كان الصوت المدوّي الذي رافق تحطم الزجاج هو الذي أثار بي الدهشة قبل الرعب، فأنا لم أعرف السبب. وكنت واقفاً في البهو الكبير لمستشفى الكلمة بحلب، قبل دقائق من منتصف النهار في يوم 17 حزيران ، حيث دوى الانفجار، الذي عرفت بعدها أنه ناتج عن قذيفة هاون سقطت على بعد أمتار من الباب الداخلي للمستشفى
انتشلني صوت رفيقي الذي كان قريباً مني، ولكنه كان أبعد عن موقع سقوط الهاون، عندما قال لي: "ان صدرك ينزف
كنت قد انتبهت الى الدماء التي تغطي ساعدي الأيمن، وبعدها نظرت الى صدري فرأيت القميص حيث تكبر بقعة الدماء عليه، وهنا لم أشعر كيف أن الناس تجمعت حولي للاطمئنان علي، ثم أخذوني الى قسم الإسعاف، وأنا أردد بشكل ببغائي: "أنا بخير...لا يوجد شيء....لا تخافوا"
في ممر الإسعاف، كانت الأضواء مطفأة بالكامل نتيجة الهاون، فقد انقطعت الكهرباء بسبب توقف المولدات عن العمل، كما أن الغبار كان يعج بالممر، فقدرت أن الهاون أصاب شيئاً في طابق الإسعاف، وعلمت بعدها بأن المخبر هو الذي أصيب وتضرر بشكل كبير
كان الخوف يهيمن على الجميع ثم رأيت امرأة ممدة على حمالة متحركة والممرضين يتراكضون وهم يجرونها الى التصوير وسمعت همهمة أن حالتها خطيرة، وعلمت أنها خالة زوجتي
كنت انتظر بعض الشخصيات التي تعمل في الحقل الإغاثي والعلمي إضافة الى فضيلة أخي الشيخ الدكتور محمود عكام مفتي حلب، الذي بعد الحادثة بلحظات حضر الى المستشفى ثم الإسعاف حيث أراحتني كلماته المشجعة وقراءة بعضاً من آي الذكر الحكيم
أخبرني الأطباء أن إصابتي هي عبارة عن شظايا دخلت في جسدي وهم سيقومون بإجراء التصوير اللازم لمعرفة الحالة بشكل دقيق
وبعدها قاموا بإجراء خياطة الجروح، بعد إصراري أني أريد متابعة اللقاء الذي كان مخططاً له، فالبسوني رداءً خاصاً بالعمليات، وسمحوا لي بمتابعة اللقاء مع بعض رؤساء الجمعيات الخيرية والفعاليات العلمية ومفتي حلب
كان المستشفى يضج بالحركة حيث أُعيدت الكهرباء وانتهت مرحلة الصدمة التي رافقت سقوط الهاون. والكادر التمريضي عاد الى عمله وزال الخوف وكأن شيئاً ما لم يحدث، سوى إعلامي بنبأ استشهاد خالة زوجتي، والذي أصابني بالحزن العميق
انتهى اللقاء والجميع يصر على وجوب أن أرتاح وأتابع العلاج، خاصة وأن بقعة الدماء في الصدر كانت تكبر على لباس المرضى الذي أرتديته، وبعد أن أصررت على توديع الجميع، اصطحبني الأطباء الى الإسعاف مرة أخرى حيث تم أخذ بقية الصور الشعاعية وأعمال الخياطة الجراحية وتضميد الجروح ووضع جبصين لليد، حتى يتم اتخاذ القرار بإجراء العمل الجراحي لنزع الشظايا
انهالت علي المكالمات الهاتفية – وأحبها كانت الاتصالات المتعددة لسماحة الأخ الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين حسون مفتي عام سورية - للاطمئنان علي، خاصة بعد أن نشرت المواقع الالكترونية خبر إصابتي تحت عنوان "إصابة مستشار مفتي سورية"، وكانت زوجتي ترد على هذه الاتصالات لأنني كنت في حالة من النوم العميق نتيجة الأدوية المتنوعة
صحوت بعد منتصف الليل وبقيت في الفراش، وبعدها جاءني اتصال من شخص قال لي مباشرة: "الم تفطس بعد؟
فأجبته بهدوء منحني الله اياه في هذه اللحظات فقلت : "الحمدلله اني بخير" واغلقت الجهاز
وكتبت على صفحتي الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي هذه الجملة التي أثق بأن الله أوحاها الي، ثم نمت
في اليوم التالي كنت قد اتخذت قراري، بعدم نزع الشظايا إذا كانت لا تؤثر علي، والتي توزعت واحدة في ساعدي الأيمن والثانية في مرفقي تماماً والثالثة في صدري
وبعد عدة أيام أعلمت الأطباء أني لن أنزع الشظايا، بعد أن تأكدت منهم أنها لا ولن تؤثر علي
أنا أحمل هذه الشظايا الآن، لا لشيء إلاّ لكي تذكرني بالمحنة التي تعانيها سورية
لتذكرني بأن الموت الذي يحيطنا من كل جانب، هو الذي يحيط كل الشعب السوري
بأن الخوف من المستقبل أصبح مساوياً للخوف من المجهول
بأن الهاون هو جزء من معاناة حلب التي تتراوح بين قطع الكهربا والمياه والتشريد والنزوح والكثير غيرها
وبأن معاناة أبناء حلب بشكل خاص لا يتابعها مسؤولي حلب بنفس الأهتمام الذي يتابعون به صورهم البهية في الاعلام
وبأن...
وبأن....
"الم تفطس بعد؟"
لا لم يشأ ربي أن أموت الآن، لأني أراهن على الحياة لكل شعبي ولخدمته ولبناء بلدي
إضافة تعليق جديد