حوالي عام 250 ق.م، كتب المؤرخ البابلي "بروس" أول كتاب عن سومر، وكان ما جاء في كتابه هذا، مزيجاً من الخرافات والأساطير، فلقد تحدث فيه عن جيل من الجبابرة، أتوا من الخليج، ليقطنوا بلاد ما بين النهرين, ويُدخلوا فيها فنون الزراعة والكتابة وطرق المعادن، وكان على العالم أن ينتظر ألفي سنة قبل أن يتسنى له الكشف عن بلاد سومر، وعن أسرارها الغامضة وقصصها العجيبة التي لا آخر لها.
الآثاريون يكتشفون مدن سومر
ففي عام 1854 كشف عالمان إنكليزيان النقاب عن مواقع مدن سومر: "أور" و"أريدو" و"أوروك".
وفي أواخر القرن التاسع عشر كشف العلماء الفرنسيون النقاب عن مدينة "لاغاش"، كما تم الكشف عن مدينة "نييور" أو" نُفَّر".
وفي عام 1929 نقب الآثاري الإنكليزي ليوناردو ووللي، والأستاذ في جامعة بنسلفانيا، في مدينة "أور" العتيقة التي أنشأ فيها السومريون حضارة لهم قبل 4500 سنة ق.م.
في هذه المدن السومرية القديمة، سكنت أجناس مختلفة الأصول، كانت تتصارع فيما بينها، أقوام غير سامية تسعى للاحتفاظ باستقلالها، وهجرات سامية تزحف من مدينة "كيش"، صاحبة أقدم ثقافة عرفت في تلك البلاد، ومن "أكاد"، وغيرهما من مراكز العمران الشمالية، وكانت هذه الأجناس المتصارعة، تتعاون دونما سعي أو إرادة منها، لتقيم قبل عام 4500 ق.م، صرح حضارة هي أول ما عرف في التاريخ من الحضارات الإنساية ، وهي أعظم تلك الحضارات اتساعاً وشمولاً وإنشاءً وإبداعاً.
السومريون أوجدوا الخط المسماري
كان السومريون أول من أوجد وطور الكتابة التي عرفت فيما بعد بالخط المسماري، ذلك الخط الذي اقتبسته عنهم معظم شعوب الشرق الأدنى القديم.
ففي عام 1877، بدأ الآثاري الفرنسي دوسارزيك أولى التحريات الآثارية في ربوع وادي الرافدين وفي تلك الربوع، في موضع سومري قديم يدعى "تلو"، كشف هذا العالم النقاب عن الكتابات السومرية بأنواعها المختلفة.
التنقيب في نُفَّر
ثم بعد عشر سنوات، أي في عام 1887، بدأت البعثات الأميركية بالتنقيب في موضع سومري آخر قديم، يدعى "نُفَّر" يقع على بعد 100 ميل تقريباً، عن مدينة بغداد، واستمرت في التنقيب حتى عام 1900 ميلادي، فكشفت عن عشرات الألوف من الكتابات السومرية.
ثم أرسلت، في عام 1948 بعثة تنقيب أميركية خاصة لاستئناف الحفر في مدينة "نفر" بعد مضي حوالي نصف قرن على التنقيبات الأولى.
حضارة وادي الرافدين
ولقد أثبتت الكشوف الآثارية كلها، التي تمت في ربوع الشرق الأدنى عامة، وفي بلاد وادي الرافدين خاصة، أن الإنسان الأول انتقل في تطوره، من عهود الفطرة والبدائية، إلى تجربة مثيرة، غيرت حياته، وذلك عندما أنشأ الحضارة الرائدة وأسس المدنية، وأن حضارة وادي الرافدين أثرت في كافة حضارات الشرق الأدنى القديم.
حضارة وادي النيل
وكانت هنالك، في وادي النيل، حضارة مماثلة تنمو وتزدهر وتتفاعل مع حضارة وادي الرافدين, كانت بلاد الشام تشكل ملتقى لهاتين الحضارتين ومكاناً لتفاعهلما.
الشام ملتقى
في هذا الجزء من العالم، الآهل بالسكان والزاخر بالثقافات المختلفة أنشئت الزراعة والتجارة والمركبات، وسُكت النقود، كما نشأت الحرف والصناعات والشرائع وعلوم الحساب والهندسة والفلك، والطب ، وعرفت الحروف الهجائية والكتابة، واخترع الورق والحبر، وألفت الكتب، وشيدت المدارس والمكتبات، وفيها نشأت عقيدة التوحيد، ووحدة الزواج.
الآريون أخذوا الحضارة عن بابل ومصر
عرفت كل هذه الأشياء، ومنها استمدت أوروبا ثقافتها على مدى القرون عن طريق كريت، واليونان، والرومان ويقول ول ديورانت: "إن الآريين لم يشيدوا صرح الحضارة، بل أخذوها عن بابل ومصر، وإن اليونان لم ينشئوا الحضارة إنشاءً، لأن ما ورثوه منها أكثر مما ابتدعوه، وكانوا الوارث المدلل المتلاف لذخيرة من الفن والعلم، مضى عليها ثلاثة آلاف من السنين، وجاءت إلى مدائنهم مع مغانم التجارة والحرب، فإذا درسنا الشرق الأدنى، وعظمنا شأنه فإننا بذلك نعترف بما علينا من دين لمن شادوا بحق صرح الحضارة الأوروبية والأميركية، وهو دين كان يجب أن يؤدى منذ زمن بعيد".
إنجازات سومر الرائدة
وإننا لنجد في حضارة سومر، التي تعود جذورها إلى ما قبل عام 4500 ق.م، أول ما أسسه الإنسان من دول، وما أنشأه وأقامه من إمبراطوريات، وأول نظم للري، وأول استخدام للذهب والفضة في تقويم السلع، وأول كتب القانون، وأول من أوجد الكتابة، وهي أروع ما خلفه السومريون من فنون، ذلك لأنهم أوجدوا الكتابة وطوروها، ولقد عرفت فيما بعد بالكتابة المسمارية، التي اقتبستها عنهم معظم شعوب الشرق الأدنى القديم.
كما أننا نجد في حضارة سومر أولى المدارس والمكتبات، وأول أدب وأول شعر، وأول أصباغ التجميل والحلي، وأول النحت والنقش البارز، وأول القصور والهياكل، وأول استعمال للمعادن في الترصيع والتزيين وكما أنهم تميزوا بهذه الإنجازات الحضارية المادية، فإنهم تميزوا أيضاً بالإبداع الروحي، وذلك حين كتبوا قصص الخلق، والطوفان، ولقد تسرب فيما بعد الكثير من هذه الأفكار، وهذه التصورات، إلى معتقدات الديانتين العبرية والمسيحية.
ولم تكن تلك الإنجازات التاريخية، الرائدة من مادية وروحية، الميدان الوحيد الذي كشفت عنه الوثائق السومرية، بل كان هنالك كنز طبي تاريخي عظيم، كشفت عنه تلك الوثائق: وهو أول دستور للأدوية عرفه الإنسان.
الكشف عن كنز طبي عظيم
ففي عا م1954، نشر العالم "صموئيل كريمر" الاختصاصي في الأبحاث السومرية وأمين القسم البابلي في متحف الجامعة في فيلادلفيا، في الولايات المتحدة الأميركية نشر تقريراً أولياً يصف فيه وثيقة طبية منقوشة على لوح من الطين، اعتبرت أول وصفة صيدلية في تاريخ البشرية، ولقد عكف "كريمر" على ترجمة هذه الوثيقة الهامة، وبمقارنتها مع النصوص المكتشفة سابقاً، تبين له أنها ترقى في تاريخها إلى الربع الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد، وأنها لا تتضمن، في وصفاتها الطبية المدونة فيها أي أثر لتعاويذ أو رقى سحرية.
أقدم كتاب في الطب
ترك لنا هذه الوثيقة التاريخية، طبيب سومري اسمه غير معروف، ارتأى أن يجمع ويدون أثمن وصفاته الطبية، لفائدة زملائه، الأطباء، ولفائدة طلابه أيضاً، فهيأ لوحاً طرياً من الطين طوله 15.9 سم وعرضه 9.5 سم، وبرى قلماً من القصب، نهايته مثلثة كالإسفين، ونقش بالخط المسماري، المستعمل في ذلك الزمان أكثر من اثنتي عشرة وصفة طبية من وصفات الأدوية المفضلة عنده.
ولقد بقيت هذه الوثيقة الطينية، وهي أقدم "كتاب موجز" في الطب عرفه الإنسان، بقيت مطمورة في خرائب مدينة "نُفَّر" طوال أكثر من أربعة آلاف عام، إلى أن أظهرتها إلى الوجود بعثة تنقيب أميركية وجاءت بها إلى متحف الجامعة في فيلادلفيا.
قصة الطوفان
عندما قدم العهد بحضارة سومر، حاول الشعراء السومريون، حوالي عام 2300 ق.م، استعادة تاريخ بلادهم القديم، فكتبوا قصصاً عن بداية الخليقة، وعن الجنة، وعن طوفان مروع غمر هذه الجنة، فخربها، عقاباً لأهلها على ذنب اقترفه أحد ملوكهم الأقدمين، وتناقل البابليون ثم العبرانيون قصة الطوفان هذه، التي أصبحت فيما بعد جزءاً من العقيدة المسيحية.
وقبل حدوث الطوفان، أي قبل عام 2348 ق.م، وقبل أن يترك إبراهيم الخليل أرض أور، إلى حران في شمالي سورية، ويصبح فيما بعد التوراتي الأول، كان هنالك في "أور" ثقافة سبقت حتى السومريين، وتجلت في صنع الآنية الفخارية المزينة بالرسوم والصور الدقيقة، ثقافة قامت ونمت على شروخ ضفاف الفرات الغنية بالطمي، ثم حدث فيضان النهر فيما بعد ليغمر معالم تلك الثقافة.
ولقد اتفق علماء الآثار، ولزمن طويل، على أن قصة الطوفان، كما جاءت في سفر التكوين، الإصحاح السابع، من كتاب العهد القديم، استندت في أساسها إلى الأسطورة السومرية التي يعود أقدم نص لها إلى أكثر من 2300 عام قبل الميلاد.
حضارة سبقت السومريين
إلا أن العالم السير "ليونارد ووللي" وجد سنة 1929 الأدلة على حدوث الطوفان، وبرهن على أن الأمر ليس مجرد أسطورة أخذت عن أسطورة، نبش ووللي قبور مدافن الملوك، في بلاد ما بين النهرين، وأصبحت لديه القناعة بأن الحضارة المتقدمة التي كان أولئك الملوك يمثلونها لابد أنها كانت تعود إلى حضارة سابقة في ماض بعيد، فعمَّق الحفر عبر أنقاض تلك المدافن حتى وصل إلى طبقة من الطين الفخاري، نظيفة ومتجانسة من أولها إلى آخرها، وذات بنية تشير إلى أنها وجدت وبسطت هناك بفعل المياه.
وكان العاملون مع ووللي يصرون على أن هذه الطبقة من الطين، هي النهاية هي القعر، ولا شيء بعدها، وأن عليها شيدت المنازل الأصلية لذلك الموطن، ولكن ووللي لم يكن مقتنعاً بذلك، حيث أن الطبقة كانت أعلى بكثير من المستوى الذي عليه الفيض الأصلي.
لذلك طلب إلى العاملين المضي في الحفر، فشقوا الطين الفخاري، إلى عمق ثمانية أقدام وهنا وجدوا أنفسهم أمام حضارة أخرى، أعرق في القدم ، هي حضارة "أور" التي أغرقها الطوفان، وغمرتها مياهه.
وإن الطوفان القادر على أن يرسب ما ارتفاعه ثمانية أقدام من الطين الفخاري لهو طوفان عظيم وكاف لإقناع أولئك الذين نجوا منه وبقوا على قيد الحياة، بأنه طوفان أغرق العالم كله، ويقدر العلماء بأن ذلك الحدث يعود إلى 2700 سنة قبل الميلاد.
عندما يموت الملك يدفن معه أتباعه
وفي المدافن الملكية في مدينة "أور" وُجدت، في قبر اكتشفه المنقب الإنكليزي "ليوناردو ووللي" عام 1929، ثروة مدفونة فيه، منها قارب من الفضة الخالصة، طوله 65 سم وارتفاعه 20 سم في حالة جيدة يدعو للدهشة، ويرتبط وجود هذا القارب بتصور السومريين لمياه تحت الأرض، التي على الميت اجتيازها ليصل إلى العالم الآخر.
ومن هذه الثروة أيضاً لوحة من الفضة، قيمة جداً، وتعتبر مثلاً رائعاً لفن الترصيع الراقي عند السومريين، وتتكون زخرفتها من 20 حقلاً مربعاً، تحمل مناظر وأشكال وتزيينات من الصدف واللازورد، وفي داخل صندوقها سبعة أحجار صدفية، مع رسوم محفورة عليها.
وما هو هام في الأمر، هو أن "ووللي" وجد، إلى جانب الثروة المدفونة في القبر، أدلة على أن شعب "أور" كان يقدم لآلهته الأضاحي من الأحياء، فعندما يموت الملك أو الملكة أو أحد أفراد الأسرة الملكية، تدفن معه ثروته، وكذلك يدفن معه أتباعه، يلحقون به إلى الحياة الأخرى في موكب ينزلق عبر منحدر من الأرض إلى نفق يؤدي إلى حُفر الموت الجماعي المعدة لهم وكانوا يدفنون أحياء.
66 هيكلاً من النساء
وفي حجرة طولها 37 قدماً وعرضها 24 قدماً وجدت الهياكل العظمية للأتباع وعددها 57 هيكلاً من النساء، ممددة على أرضية النفق وستة لمحاربين في مدخل الممر على رؤوسهم خوذ من النحاس، كبيرة وإلى جانب كل منهم رمحان، وتقف وراءهم عربتان بأربع عجلات، جر كل منهما ثلاثة ثيران، وقد وجدت هياكلها العظيمة ممدّدة أمام العربتين، وباتجاه مدخل المدفن.
كما وجدت بمحاذاة أحد جدران الحجرة، هياكل عظمية لتسع من النسوة تغطي رؤوسهن عمرات مرتبة ترتيباً جيداً، لم يمسسها أو يغير من شكلها شيء، سوى ضغط التراب عليها، وتزين تلك الرؤوس حلي وحلقات من الذهب، وأكاليل من اللازورد والعقيق، ووريقات ذهبية، ومشابك شعر من الفضة، وحلية بشكل أمشاط على مؤخرة رؤوسهن وحلي في أعناقهن، وهنالك رأس ثور من الذهب وأدوات وترية وزخرف مرصع من الواجهة الأمامية بقيثارة كبيرة مما يدل على أن النسوة كن موسيقيات في حاشية الملك.
قرابين إلى الآلهة
وكانت هذه الهياكل ممدّدة على أرضية المدفن في صفوف مرتبة ترتيباً، متقناً، مما لا يدع مجالاً للشك في أن ذلك قد تم دون أن يصحبه عنف أو خوف، وهذه الحال، لم تكن لتبدو على هذا النحو، لو أن أولئك النسوة ضُربن على رؤوسهن أو طُعنَّ بسكين أو عانين من النزع بالاختناق، فالأدلة كلها، كانت تؤكد أنهن لم يقتلن خارج الحفر، وأنهن تطوعن للتضحية بأنفسهن كقرابين تقدم إلى الآلهة.
شربوا شراباً منوماً
لذلك كله، نرى أنه إذا ما أوكل إلى خبراء بالجنائيات والطب الشرعي، أمر التحقيق في أسباب وفاة أصحاب هذه الهياكل العظمية المعبرة، والتي تكاد أن تنطق وتحدثنا أحاديث يعود تاريخها، إلى 4500 سنة خلت، فلسوف يكون قرار هؤلاء الخبراء هو كالتالي:
"إن حاشية الملك، من خدم، وحراس، وأتباع، وندماء، اختاروا الموت مع ملكهم ومليكتهم طوعاً، وبملء إرادتهم وإنهم انتظموا في صفوف مرتبة، ثم شربوا شراباً منوماً، قوي التأثير، وناموا نومهم الأبدي، وإن أحد الأتباع نزل الحفرة، وقام بكل رفق وبكل عناية بترتيب الحلي، والقيثارات المعلقة فوق الصدور، والأوراق الذهبية، المزينة للعمرات، قبل أن تطم الحفرة بالتراب.
وإذا ما سلمنا بحقيقة وجود العقاقير المخدرة والمنومة عند السومريين، مع وجود وسائل الزينة والتجميل التي اكتشفت في حجرة الملكة، في المدافن الملكية في مدينة "أور"، فلابد لنا أيضاً من أن نقبل بحقيقة وجود نوع من النظام الدوائي "أقربازين" فيها، وفي كل من ممالك أريخ وكيش ولاغاش.
ولقد ثبت بالفعل وجود مثل هذا النظام عندما أُخرجت إلى النور، وثيقة مدينة "نُفَّر"، التي يرقى تاريخها إلى الربع الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد، والتي اعتبرت أول دستور للأدوية عرفه الإنسان.
د. جوزيف كلاس
(الباحثون)