنفاس المحترقة ينبع منها
" أحمد .. سأنتظرك حتى آخر العمر "
..........
وفى نويبع كان طابور الهاربين من الوطن طويلا.. أطول مما كنت تتخيل .. ولم يكن معك سوى حقيبة لم تكن ملكا لك .. بها قلم يتيم وحفنة أوراق قمت بتهريبها من عيون أبيك .. والكثير من أحزان الشاطر غريب .. وقطار أسود عملاق يمزق رأس بشرية حية .. لامعالم لها سوى أنها رأس كبير .. تقف أمامه وتتمزق لألف ألف قطعة .. وتعود للوقوف من جديد فى وجه ألف قطار آخر .. ولاتعرف لمن هذه الملامح الموجودة فى ذلك الوجه الموضوع فى ذلك الرأس .. مع أنك كنت مستعدا ـ ولازلت ـ لأن تدفع نصف عمرك لتعرف ..
..........
ومعك فى رحلتك كنت تحمل هزيمة خفية ..
..........
وصرخ المحقق فى وجهك محتدا وجسدك معلق فى سقف الزنزانة :
ـ لماذا لاتتأوه أسفل السياط أيها الوغد ؟
(2)
تجفف العرق المنحدر فوق وجهك  ... ترتدى النظارة ... وبعد سنوات من الانتظار تنهض من خلف المكتب .. تتقدم خطوات ناحية الباب .... تفتحه ... تقتحم الغرفة أصوات الميكرفونات القادمة من المولد وصفعات هواء رطبة كنت تعشقها فى ليالى الأجازات الصيفية بعد شهور الدراسة فى المنصورة .. يطل الليل الأسود عليك  ... تحدق فى نجوم القرية كأنك تراها لأول مرة ... ترقبها مذهولا وأنت ترى القطار القادم من بعيد يمزق القطعة الحية لألف ألف قطعة .. ولاتعرف لمن هذه الملامح سوى أن لها فم وأنف ... وكانت أنف أسماء تنزف دماء غزيرة بعد أن فقدت توازنها وسقطت وهى تلعب فوق شجرة الصفصاف على الأرض .. ودونما تفكير خلعت جلبابك وأخذت تجفف دماءها .. وفى نهاية اليوم كان نصيبك علقة ساخنة لأنك لم تعترف لأمك بمصدر هذه الدماء التى لطخت ثوبك ..
تغلق الباب خلفك ... تخطو ناحية الشارع  .... فى حذر تشق سواد الليل ... الشارع مظلم .. أضواء الأعمدة خافتة .. المدرسة الابتدائية على اليسار منك ..  مغلقة هى منذ سنوات .. أصبحت آيلة للسـقوط .. تحدق النظر فى الفناء والفصول .. يتراءى لك طفل الأمس وهو يعبث بين جنباتها ....
هنا كنت تلهو مع أترابك   
وهنا كنت تلعب الحجلة   
وهناك كنت تختفى مع أسماء بعيدا عن عيون الأطفال لتعطيها نصيبك من الطعام ... وهنا ضربكما معلم الحساب لأنه ضبطكما تجلسان ملتصقين ... وفى هذا المكتب المغلق طرقعت عصا حضرة الناظر فوق جسدك . لأنك لم تسمع الكلام وتعرض عن كتابة هذه الخزعبلات التى تزعم انها قصص   
وهنا ..
وهنا ..
وأصبحت مدرستك آيلة للسقوط ..
.........
وسقط الحزن دفينا فى الأعماق خشية رؤية زبانية السجن له فيهرولون للأسياد ليبشروهم بالنبأ العظيم .. لكن الحزن استفحل مثل السرطان حتى نهش كل جسدك عندما تحركت " العبارة " من نويبع  .. لحظتها قفز قلبك إلى حلقك مضطربا .. فأخرجت أوراقك وتقيأت آلامك فوق السطور ..  
" أشعر بأن قطعة من جسدى تنفصل عنى يا أسماء .. "..
والشاطر غريب شعر بوحدة وألم فخرج من كتاب الحواديت مضحيا بعرشه وقصره وودع حاشيته ورعيته .. وامتطى جواده الأبيض وبدأ رحلته .
(3)
ـ أحمد أفندى ؟ .. معقولة .. ازيك يابنى
تطرقع السلامات . وتتطاير كلمات الأشواق والتحية
ـ كنا نتابع أخبارك الصحفية وقصصك فى اهتمام
تستأذنه محاولا الهروب من الهوة التى يدفعك إليها دون قصد ..
ودون قصد قررت اقتحام الدرجة الأولى فى " العبارة "   
كانت الشمس حامية  تشوى أجسادكم فى الدرجة الثالثة   
ولايوجد سوى سماء زرقاء ومياه أشد زرقة   
وجوع ينهش البطون   
ووجوه مصفرة   
ممصوصة   
وقلق يكسى الوجوه المتعبة   
وفى الدرجة الأولى خدرك الهواء البارد المنبعث من التكييف .. وموسيقى الديسكو الصادرة من كل مكان .. ورائحة الشواء تفوح فى المكان .. ووسط حلقة من ركاب الدرجة الأولى كانت قنبلة مصر الذرية ترقص على صوت التصفيق .. وعناوين الصحف تتراقص أمام عينيك ..
زلزال يضرب أنحاء مصر
الدول الشقيقة تسارع بالتبرعات
ديون مصر تتزايد
حادث بشع فى العتبة ..
مجموعة من الشباب يعتدون على فتاة أمام المارة
صرف خيام إيواء لمنكوبي الزلزال
مأدبة عشاء احتفالا بعيد الثورة المجيدة
فوز فيفي عبده بجائزة أحسن ممثلة لهذا العام
هروب بعض رجال الأعمال بمليارات الجنيهات
انهيار أسعار الجنيه المصرى
ارتفاع معدلات الفقر فى مصر  
..........
وأقلك الأتوبيس من العقبة إلى عمان .. كانت الصحراء عريضة .. وكنت كحبة رمل تائهة فى قلب الجبال والدموع متحجرة فى العين المرهقة والفراغ ورائحة الموت والوحدة   
والفقر   
والقلم اليتيم  
والأوراق   
وأسماء   
كنت متعبا وفى حاجة إلى النوم .. وندمت لأنك لم تنصاع ذات ليلة لأوامر جدتك وهى تتوسل إليك لكى تنام . لكنك كنت دوما تتمرد عليها وتطلب منها أن تحكى لك حدوتة جديدة عن الشاطر غريب .. فتحاول التخلص من إلحاحك .. لكنك أبدا تأبى الانصياع بسهولة لرغبتها .  
" كان ياما كان .. فى سالف العصر والأوان .. كان فيه فارس جميل اسمه الشاطر غريب .. سجنوه ظلما تحت الأرض وهو فى طريقه للبحث عن ست الحسن والجمال .. الشاطر غريب لم ييأس .. ولم يحزن .. وأخذ يشق طريقا للنور والحرية .. " ..
وبعد أن تنتهى من حكايتها تنظر إليك وأنت هامد الحركة بعد أن خطفك ملاك النوم ... تعدل النظارة فوق أرنبة أنفك . تقف مكتوف الخطى أمام أضواء المولد ... مثلما وقفت أمام سياطهم وهى تكوى جسدك .. وسألت النفس فى حيرة :
ـ من أى عالم استمدوا هذه الوحشية ؟ ..
ورغم تورم أصابعك أمسكت بقلمك وكتبت إلى أسماء ..
 " اعذريني لرداءة خطى يا أسماء .. فالمراقبة على قدم وساق .. ولو ضبطونى وأنا أخط رسالتى إليك لما ترددوا فى قتلى ."
(4)
تفيق من ذكرياتك على أصوات الأغانى والتراتيل والحواة وهم يستعرضون ألعابهم   
قرب   
صندوق الدنيا   
حلو ياعرقسوس   
إنها فرصة لكى ينشغل البال عن أوجاعه ..
و......  
كنت صغيرا لاتزل .. وكان خالك حزينا .. لحيتة طويلة .. شعره مغبر .. وشاربه كث .. وعيونة زائغة .. غائرة .. وكان قادما للتو من معسكر عتليت الإسرائيلي .. كان الوجه به فتحة أسفل الأنف منفرجة عن آخرها ليؤكد سعادته للجميع .. لكنك كنت تقرأ فى عينيه شيئا آخر لم تستطع تحديد كنهه إلا عندما انزلقت من فوق السرير ذات ليلة متوجها إلى الزير بمفردك .. وسمعت نحيب مكتوم فى الصالة   
كان يبكى بحرقة .. واستحلفك ألاتخبرأحدا بما سمعت   
وتمنيت أن تسأله لماذا ؟
وتمنيت أيضا أن تهطل من عينيك مياه مالحة مثل تلك التى كانت تهطل من عينيه .. ولما لم تستطع . سجلت أمنيتك فى قصص كثيرة وجعلت الشاطر غريب يتمنى البكاء بعد أن يلقى برأسه فوق صدر ست الحسن والجمال التى ضحى بعرشه وصولجانه فى سبيلها .  وخرج من كتاب الحواديت بحثا عنها ..
وفى سبيل المستقبل كانت عصا أبوك تنهال عليك كلما ضبطك وأنت تمارس الأدب سرا ... ولم تكن تدرك أنه يعدك للمستقبل على أحسن ماتكون . فقد انهالت عليك عشرات السياط ومئات الأحذية التى أجبروك على لعقها وأنت تبتسم .. وأبيت الانصياع لما يرغبون .. وكانت النتيجة المزيد من السياط .
ـ طول عمرك يا أحمد يابنى دماغك ناشفة
هكذا كانت تقول لك أمك .. وكانت تتوسل إليك أن تترك الصحافة والكتابة وتعيش حياتك زى بقية خلق الله ..
(5)
ومع خلق الله وقفت حول الحاوى الذى خلع سترته .. وابنه يصيح وهو يشعل النيران فى حلقة حديدية أحيطت بعشرات الخناجر:
ـ النمرة الأولى التى سنقدمها الآن هى القفز من هذه الحلقة
ويتراجع الحاوى للخلف   
يمد يديه أمامه   
يهرول ناحية الحلقة الحديدية المحاطة بعشرات الخناجر   
تتأجج النيران عالية   
تتكسر الأظافر   
تتطاير فى الهواء   
الأفواه مقلوبة   
النشوى والمتعة والإحساس بعدم التصديق   
وأقدام الحاوى رفيعة   
والوجه معروق   
انحراف بسيط كفيل بالقضاء عليه   
ماذا لو؟ ....  
عندها ستحدث الكارثة  
..........
ـ هيه .. ماذا لديك من قصص جديدة ؟
ـ " لاعب السيرك "
ـ حسنا اقرأها بسرعة   
..........
ـ ماهذا الهراء ؟
ـ القصة الجديدة ياسيدى
ـ طظ .. لن ننشرها
ـ والسبب ؟
ـ يابنى .. القارىء ليس فى حاجة للمزيد من الأوجاع .. إنه يريد التسلية .. التخفيف عن أوجاعه ببعض البهارات . والتوابل .. والإثارة . والجنس
".... أيتها الأفاعى من خول لكم التحدث باسم القراء ؟ ... "
(6)
ـ والآن جاء دور النمرة الثانية
على حلقة المتفرجين يدور الحاوى ممسكا بين يديه جراب أسود
ـ انظروا لهذا الجراب .. سيخرج منه كتكوت صغير .. الكتكوت سيكبر بسرعة ويصبح مثل الفيل . ويبيض بيضة صغيرة .. البيضة سيخرج منها ثعبان .. الثعبان سيطير ويتجه إلى الكتكوت . وسيأكله . وسيعود مرة أخرى إلى الجراب ويدخل فيه ....
يصمت الحاوى للحظات ريثما يلتقط أنفاسه ويستطرد قائلا :
ـ وإلى أن يخرج الكتكوت من الجراب دعونى أعرض عليكم مفاجأة الليلة  
..........
ولم تكن مفاجأة تهرب الأصدقاء منك وأنت تدور عليهم واحدا إثر الآخر . حاملا حقيبتك التى ورمت أصابعك . وكنت مرهقا . تكاد تموت نوما . وفى غرفة بها تسعة مصريين يتمددون على الأرض فوق حواشى إسفنجية مهترئة كالحة اللون من شدة الاتساخ قالوا لك :
ـ هنا ستقيم  وتستطيع التوفير   
ـ هنا دورك غسل الأواني وشراء الخضار    
ـ هنا لابد أن تستيقظ من النوم فى الخامسة صباحا حتى لايغضب عليك ولى نعمتك   
ـ وهنا لا أوراق أو قلم   
ـ فقط الدولار   
و......  
ـ الدولار أيها الوغد سهل المنال .. فقط حاول أن تفهم
وكنت تفهم مايرنو إليه المحقق بكلماته   
ولم يكن أبدا فى حاجة لأن يستطرد وهو يقرصك من خدك قائلا :
ـ هناك نوع آخر من الكتابة بإمكانك ممارسة طقوسه . وستأكل منه ماتشتهى
ولم يكن يعرف أنك لاتشتهى شيئا .
(7)
وانتبهت كل حواسك للحاوى لتعرف أى مفاجأة دبرها للمتفرجين الليلة  
ـ عنبر .... عنبر يشفى من كل الأمراض .. من الصداع .. من المغص .. والحسد .. والالتهاب الرئوي .. والبرد.. والقلب .. والروماتيزم .. والخضة .. والضعف الجنسى .. والعقم .. لايوجد فى الصيدليات . اخترعه أحد أولياء الله الصالحين . نام ذات ليلة وجاءه هاتف فى المنام وأخبره بمواصفات هذا العنبر .. مثله يباع فى الصيدليات بمائة جنيه . لكننا لن نفعل ولن نبيعه بمائة أو خمسين . أو حتى عشرين .. أو جنيه .. انه وببركات الست الطاهرة الشيخة سلمى . بخمسة وعشرين قرشا فقط .. هيه .. من يقول أنا ؟
ورغم الصداع وأوجاع القلب . وآلام سياطهم الكاوية . لاتلقى بالاﹰ للعنبر . وتظل منتظرا خروج الكتكوت لتعرف كيف يتسنى للثعبان الخروج من بيضته ؟
ـ هه ! . أنت تخرف . بل وتحلم بالمستحيل .. كيف يمكنك تغيير المجتمع دفعة واحدة ؟
وكان المستحيل أن تظل يتيما بلا كتابة . فتتحسس الطريق أسفل ظلمة الغرفة الرطبة متحاشيا الاصطدام بثمانية عشر قدم لتسع جثث غارقة فى النوم من شدة الإرهاق .. وفى ركن قصى منها تقبع متقوقعا على نفسك .. تنزف أدبا ودماء وحزنا كبيرا قادما من الأعماق .. وسطورا مرتعشة ..
..........
" أوه يا أسماء الحبيبة ..
أفتقدك كثيرا .. لقد نجح هؤلاء الأوغاد فى إبعادي عنك . لكننى حتما سأعود ..
ـ اطفىء النور يا أخ
وتحتضن أوراقك وقلمك وتذهب للجلوس أسفل عمود نور بالشارع أمام الغرفة   
وحاولت أن تكمل الرسالة لأسماء . لكنك أبدا لم تستطع . كان القلب مظلما والفكر لايزل حائرا باحثا عن إجابة لسؤالك الذى ألقيته لأسماء ذات يوم ورأسك ملقى فوق صدرها وأنتما أسفل شجرة الصفصاف :
ـ خبرينى بربك يا أسماء لماذا تتجسد بشاعة زمننا فينا ؟
ولم تجد سوى دموعها إجابة ... وهمست فى رقة :
ـ خبرنى أنت ياعمرى .. لماذا دوما تزيد من لوعتى ؟  
(8)
تتوه بين الذكريات حائرا . مثلما أنت تائه الآن فى المولد .. تستيقظ على وجه عادل رياض وهو يخترق المولد وحوله المئات من أهالي السمارة . والهتافات تنزلق على جسده الضخم
تنتخبوا مين ؟
عادل بيه
وحبيبكم مين ؟
عادل بيه
ويفتح ذراعيه عن آخرها بعدما لمحك وسط الزحام . كالذئب الذى يلمح فريسته على مسافات طويلة .. وتستشعر الخطر يحدق بك بين الذراعين المفتوحتين عن آخرها .. أمام الجميع يحتضنك فى مسرحية سمجة مرددا كلمات كثيرة لاتذكر منها سوى . الشباب المثقف .. الواعى .. و.. سنلتقى .. وتمنيت أن تصرخ فيمن حولك صائحا ..
ـ إلي متى ؟  
نفس السؤال بادرت به خالك وأنت تراه يذوى غارقا فى أوجاعه . وقال لك وهو يربت على كتفك الصغيرة :
ـ عندما تكبر ذات يوم ستعرف ماذا يعنيه الخرس والهزيمة
وذات يوم سألتك أسماء :
ـ متى سيعثر الشاطر غريب على ست الحسن والجمال ؟
لحظتها لم تجبها بثمة كلمة وغرقت كعادتك فى أوجاعك   
وتتمنى الآن أن تعيد على مسامعك نفس السؤال .. ولو حدث لأسرعت على الفور مجيبا عن سؤالها :
ـ عندما يخرج الكتكوت من جراب الحاوى .. ويخرج الثعبان من بيضة الكتكوت
وذات يوم تذكره قالت لك :
ـ أرجوك يا أحمد أفق لى ولو للحظة
وكالمخدر أجبتها :
ـ وأى فائدة ستعود علينا من الانتباه فى زمن الكل مأمور فيه بالتناوم والهزيمة ؟
ـ أحدهم طرق بابنا .. وأبى قرر تزويجى له
ـ لقد فقدت كل شىء منذ أمد بعيد
ـ العريس عربيد
ـ الجميع سكارى بلا نبيذ صدقينى . وأنا أول السكارى
ـ أنا أحبك أيها المجنون
ـ كل شىء منذ أمد ضاع يا أسماء
ـ أحمد أيها الحبيب أنت بعيد عنى .. ماذا حدث لك ؟
ـ أفقدونى إحساسي بالحياة .. وطعم السعادة .. حتى قلبى تمرد على جسدى
ـ أنت لست أول الذين تم اعتقالهم فى سبيل قضية آمن بها
ـ ............
ـ أحمد أرجوك أفق لى للحظة واحدة . أنت تضيعنى منك
ولم تفق ..
وليتك فعلت   
وفى غيبوبتك ظللت تائها   
(9)
ـ يا أهلا وسهلا يا أحمد بيه . السمارة كلها نورت . اتفضل . ادخل الخيمة .. ونورها
تدخل الخيمة
أصحاب الطريقة الأحمدية    
رايات خضراء تغلف جدران الخيمة من الداخل . تتداخل الأصوات والكلمات
حيوا القمر حيوا نبينا
ياحاضرين تشفع فينا
مداااااااد ..
مدد يا أبو الفتيان ..
ياسيدى أحمد البدوى مداااااد
ـ ارقينى ياشيخة كريمة
ـ قوم ياراجل أنت مثل الحمار
ـ سمعونا الفاتحة لسيدى أحمد البدوى
..........
" بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم .. مالك يوم الدين ..... "
..........
 " وعندما أدرك أحمد البدوى أن الحجاج بن يوسف الثقفى مات . انتقل من المغرب قاصدا مصر .. واتخذ طنطا مقاما له . وفوق سطح أحد المنازل التقى ببعض المريدين الذين اصطنعهم له أحد أتباعه . لقنهم الأحاديث والخطط . وتحت ستار الدين كان يسير . كان الرجل يخطط لإعادة الحكم للشيعة مرة أخرى وتخفى فى ثوب رجال الدين . خلف لثام على وجهه أخفى معالمه . أشاع المريدون أن من حاول رؤية وجهه مات على الفور . وبذلك ضمنوا ألا يحاول أحد ما رؤية وجهه . وفى كل البقاع انتشر الأتباع ليقصوا للعالم بركات وكرامات سيدى أحمد البدوى .كان الرجل يخطط بذكاء ودربة وحنكة سياسية وحيثيات عديدة تؤهله للوصول إلى المبتغى . لكن القدر لم يمهله . لكنه على الجانب الآخر أصبح رمزا للنضال الدينى والمعجزات التى لايستطيع أحد التصدى لها .. "
..........
ـ كافر .. ملحد .. زنديق
يلتفت إليك والى الشيخة كريمة الحضور .. تصرخ المبروكة فى وجهك :
ـ هذا المعتوه لم يقرأ الفاتحة لسيدى البدوى
ـ والنبى قرأها ياست
ـ محصلش
ـ أنا شايفة
ـ وأنا حاسة بيه .. نظرات الشك فى عينيه
تحمر العيون من حولك . تنفرج الأفواه وتنقلب . يهمس الجميع مبتهلين إلى الله أن يصفح عنك ......
و......
..........
" مات أبو الفتيان . فانقطعت عن الأتباع والمريدين أنهار العسل والذهب التى كانت تنبع من جيوب الأحباب والمصدقين . وهم تلاميذ الرجل . سول لهم عقلهم الاستفادة من موته . نشروا عنه الكرامات والمعجزات . أشاعوا فى الناس أنه يشفى من قبره المرضى ويبرىء حتى الأكمه والأبرص . وأصبح الرجل كعبة يحج إليها المريدون ذوو الحاجات . وفى صندوق النذور تنهال آلاف الجنيهات وتصب فى جيب المستفيدين بما فيهم الدولة التى أصبحت تحتفى . لابالمولد . بل بكرامات صندوق النذور .... "
" صراط الذين أنعمت عليهم .. .. .. "
ـ سأقول الحقيقة للناس
ـ سيرجمونك بالطوب
ـ ولو
" غير المغضوب عليهم . ولا الضالين . آمين "
(10)
ـ والنبى ماتزعل من ستنا الشيخة يا أحمد أفندى
تعدل من نظارتك محاولا إخفاء خجلك وشفتيك تنفرج عن شبح لابتسامة مقتولة . فى فتور تحتسى الشاى الذى أصروا عليه . تتحرك العين فى محجريها وتقفز داخل الخيمة . تصطدم بالأرض المزروعة رجال ونساء وأطفال . البعض منهم نيام . والبعض يتمايل مع الإنشاد والتراتيل . تتساءل عن غريزة الجنس ونظريات فرويد ؟ . وفى المنتصف كانت هناك حفرة مليئة بجمرات من النار . والجوزة على الأحباب تدور .
مثلما دارت ذات ليلة من ليالى الشتاء الباردة . والثلوج متراكمة فى الطرقات . والغرفة احتشدت بكم أنتم العشرة . وتطايرت سحب الدخان وتحلقت حول الرؤوس .  ورغم كراهيتك لرائحة الدخان . إلا أنك فى تلك الليلة عشقته .  فقد كنت تشعر بالبرد جمرات ملتهبة تزحف أسفل جلدك . وتتحول معها إلى كتلة ثلج . والدخان دافىء . والغرفة مغلقة . والملابس أفاعى فوق المسامير . والجدران باهتة ….  يرتعش الجسد وهى تقترب منك . تقفز فوقك . تلدغك ..
آه .. الجدران تنطبق فوق الصدر   
تصرخ … يحتبس صوتك   
تهتز الأشياء من حولك   
" أحمد .. تأخرت رسائلك عنا "  
عرق بارد يلف الجسد   
ـ أى أجر تريده أيها المصرى المتسول ؟
 ....  ضحكات شيطانية تسمعها حولك
" أحمد أيها الحبيب .. لقد ضيعتنى وضيعت آخر ماكان يربطنى بك"
 " أحمد .. عد بسرعة أتوسل إليك قبل أن تكتشف عائلتى الفضيحة . بطنى تكبر . والفضيحة على وشك الانفجار "
الدخان كان يحاصرك   
يقبض على صدرك   
تمتد أذرع أخطبوطية إلى عنقك   
الدخان ثقيل   
والصدر يشتعل   
والقطار قادم من وسط الدخان   
تحدق فى الرأس الذى يتحطم ويتحول إلى ألف رأس   
يقف الجميع . جميع الرؤوس فى مـواجهة القطار   
يغرق كل شىء فى الدم   
الصور تتداخل   
و......  
أسماء   
وطفلكما القادم من المجهول   
والفضيحة   
والسجن   
والظلام   
وصرخات المعذبين   
و ........
 " أسماء أنا متعب .. متعب يا أسـ.... "
ـ إنها حمى ولابد من أسبوع راحة
وقالوا لك وهم يستقبلونك فى ميناء نويبع :
ـ حقائبك مكدسة بالكتب . وهذا أمر لايبشر بالخير
تخرج من الخيمة
(11)
ـ ياأهل قريتى الطيبين . تأكدوا أن ثقتكم فى عادل رياض لن تضيع أبدا هباء . وسوف أعمل جاهدا من أجل مصلحة السمارة .
سأرصف لكم الطريق الواصل بين السمارة والقرى المجاورة   
سأشيد لكم المستشفى المركزى الذى ترغبون   
ومركز الشباب الذى يحلم به أولادكم   
والمعهد الدينى   
والمسجد ....
و....
و....
وعندما شعرت أن الأدب لامكان له بين وسائل الاعلام شمرت عن ساعديك لتحارب بأسلحتهم
ـ كل أديب صحفى . وليس كل صحفى أديب
هكذا كنت تقول   
والصحافة فجرت الأرض من أسفل أقدامك عندما بدأت حربك مع عادل رياض وقدت حملة صحفية ضد فساده . وقال لك ذات يوم :
ـ اسمع .. لماذا لانقتسم السمارة معا ؟
وكان الرد الطبيعى نشرك للمزيد من أباطيله وانحرافاته   
واختفت الجريدة من المحافظة كلها   
وأمام بيتك ألقت سيارة مجهولة بكل الأعداد . ومعها رسالة شفوية من عادل رياض يقول فيها :
 " لكى توقن أننى قادر على ابتلاعك أنت وجريدتك . "
وحاولت أن تخبر أهالى السمارة بالحقيقة   
والحقيقة أنك كنت متعبا والمحقق يستجوبك على بوابة الوطن الذى ظننت أنه سيحتضنك بمجرد وصولك  لكن حتى هذا الحضن بخل به عليك . وقال المحقق :
ـ سنؤمن بوطنيتك .. فقط قل لنا مارأيك فى حرب الخليج ؟
وقبل أن تؤكد له أن … يستطرد :
ـ ومارأيك فى موقف الأردن من الأحداث ؟
وعندما حاولت أن تجيبه بأن .. عاد قائلا :
ـ ومظاهرات الطلاب فى مصر .. مامدى رد فعلها فى الخارج ؟
وقبل أن ....
ـ ومامدى انعكاس القرارات التى اتخذتها مصر على الفلسطينيين هناك ؟
و......
ـ وماذا عنك ؟ هه .. !
و......
ـ ماهى الرسالة التى حاولت توصيلها للقارىء من خلال شخصيتك القصصية " الشاطر غريب " ؟
......
ـ وأسماء .. إلي أى مدى كانت علاقتك بها ؟
......
ـ لاداعى لإخفاء أية معلومات عنا . فنحن نعرف عنك كل شىء .. هل تعلم ماذا يعنى كل شىء ؟
......
ـ يكفى أن تعلم أننا نعرف المدى الذى وصلت إليه هذه العلاقة . فقط نحن نحاول التأكد من مستوى صدقك معنا
......
ـ حتى أنفاسكما رصدناها
......
ـ هيه .. لماذا لاتتحدث ؟
......
وتركته يثرثر وغرقت فى نوم عميق . فقد كنت متعبا . والرحلة خارج الوطن كانت مرهقة . وكلمات أبيك ترن فى أذنيك :
ـ عشقك للقلم سيجلب لك المزيد من المتاعب والفشل
" فشل المفاوضات الثنائية بين الأطراف
" أطراف صناعية للكلاب
" الكلاب البوليسية فى أسيوط
" أسيوط على حافة بركان بسبب الإرهاب
" الفتايات يتعرضن للإغماء المفاجىء
" انهيار عمارة مصر الجديدة
" الجديد فى الأسواق من أدوية الضعف الجنسى
" وسط فيفى عبده يحدث أزمة داخل الحكومة
" سوق شرق أوسطية  .................
تغمض عينيك للحظات لتتمكن من الرؤية   
صحف .. وعناوين .. وسطور  
ترى الأشياء مجرد كتل هلامية المعالم لاحدود لها . تحاول تمييز أى منها . ولاتستطيع .. عرق وكتل ثلجية تزحف فوق الصدر .. تقنع النفس أن ماتراه مجرد هلاوس وهذيان ....  
وكان خالك يهذى وهو يرتعش ويطلق كلمات غير مفهومة .. عن الحرب والموت ورمال سيناء . والضياع وسط صحراء مترامية الأطراف . وآلاف الجثث ......
(12)
ـ تم زفاف أسماء ليلة أمس
يارب السموات .. كيف حدث ذلك ؟.. ولماذا الآن ولم يكن قبل مجيئه السمارة ؟
ـ أنت تعلم بتقاليد البلدة .. زفاف أكبر عدد من الشباب ليلة مولد الطاهرة تيمنا ببركاتها
يا إلهى .. مستحيل ... لاأصدق ......
..........
" لماذا لاتصدق يا أحمد ؟ ..
ألست مثل كل فتايات العالم ؟..
أليس من حقى أن أحلم بمنزل يأوينى وإياك؟..
يحمينى من عيون الآخرين ؟ "
" صدقنى إن لم تعد خلال أيام فإنني سوف ...... "
تحاول التذكر .. كل شئ مشوش
" ثمرة اللحظات المجنونة أخذت تتحرك فى أحشائى .... "
تقلب فى رفوف الذاكرة مجهدا
" أحمد .. أفكر جديا فى التخلص من الجنين عند طبيب بقرية برقين .... "
وتبحث ......
" أحمد . تخلصت من الجنين .. لم تعد كما توسلت إليك .. وكثيرون يطرقون بابى .. ولم يعد لدى أى مبررات أعرقل بها زواجى .. حتى لو وافقت على أحدهم . فماذا لو اكتشف اننى .... "
..........
ويصرخ خالك والعرق يلفه :
ـ نحن لم نقاوم .. اعترضوا على ذلك .. شربنا المقلب وحدنا .. لم تنفعنا المساعدات والضحايا التى قدمناها للأشقاء .. وعندما عدنا من التيه فى الصحراء . حذرونا من التفوه بأية كلمة .. ولأننا تعودنا على الخرس والهزيمة فقد صمتنا .. لأننا فقدنا القدرة على الكلام .
..........
وكانت ليلة لاتزال تذكر معالمها رغم السنين   
كانت السمارة هادئة   
ليلها ساكن إلا من صفعات صيفية رطبة   
اتجهتما معا إلى شجرة الصفصاف   
جلستما   
تحدثتما فى أشياء كثيرة   
الحديث الوحيد الذى لم تتطرقا إليه هو حديث أبيها لك :
ـ وهى الكتابة يابنى لامؤاخذة بتأكل عيش ؟.. هتشترى لبنتى شقة بكام قصة ؟.. والثلاجة هتشتريها بكام مقال من بتوعك اللى بتكتبهم فى ( الجرنان )
ولم تكن تملك سوى قلبك ومشاعرك .. وحفنة أحاسيس مجنونة   
كنت متعبا ياصاحبى وهى مثلك تماما   
ألقت برأسها فوق صدرك وأجهشت بالبكاء   
دموعها كانت غزيرة   
مالحة   
أحاطت بذراعيها حول جسدك ..
كانت يدها مرتعشة .. وكانت فى حاجة إليك .. وكنت فى حاجة إليها .. وامتدت الأيدي تكسر كل الحواجز .. لأول مرة شعرت بجسدها أسفل أصابعك ..كنت تتحسس كل الجبال والأنهار .. والأشجار .. قطعة من النار كانت .. وقطعة من الثلج كنت .. واقتربتما .. صعدت أصابعك إلى وجهها .. جففت دموعها .. ارتعشت شفتيها .. ملت عليها .. التصقت الشفاه وأبت التراجع .. التحم جسديكما أكثر .. تأوهت فى خدر .. تمنيت أن تحطم ضلوعها بين يديك ......
ـ أحمد .. أرجوك
همست بها إليك فى توسل .. لكن الوقت قد فات .. فقد كان جسدها بين يديك يحاول التخلص منك دون جدوى .. يحاول التخلص من سطوة العقل .. من كلمات أبيها .. حتى منك . ومن الواقع . وفتشت الأصابع عن جدران الملابس واقتحمتها .. أسفل الجدران كانت يديك  
يا الله ......
أى فردوس هذا الذى تقترب منه ؟
لم تكن تدرك أنها بهذه الروعة .. زحفت الأصابع أسفل لتزيل الحجب واحدا إثر الآخر .. تمزق الستائر .. تدمر كل شئ يحول بينك وبينها .. واستغاثت بك باكية
ـ أحمد ... احترس
لكن الصوت الذى كنت دوما حريصا على أن تلتقطه . وتلتقط كل أنفاسه . غاب عنك لأول مرة . وتفصد عرقك غزيرا ... واختلطت دموعها بعرقها بجسدك بشعرها .. وتاهت معالم جسدها أسفلك .. ودقات قلبك تعلو وتعلو   
ثم وأنت تقترب من لحظة العشق والجنون   
لحظة اقتراب السماء من الأرض  
لحظة تساوى الجحيم بالفردوس   
لحظة الميلاد الحقيقية   
لحظة العودة إلى البدء   
ظهر القطار الأسود من بين السحب .. ولأول مرة خشيت على الرأس التى كانت تعترضه . وظهر خوفك فى ارتعاشة يديك التى ضممت بها أسماء بقوة .. وسمعت صرختها تدوى من أسفلك :
ـ أحمد ......
ولاتدرى شيئا بعدها . سوى أن الشاطر غريب كان متعبا من رحلة الطريق . وآن له أن يستريح .. وأفقت لتجد أسماء بين ذراعيك عارية .. وملابسها متناثرة حولك وهى تبكى .. والجسدان يتصببان عرقا .. والصفصافة عالية .. ومياه الترعة فى انتظاركما لتغتسلا من أوجاع الزمن الماضى .
(13)
ـ قتيل يا أهل البلد
صرخة شقت زحام المولد .. أفقت من غفوتك على أثرها .. أصوات متداخلة لاتميز منها الاالقليل
ـ استرها يارب   
ـ الذرة ياعالم   
ـ حرام عليكم دى زرعة السنة دى   
ـ لطفك يارب   
ـ أنا عارف إيه اللى جرى للسمارة بس يا أولاد ؟  
تتجه خلف الآخرين .. يصدمك حصار مضروب حول جسد مسجى على الأرض بجواره امرأة تتشح بالملابس السوداء وهى تبكى :
ـ بنتى حبيبتى
الصوت تعرفه .. لكن
ـ  أبوك عملها فيك ياضنايا
تتجمد مكانك غير مصدق
ـ  وسع يابهيم منك له . البيه رئيس المباحث وصل
تقف مذهولا ..
ـ أبوها هو اللى قتلها يابيه
كيف ؟  
ومتى ؟  
ولماذا ؟  
ألف سؤال يدور فى الرأس حائرا
ـ ليلة امبارح كانت دخلتها
يارب السموات  
ـ عريسها وجدها ......
تشعر باقتراب أقدامك من حفرة عميقة
ـ حاول أبوها يعرف مين السبب ؟
آه .. ها أنت تقترب …. تزوغ عين أمها بين الحضور .. اهرب بسرعة قبل أن ...
يبدو أنه لافائدة   
ـ أحمد أفندى ؟
انكشف المستور ....
ـ أحمد يابنى .. انت كنت بتحبها
يا الله ...... مابال التيار هذه المرة عنيفا ؟
ـ وكنت عايز تتجوزها .. لكن أبوها الله يسامحه بقى
ومن يسامح زمننا الضائع ياسيدتى ؟
ـ شفت عليها أو سمعت عنها حاجة وحشة يابنى ؟
ها أنت خصم وحكم .. القاضى والجلاد .. القاتل والمقتول معا ....
ـ أبوها هو اللى قتلها يابيه
" وكنا صغارا يا أسماء ..
وكان حلمنا صغيرا   
منزلا صغيرا   
ووطنا صغيرا يحمينا من برد الشتاء   
ومن لهيب الصيف   
من عواصف الحياة   
ومياه الترعة لم تكن أبدا عميقة
وكان الطين كثيرا
والصفصافة هناك
والفراق
والغربة
والرحيل
ـ اقبضوا على المتهم
هل كان يجب أن نحلم يا أسماء ؟
ـ هاتوه من تحت الأرض
حتى الحلم البسيط أصبح صعب المنال فى وطن يضيع فيه كل شىء
ـ إلى أين أيها الصحفى الهمام ؟
تلتفت إلى رئيس المباحث وأنت تخلع نظارتك . مجففا دمعة أبت السقوط مؤكدا له أن لديه جريمة قتل .. وتحقيق .. وأنت مرهق .. فيؤكد لك هو الآخر باعتداد وثقة وهو يشعل سيجارته . أن كل شىء فى جريمة الليلة واضح المعالم . والمجرم معروف
ـ تمام ياسعادة البيه . قبضنا على المتهم
يقول وهو ينظر إليك مؤكدا بطرفى عينيه صدق ماقاله لك منذ قليل :
ـ رحلوه على المركز
ثم وهو يتابع إجراءات الترحيل :
ـ هؤلاء الأوباش يحكمون على عفاف حريمهم بغشاء البكارة
وفى سخرية :
ـ حسنا وماذا بعد زواج الفتاة ؟. هه ؟
تشق المولد وحدك عائدا أدراجك من حيث أتيت . تشعر بأنك تواجه جيشا من الغزاة بمفردك .. تحارب فى صف أوله يبدأ وينتهى بك .


يتبع...

إضافة تعليق جديد